محاكمة الشيخ محمد متولي الشعراوي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بسم الله الرحمن الرحيم
(أولا )
بمناسبة قرب صدور عددها رقم 100 أقامت جريدة الدستور المصرية أيام تألقها محاكمة لأكبر الرموز المصرية فى خمس مجالات، هم الشيخ الشعراوى فى مجال الدين، والاستاذ محمد حسنين هيكل فى المجال الصحفى وعادل إمام فى التمثيل،والوزير كمال الشاذلى فى العمل السياسى و الحزبى ونجيب محفوظ فى الأدب. ونشرت الدستور كل كلمة قيلت فى المحاكمة فى عددها الصادر رقم 100 بتاريخ الخامس من نوفمبر سنة 1997.
وقد حضر المحاكمة جمع غفير من الصحفيين و المثقفين والعاملين فى منظمات المجتمع المدنى. كان رئيس المحكمة الاستاذ حسين أحمد أمين مع عضوية إثنين من الصحفيين الكبار، وتم اختيار ممثل للادعاء وممثل للدفاع فى محاكمة كل واحد من هذه الرموز، يكون كلاهما فى نفس مجاله وتخصصه.
وكان سهلا محاكمة عادل إمام، وكان عادل إمام سعيدا ـ بلاشك ـ فى وضعه فى قائمة العمالقة، ولم يكن صعبا محاكمة الوزير كمال الشاذلى الذى كان يتعرض ـولايزال ـ للانتقادات. وكان مؤلما محاكمة نجيب محفوظ، وكان صعبا ـ على معظم الحاضرين وهم من الناصريين و اليساريين ـ محاكمة هيكل. لكن كان مستحيلا محاكمة الشعراوى ـ لولا وجودى مستعدا للقيام بدور الادعاء ضده.
قبل هذا التاريخ 1997 وبعده دخل السجن والمعتقل بعض المؤلفين والباحثين بأحكام قضائية و بقانون الطوارىء بدون محاكمة لمجرد أنهم انتقدوا الشيخ متولى الشعراوى. كانت الأمور أسوا عام 1997. كان أحمد الشعراوى قد تولى بنفوذ أبيه رئاسة مجمع البحوث الاسلامية فى الأزهر، فتحول المجمع الى أكبر آلة للقمع الفكرى والمصادرة. هذا مع أن تعيين أحمد الشعراوى فى هذا المنصب كان مخالفا لقانون الأزهر نفسه، حيث لم يكن حاصلا على الدكتوراة، ولم تكن له مؤلفات أو بحوث أو أى سيرة علمية أو بحثية تؤهله لأى مسئولية فى الأزهر فكيف برئاسة مجمع البحوث. ولكنه نفوذ أبيه الشيخ متولى الشعراوى وقتها. ومعروف أن مجمع البحوث هو المرجعية الدينية لجهازمباحث أمن الدولة المصرى، ويأخذ هذا الجهاز المرعب تعليماته من مجمع البحوث فيما يخص الفكر الدينى و مصادرة الكتب وخلافه. وبالتالى فان من ينتقد الشيخ الشعراوى فلن يرحمه ابن الشيخ الشعراوى الذى يراس مجمع البحوث بالأزهر، هذا إذا تسامحت أمن الدولة نفسها مع التعرض للشعراوى بالنقد، وقد كان من الخطوط الحمراء التعرض له. وقد تكرر أن حذرنى من نقد الشعراوى بعض ضباط أمن الدولة، وكانوا يقولون إنهم يرأفون بحالى ولا يريدون لى المزيد من ( البهدلة ).
كانت تلك الأفكار تمر سريعا أمامى حين اتصلت بى جريدة الدستور لأذهب الى المقر المؤقت لنقابة الصحفيين لأمثل دور الهجوم على الشيخ الشعراوىـ مقابل أحد الشيوخ الذى سيقوم بالدفاع عنه أمام المحكمة.كان الوقت بالذات يذكرنى بمرور عشر سنوات على ما أسميه بمعركة المطرية ليلة الخامس من نوفمبر سنة 1987 حين أرسل وزير الداخلية زكى بدر جيشا صغيرا مدرعا حاصر معظم حى المطرية الذى أسكن فيه لكى يقبض على شخصى الضعيف الذى لا يملك سوى قلم جاف.
قلت لنفسى هل ستعود أيام نوفمبر 87 ؟
صممت على الذهاب لأنه لا يستطيع أحد غيرى مناقشة فكر الشعراوى من داخل الاسلام. لو جاءوا بغيرى من الشيوخ ووجد الشجاعة ليقف مهاجما الشعراوى فلن يهاجم الشعراوى وانما سيدافع عنه. والمجىء بأحد العلمانيين ليهاجم الشعراوى معناه مصادرة جريدة الدستور مهما كان الأمر. أى لا بد من وجود شيخ أزهرى لهذه المهمة، وإلا فلن تكون هناك محاكمة للشعراوى من الأصل، وبذلك تفقد المحاكمة أهم عنصر فيها،ويظل الموضوع الصحفى ناقصا أهم ما فيه، وهو اسم الشعراوى الذى كان وجوده ووجود صورته على أى مطبوعة كفيل برواجها.. فكيف أذا كان محاكمة له ووجود الشيخ الأزهرى المتمرد يهاجمه بالاسلام ؟.
قررت الذهاب وليكن ما يكون، ليس حرصا على الدستور وأرقام توزيعها، وليس حرصا على اكتمال المحاكمة، ولكن دفاعا عن دينى الاسلام العظيم الذى اختطفه الشعراوى وأمثاله من شيوخ الأديان الأرضية ( لم أكن أجرؤ وقتها على قول هذا المصطلح ). كانت فرصتى الحقيقية لأقول بعض المسكوت عنه وأجد من يسمعنى وينشر لى بالخط العريض.
وحتى لا أعطى لهم فرصة لتصيد الأخطاء فقد راعيت أن أقول عن الشعراوى أنه ( أخطأ بحسن نية ) حتى لا يقولون إننى أكفره. وقد سبق للشيخ الشعراوى أن أفتى بتكفيرى وأوصى بتطبيق (حد الحرابة بالقتل و الصلب ) على شخصى الضعيف وبقية القرآنيين الغلابة. ونشرت ذلك جريدة اللواء الاسلامى على صفحة كاملة، قبيل القبض علينا فى نوفمبر 87، وكان تمهيدا أو تبريرا للاعتقال أوالقتل، وثمرة مؤامرة كاملة اضطلع بها شيوخ السعودية خصوصا رابطة العالم الاسلامى وزعماء الاخوان والأزهر وقياداته من الطيب النجار الى فرهود وآخرين وبزعامة الشعراوى.والآن جاء دورى لأرد عليهم بالحكمة و الموعظة الحسنة ولأعلمهم الاسلام ومنهجية البحث فى القرآن.
وذهبت ووقفت فى قاعة المحكمة ـ التى أعدوها كمحكمة حقيقية فى المبنى المؤقت لنقابة الصحفيين ـ وارتجلت خطبة ( عصماء ) فى أخطر هجوم على الشيخ الشعراوى.
وصدرت صحيفة الدستور تنقل المحاكمة بحذافيرها.
( ثانيا )
قالت الدستور عن الشعراوى :
ولد في 15 أبريل 1911 بميت غمر محافظة الدقهلية..متزوج وله أبناء وبنات.. حصل على الشهادة العالية من كلية اللغة العربية 1941.. شهادة العالمية مع إجازة التدرس 1943.. داعية إسلامي.. عمل مدرسا في معهد طنطا الديني.. ثم نقل إلى معهد الإسكندرية - ومعهد الزقازيق.. أعير للسعودية 1950 حيث عمل مدرسا بكلية الشريعة بجامعة الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة.. عين وكيلا بمعهد طنطا 1960.. مديرا للدعوة بوزارة الأوقاف 1961 مفتشا للعلوم العربية بالأزهر 1962 مديرا لمكتب شيخ الأزهر 1964.. أستاذا زائرا بجامعة الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة 1970.. مدير عام شئون الأزهر 1975 وزير الأوقاف وشئون الأزهر " 1976- 1978 ".. عضوا بمجمع البحوث الإسلامية..عضوا بمجلس الشورى 1980.. عضوا بمجمع اللغة العربية 1987.. اختارته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بالسعودية عضوا بالهيئة التأسيسية لها..له مئات الأحاديث والمحاضرات والندوات التي حاضر فيها في أنحاء العالم.. كما قام بتفسير القرآن الكريم بصوته كله مجانا للإذاعة المصرية 1980.. جاب أنحاء العالم في لقاءات مع المسلمين بمختلف اللغات.. من مؤلفاته.. كتاب الفتاوى الكبرى.. من نبض الرحمن في معجزة القرآن.. أول كتاب يصدر باللغة الإنجليزية في المملكة العربية السعودية.. له لقاء أسبوعي في التليفزيون المصري.. حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1988.
الادعاء : د. أحمد صبحي منصور
* تضخمت ثروته وأصبح يعيش في قصور رخامية مثل أغنياء النفط.
* تجاهل حقائق الإسلام في العقيدة والشريعة وحقوق الفقراء
* لم يوجه نقده للأغنياء والمسرفين واكتفي بأن تضخمت ثروته، وأصدقاؤه من الأثرياء يعبثون بالأموال.
* لم يعتذر للشعب عندما نهب أصحاب شركات توظيف الأموال أموال الشعب *
الدفاع : الشيخ منصور الرفاعي
* وماله لما يبقي عنده حتى طيارة ؟.. المهم إن فلوسه حلال مش حرام.
* بل اعتمد على حقائق القرآن واستخدم السنة في التفسير.
* يبسط الأمور الصعبة بحيث يفهمها حامل الدكتوراه وحامل الفأس
* الربط بين الشيخ الشعراوي والتطرف ليس في محله ولا يمكن أن يسأل عن أفعال الإرهابيين أو المجرمين.
في محاكمة الشيخ محمد متولي الشعراوي بدأ الادعاء د. أحمد صبحي منصور ادعاءه بقوله:
(أود قبل أي شيء أن أقدم نفسي، فأنا أفخر بأنني مسلم أناضل في سبيل ما أعتقده حقا، وليس لي مشاعر شخصية مع أو ضد الشعراوي أو غيره - وإن كان ثمة اختلاف فهو خلاف رؤى، وأعتقد أنه مثلي يري نفسه أنه على حق.. وينبغي في مثل هذه الاختلافات أن يفترض كل طرف حسن النية في الطرف الآخر.. بعد هذا الاعتذار الذي أقدمه مسبقا أبدا ادعائي بأنه لم تتح في عصرنا فرصة الذيوع والشهرة والتأثير لأحد من علماء الدين مثلما أتيحت للشيخ الشعراوي.. وقد تواكبت شهرته ونفوذه مع علو تأثير ما يسمى بالصحوة الدينية أو الصحوة السلفية وما نتج عنها من اتهام الإسلام بالتطرف والإرهاب والتخلف والتعصب.. وهذا الارتباط بين تأثير الشعراوي والصحوة الدينية والاتهام للإسلام يشير إلى فكر الشعراوي بأصابع الاتهام ويعتبره مسئولا بفكره وتأثيره عما وقعت فيه الصحوة الدينية.. وبشكل عام فإن الجميع يرى أن الشيخ الشعراوي أهم علامة بارزة في تاريخ الفكر الديني في الربع الأخير من القرن العشرين، لذلك تتجسد أخطاء الشعراوي ومسئوليته عما وقعت فيه الصحوة الدينية لأنه بتأثيره ونفوذه كان يمكنه ـ إذا اجتهد وأراد ـ أن يضع هذه الصحوة في مكانها الصحيح في تأكيد وإحياء حقائق الإسلام في العقيدة والتشريع، ورعاية حقوق الفقراء. كان يستطيع ولكنه لم يفعل. وقبل أن نبدأ في توجيه الاتهامات يجب أن نؤكد أن المحاكمة هنا ليست محاكمة لفكر الشعراوي بل هي محاكمة للفكر السلفي بأكمله الذي يجسده الشعراوي.
وبشكل إجمالي فإن الاتهامات الموجهة للشيخ الشعراوي تتجلى في اتهامين: الأول أساسى في أنه تجاهل- بحسن نية - حقائق الإسلام في العقيدة والشريعة، أما الثاني فهو فرعى، في أنه تجاهل حقوق الفقراء لدي الأثرياء.
وبالنسبة للاتهام الأول فقد تجاهل الشعراوي حقائق الإسلام في الألوهية " لا إله إلا الله " وذلك بأن ركز على فكرة تأليه النبي محمد والأولياء وأصحاب الأضرحة حيث يعتقد في حياة النبي الأزلية في القبر، وفي قدرة النبي على التصرف في ملك الله وفي شفاعة النبي وعصمته المطلقة وعلمه الغيب، ويعطي للأولياء من الصوفية - بل والمجاذيب أحيانا - بعض هذه الصفات الإلهية التي لا يوصف بها إلا الله تعالى وحده، وقد تكرر هذا في ثنايا فكره.
إن حديث القرآن عن الصفات الألوهية يأتي بأسلوب القصر القاطع الدلالة في أنه لا يوصف بهذه الصفات إلا الله وليس للنبي شيء منها، ومنها أن الله وحده هو الحي الذي لا يموت ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) وقال الله تعالى لمحمد ـ عليه السلام ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )وخاطبه بالتأكيد بالجملة الاسمية على أنه ميت مثله في ذلك مثل أعدائه الذين سيختصمون معه يوم القيامة عند الله. بل إن تأكيد القرآن على موت النبي محمد جاء أكبر من تأكيده على موت خصومه، حيث جاء الخطاب المؤكد للنبي مواجهة، وضمير المخاطب أعرف من ضمير الغائب، وبالتالي فالتأكيد على موت النبي أقوى من التأكيد على موت أعدائه. وقد كان المشركون في مكة يعتقدون في حياة الأولياء في القبور حياة خالدة، فقال تعالى للنبي " وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ).
وكان المشركون يقدسون الأولياء المدفونين تحت الأنصاب ويحجون إليها في الموالد، وحرم القرآن الأكل من الطعام الذي يقدم نذراً للأولياء الأحياء وإلى سدنة الأنصاب.. في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) كما أوجب القرآن اجتناب الأنصاب لأنها رجس من عمل الشيطان. ولكنهم لم يجتنبوها لأنها أقيمت تحت مسمى آخر هو الأضرحة، وقد تجاهل الشعراوي كل هذه الحقائق وسارت حياته وفكره بين هذا الضريح وذاك. ومن المنتظر بعد وفاته أن يقام عليه قبر مقدس !!.
كما أن الله تعالى هو صاحب التصريف في خلقه ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ )، وهو قد يعطي بعض الأنبياء آيات دليلاً على النبوة مثل موسى وعيسى عليهما السلام ولكن النبي نفسه لا يملك شيئا من هذه الآيات ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، ومحمد لم تكن له معجزة أو آية سوى القرآن، لذلك حين سألوه آية قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )
ولله وحده علم الغيب: ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) وبعض الأنبياء أعطاه الله العلم ببعض الغيب كعيسى ويوسف وحينئذ يعلن النبي تلك الآية، ولكن النبي محمدا لم يعطه الله علم الغيب بل أمره تعالى بأن يعلن أنه لا يعلم الغيب (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) وإذا كان النبي لا يعلم الغيب فكل الأحاديث التي فيها غيبيات لم يقلها النبي مثل أحاديث قيام الساعة والشفاعة والمستقبليات، والنبي كذلك لا يعلم أحوال اليوم الآخر، لذلك فإن أحاديث الشفاعة كاذبة من أساسها لأنها تتضمن الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله..وهناك أكثر من خمس وعشرين آية قرآنية تؤكد أن النبي لا يعلم الغيب ولا يملك التصريف في ملك الله، وقد تجاهلها الشعراوي كما تجاهل ما يؤكدها في سيرة النبي من تعرضه للأذى وتخطيطه للهجرة والغزوات وقد باشر ذلك بجهده البشري دون معجزات أو خوارق أو علم للغيب.
وتجاهل الشعراوي كذلك الآيات التي تؤكد بشرية الرسل ووقوع الأنبياء في الخطأ والتي تؤكد أن عصمة النبي مقيدة بالوحي فقط. وفي ذلك قوله تعالي : (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ) ونسبة العصمة الكاملة للنبي فيها تأليه له لأن الله وحده هو المنزه عن الخطا والنسيان، ولكن خطاب الشعراوي الديني تجاهل حقائق الإسلام في أنه لا إله إلا الله، فضاعت الخطوط القرآنية الفاصلة بين الله تعالى ومخلوقاته.
وتجاهل الشعراوي كذلك حقائق الإسلام في التشريع، ولن أتحدث هنا عن تجاهله لقيمة المصدر الإلهي في التشريع وهو القرآن، فهو لم يخض في هذا الموضوع طويلا وإنما أتحدث عن سيره خطوة خطوة وراء الفكر التراثي والذي ركز علي الأوامر والأحكام وتجاهل مقاصد الشريعة الموجودة في القرآن. فقد سار الشعراوي على منهج السابقين من الفقهاء في تجاهل حقائق التشريع الإسلامي حيث تجاهل مقاصد التشريع..فالتشريع الإسلامي ثلاث درجات، هى : الأوامر أى الأحكام التشريعية وهى تدور في إطار القواعد التشريعية، وهذه القواعد تدور بدورها في إطار الغايات والأهداف أو المقاصد التشريعية. فالعبادات ليست هدفا في حد ذاتها، لكنها وسيلة لهدف أعظم وهو التقوى، ذلك فالقرآن لا يأمر بالصلاة فحسب ولكن يأمر بإقامتها والمحافظة عليها لكي تكون وسيلة للتقوى ويقول الله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )، ونفس الحال مع الصوم والحج. وفي زى المرأة نجد الأوامر متتابعة من غض البصر وارتداء الخمار، وهذه الأوامر وسيلة لقاعدة تؤكد على العفة واجتناب الفواحش، وكل ذلك يدور في إطار التقوى. والأمر بالقتال يخضع لقاعدة تشريعية هي أن يكون القتال في سبيل الله أي عدم الاعتداء وأن يكون القتال لمنع الاضطهاد والفتنة وهي الإكراه في الدين. فالتشريع الإسلامي له درجات من الأوامر إلى القواعد ثم المقاصد ولا يصح أن نتجاهل درجة منها أو نركز على إحداها دون الأخرى، ولكن الذي حدث أن الفقه التراثي قام بالتركيز على الأوامر والأحكام إلى درجة التفصيل والاختراع لصور فقهية وأبواب كاملة بدون داع، وذلك على حساب المقاصد التشريعية العامة من التقوى أو خوف الله والتيسير ورفع الحرج.
والصحوة الدينية المزعومة استرجعت لنا ذلك الفقه التراثي بمنهجه وتفصيلاته، وكان الشعراوي متصدرا في التشدد والتركيز على الأوامر والأحكام دون مراعاة المقاصد، وتجلى ذلك في فتاواه عن نقل الأعضاء وفوائد البنوك وغيرها.. ولكن الخطر الأكبر هنا أن التركيز على الأوامر والأحكام، وإهمال القواعد والمقاصد ينتج عنه التطرف والإرهاب والفساد والانحلال الخلقي، ويسير ذلك كله ضمن منظومة متكاملة للتدين السطحي المظهري وكلها تؤدي إلى اتهام الدين الحقيقي بتلك التهم، فالصلاة والعبادات حينما تتحول إلى هدف في حد ذاتها، وليست وسيلة للتقوى تصبح وسيلة للرياء والنفاق والفساد بادعاء الدين. والتركيز على ارتداء الخمار إلى درجة تشريع النقاب مع إهمال التقوى يؤدي إلى تحويل النقاب إلى ستار للانحلال الخلقي. والتركيز على أوامر القتال مع تجاهل المقاصد يؤدي إلى سفك الدماء والإرهاب مع اعتقاد القاتل أنه يجاهد في سبيل الله بقتل أبرياء من المواطنين.
وقد كانت العصور الوسطى عصور التطرف والتعصب والحروب الدينية والمذهبية ومحاكم التفتيش واستبداد الخليفة الذي يعتقد أنه يملك الأرض ومن عليها، والفقه التراثي الذي صيغ في هذه العصور كان انعكاسا لذلك التطرف والظلم. والصحوة الدينية المزعومة - بقيادة الشعراوي - حين أرجعتنا إلي هذا الفقه التراثي أوأرجعته إلينا سببت لنا المعاناة من تسويغ التطرف والإرهاب وسفك الدماء ومن انتشار فكر الحظر والمنع والتشدد ومن ملاحقة المفكرين والمبدعين والمثقفين بالمحاكمات والمصادرات والقتل والتفريق بين المرء وزوجه، وكل ذلك يناقض تشريع القرآن.. وحين قمت بتبرئة الإسلام من ذلك أفتى الشعراوي في اللواء الإسلامي عام 1987 بأن جزائي حد الحرابة القتل أو الصلب..
ورغم ذلك فإن كل الأخطاء السابقة للشعراوي جاءت بحسن نية لأن عقليته لا تعطيه إلا قدرا محدودا من الاجتهاد ومحصورا في إعادة إنتاج القديم وتقديمه بصورة حديثة مقبولة. وهذا عذره وتلك هى خطورته أيضا، فحين قرأ الشعراوي القرآن وقدمه للناس قرأه بمفاهيم التراث ومصطلحاته وليس بمفاهيم القرآن ومصطلحاته، فاللغة كائن حي ينمو ويتطور وينتشر ويندثر، ولا تلبث اللغة أن تتحول للهجات ثم إلى لغات مستقلة، إلا أن القرآن حفظ اللغة العربية من الاندثار وإن لم يمنع حركتها وتلونها واختلاف لهجاتها ومصطلحاتها بين المذاهب الفكرية والفقهية والعقيدية، فالشيعة لهم اصطلاحات وكذلك السنة والصوفية. وبالتالي فإننا حين نفهم القرآن باللغة العربية السائدة في عصر ما فإننا لن نفهم القرآن لأن للقرآن مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة والتي بدونها لن نفهم القرآن.
وعلى سبيل المثال فإن العصر العباسي كان يفهم التعزير على أنه الإهانة والعقوبة أما في القرآن الكريم فهو النصرة والتقديس، والمكروه كان يفهم على أنه المباح الحلال الذي لا ينبغي عمله، أما المكروه في القرآن فهو الكبائر من المحرمات مثل الكفر والفسوق والعصيان، وكان يفهم النسخ على أنه إلغاء الأحكام أما النسخ في القرآن فهو الإثبات والكتابة والتدوين.. وفي عصرنا شاع مصطلح الإرهاب، وكلمة " ترهبون " " أرهبون " من مصطلحات القرآن ولكن بمعني مختلف، فالإرهاب معنى إيجابي هو حقن الدماء وليس سفك الدماء، وحين يقول تعالى " فإياي فارهبون " "النحل 51" فإنك حين ترهب الله وتخشاه تصبح إنسانا صالحا متقيا تمتنع عن العدوان والظلم والشر وتنهمك في عمل الخير، إذن فالإرهاب هنا إيجابي يساعد على الخير. ونظلم الشيخ الشعراوي إذا طالبناه بأن يخرج عن سياق المألوف المتوارث، ذلك أن سقف الاجتهاد لديه هو مجرد قراءة التراث القديم بصورة جديدة، ولهذا أخطأ ولكن بحسن نية..
أما الاتهام الثاني للشعراوي فهو تجاهل حقوق الفقراء لدى المترفين الأثرياء، وهنا لن نتوقف طويلا مع مقالته عن السادات، " لو كان الأمر بيدي لقلت إنه لا يسأل عما يفعل "، وكلمته عن الملك فهد إنه " ظل الله على الأرض " لأن هذه الكلمات في رأينا تعبر عن معنى أعمق في نفسية الشعراوي وهي الانحياز للأثرياء وملوك الثراء والانفتاح على حساب الفقراء، وذلك نفهم لماذا سجد لله شكرا حين ا نهزم عبدالناصر في نكسة 1967.
لقد تحدث القرآن عن حق السائل والمحروم وحق ذوي القربى واليتامى والمساكين، وعن ضرورة إتيان حق المحصول عند حصاده، كما تحدث عن حقوق ابن السبيل في الصدقة التطوعية، والزكاة الرسمية والغنائم، وابن السبيل هو الغريب المسافر الذي لا يجد مأوى، ومن حقه أن تكون له دار ضيافة حين يمر ببلدة إسلامية، وينطبق معنى ابن السبيل في عصرنا على السياح الأجانب، كما ينطبق على الشباب والأسر التي لا تجد مأوي ومن حقهم أن تبنى لهم الدولة مساكن بسيطة مجانا أو بأثمان بسيطة، كما أن كل مستحقي الصدقة والزكاة لا يشترط في أحدهم أن يكون مسلما، المهم أن يكون فقيرا ومسكينا أو ابن سبيل، بغض النظر عن عقيدته ودينه، وكان المفروض من الشعراوي أن يتبنى الخطاب القرآني في العدالة الاجتماعية، ويستغل صلاته الوثيقة بأثرياء النفط وأثرياء مصر في إصلاح أحوال الفقراء في مصر وخارجها، وكان يستطيع ذلك فعلا خصوصا والرغبة في الخير موجودة وتأثير الشعراوي عليهم مؤكد، وبالتالي كان يمكن إقامة مشروعات لتشغيل الشباب وإسكانهم في بيوت شعبية واستصلاح الأراضي لهم إلى آخر ذلك..
ولكن العكس هو ما حدث، إذ تضخمت ثروة الشعراوي وأصبح يعيش في قصور رخامية، وينافس مترفي النفط مع أن القرآن يسود فيه ذم المترفين والمسرفين..
وهذا الذي حدث يذكرنا بمقارنة مؤلمة، فالدكتور صموئيل حبيب - عميد الطائفة الإنجيلية - وقد توفى مؤخرا ـ وكما يقال توفى فقيرا بعد أن قضى حياة حافلة بإقامة المشروعات الخيرية للفقراء المسلمين والمسيحيين داخل مصر، وكان يجلب لها الأموال من الخارج ومات في إحدى رحلاته لجمع هذه الأموال للفقراء.. فأين الشعراوي من القس صموئيل حبيب ؟!
وأصدقاء الشعراوي من أثرياء النفط كانوا يسرفون في العبث بالأموال بينما يموت أبناء الصومال من الجوع على الطرف الآخر من الساحل ولا يجدون من ينقذهم سوى الصليب الأحمر وبعثات التبشير. بل إن انحيازه لأثرياء النفط جعله يتجاهل الفقه التراثي نفسه وما أكده من أن زكاة الركاز هي الخمس، أي أن زكاة المعادن والبترول 20% من الإنتاج، وتجاهل أيضا ما نعتبره حقا شرعيا لمصر في الزيادة التي طرأت على أسعار النفط بعد 1973، تلك الزيادة التي أتت بها دماء المصريين وكانت النتيجة أن الشعب المنتصر هو الذي ضاعت حرماته تحت وطأة الفقر بالتضخم وعربدة الأشقاء العرب وغطرستهم وإذلالهم للعمالة المصرية..
ولم يجد الشعب المطحون " المنتصر " من الشيخ الشعراوي كلمة تنصفه، كما أن هذا الشعب المطحون لم تصله من الشعراوي برقية اعتذار أو تعزية عندما نهب أعوان الشيخ أمواله في شركات توظيف الأموال، وقد كنا نتمنى أن ندافع عن الشعراوي بافتراض حسن النية في انحيازه للمترفين على حساب الفقراء، ولكن إذا فعلنا ذلك فإن المستمع سيتهمنا بسوء النية..)
المحكمة:
شكرا للدكتور صبحي منصور.. ولكن هيئة المحكمة لديها سؤال واحد قبل أن تنتقل إلى الدفاع، وهو عن علاقة الشعراوي بالسلطة.. فقد أشرت إلى علاقة الشعراوي بالأغنياء والمترفين، ولكننا لم نسمع عن علاقته بالسلطة.. فما رأيك ؟
د. صبحي : إنني لا أفصل بين من يملك السلطة ومن يملك الثروة فهما وجهان لعملة واحدة، وبين هذين الوجهين ضاعت العدالة الاجتماعية وحقوق الفقراء في هذا البلد..
بعد ذلك شكرت هيئة المحكمة د. أحمد صبحي منصور - المدعي - ودعت الشيخ منصور الرفاعي، محامي الشيخ محمد متولي الشعراوي لإلقاء كلمته، والتي بدأها بالشكر للجميع، ثم استطرد مؤكدا أن الشيخ الشعراوي يعد بلا شك ظاهرة لا ننكرها جميعا، حيث جاء في وقت كانت الجموع الإسلامية في حاجة إلى فكره ونضج عقله، والرجل له وعليه.. ولكننا حين نتحدث عنه فسنجد أن فكره يتلاءم مع متطلبات العصر الحاضر، وعندما تكلم الدكتور عن أنه تجاهل حقائق الإسلام نقول له " إن الدستور الإسلامي هو القرآن، والرجل يجلس للتفسير فيمسك بالقرآن ويبدأ من أول سورة كذا وينتهي بنهايتها، فالشعراوي قاريء ومستوعب وعاش عصره وانتقل إلى بلاد متعددة اقتبس منها وسافر إلى بلاد أوربية وأمريكية وأفريقية وعرف مافيها ثم جاء إلى مصر وصاغ صياغة تتمشي مع متطلبات العصر وقدمه إلى الناس كغذاء.
أما إنكار السنة فالرجل لم يقل بها مطلقا لأنه عندما يتحدث في تفسير القرآن يستدل بالسنة، لأن الله تبارك وتعالى عندما قال عن رسوله إنه أنزل عليه القرآن وعلمه مالم يكن يعلم وأنزل عليه القرآن ليبينه للناس، فالرسول هو المبين والمفسر، لذلك فعندما يبدأ الشعراوي في التفسير يبدأ في سياق الأحاديث التي تتلاءم مع الآية التي يتعرض لها الشعراوي.. فمثلا الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ).. فأرباب المذاهب من العلماء والكبار كالشافعي وأبوحنيفة لهم آراء التزموا بالنص وزاد عليها بعض العلماء النية والترتيب وزاد البعض التدليك.. وما شاكل ذلك.. هذه الزيادات اعتبروها من فعل الرسول، وقد صح الحديث عند فلان ولم يصح عند آخر..لذلك فالشعراوي وهو يفسر، يشرح المذاهب جميعا ويقدمها إلى الناس حتي يكون كل فرد من أصحاب المذاهب على بصيرة من أمر دينه..
أما العقائد، فالشعراوي حين يتكلم عن حياة النبي وحياة الأولياء فإن هذا صحيح فالقرآن حين قال في حق الشهداء : (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وقال في حق المجرمين الضالين: ("النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) والرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه أخبرنا أنه حي في قبره وأن الشهداء أحياء، ووقف على جبل أحد ونادى في الناس جميعا أن جبل احد يحبنا ونحبه ائتوه فسلموا عليه، فالذي نفس محمد بيده ما سلم أحد عليه إلى يوم القيامة إلا رد عليه السلام، ولا نعرف كيف ؟، فهذا ما يسمى بالحياة البرزخية، فالنوم مثلا يعد موتا ("اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) فالشخص الذي يحلم تتحرك روحه في البرزخ، وإذا مات الإنسان انتقلت روحه إلى حياة برزخية لا يعلمها إلا الله.. والقرآن حين تكلم عن الشهداء والأولياء منحهم منزلة الحياة عند الله ولكنها حياة مختلفة لا نعرف كيف نقدرها؟ ولكن الله قال (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وأخبرنا أن الشهداء يرزقون رزقا ماديا أو معنويا وكذلك المشركون يعذبون في القبر والله يعلم إذا كان عذابا ماديا أو روحيا.. والشعراوي عندما تكلم عن هذا استنبط من القرآن ونصوصه وأخذ من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن أقوال العلماء.
أما كونه يتردد على قبور الأولياء فإن هذا ليس عيبا لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخرج في صباح بعض الأيام إلى البقيع ويقول السلام عليكم ديار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله لبكم لاحقون، وكان يزور قبور الصحابة، فزيارة القبر كما يقول العلماء بعد عصر يوم الخميس إلى طلوع شمس يوم السبت من كل أسبوع أي من 25- 28 ساعة تأتي الروح لزيارة الجسد والتعرف على الزائر.. فالشعراوي عندما يذهب إلى قبور بعض الأولياء والصالحين فهو نص وارد عن الرسول أنه كان يذهب للزيارة.. وقد وقف الرسول كذلك في يوم بدر وخاطب الجثث وقال يا أبا جهل، فقال له الصحابة يا رسول الله من تكلم إنها جثث، قال ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ولكنهم لا ينطقون، وذهب كذلك الرسول ليزور امرأة ميتة اسمها فاطمة، كانت تقم المسجد وهي امرأة سوداء ليس لها أهل، وأخبر بها الرسول فذهب إلي قبرها وصلى عليها صلاة الجنازة، ثم قال لها ماذا وجدت ؟ فقال له الصحابة يا رسول الله لقد ماتت منذ ثلاثة أيام، قال ما أنتم بأسمع منها لما أقول ولقد أجابتني من وراء القبر، فقالت أفضل شيء وجدته عند ربي قم المسجد أي تنظيفه.. وهو حديث صحيح سواء رضي به من يقول بالسنة أم رفضه، إلا أنه حديث صحيح في كتب الأحاديث، وقال الله في القرآن (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)
وعندما تكلم الادعاء عن علم الغيب وقال إن الشعراوي أسند علم الغيب إلى الرسول ففي الحقيقة لم نسمع ذلك من قبل، لكن من المعلوم أن الله يعلم أن هذا النبي هو خاتم الأنبياء، وليس بعده نبي، فعلّمه بعض الأمور، وكشف له حقائق كونية، لذلك فقد قال الرسول الكثير من الأحاديث التي إذا درسناها نجد أنها تتلاءم مع واقع العصر ومنطق الفكر في هذه الأيام، وهو ما علمه له الله، فالرسول قال عن نفسه لا أعلم الغيب، ولكن الله قال: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ) فهناك بعض الأمور تكون معجزة للرسول بعد انتقاله إلى ربه مثل قوله " ستكون فتن كالليل المظلم.. قالوا وما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله " إلى آخر الحديث..
عندما ربط الادعاء بين الشعراوي والتطرف كان على غير صواب، فالاتهام ليس في محله لأن العالم عليه أن يقول، سواء سمعه الناس أم لم يسمعوه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) أما أن يسمع بعد ذلك أو لم يسمع فهذا ليس واجب العالم.. أما عن محاربة التطرف فإن عمر بن الخطاب قال "الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن " فالله وضع لنا القواعد وقال التزموا بها ستعصمون المجتمع من الخطأ وذلك مثل قانون الحرابة، فالأربعة فتيان الذين اعتدوا على طفلة عمرها 6 سنوات لمدة أربعة أيام في زريبة مواشي ثم قطعوها وشوهوا وجهها بماء النار، فلو أننا نفذنا فيهم كتاب الله فسنجمعهم في ميدان التحرير ونعطي لوالد البنت منشارا ونطالبه بتقطيع أرجلهم وتركهم يوما ثم يقطع أيديهم.. فالشعراوي يطالب بذلك ولكن الدولة هي التي تنفذ ممثلة في السلطة، فالله أمرنا أن نلتزم بأمر الدولة عندما قال: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا)
أما عن اتهام الشعراوي بالانحياز للأغنياء فهو اتهام لم يقم عليه دليل لأن للشعراوي مشاريع خيرية متعددة، ومن أراد فأنا أستطيع أن أريه مشروعات الشعراوي.. ولكنه لا يقوم بنفسه بالتوزيع فلديه رجال يعطي كل منهم 4آلاف أو خمسة آلاف جنيه يوزعهم على الفقراء، أما كون هؤلاء الرجال يستحلون المال لأنفسهم، فالشيخ الشعراوي لا علاقة له بذلك وماله لما يبقى عنده طيارة حتى ؟؟ المهم إنه بيصرف الفلوس دي من الحلال مش من الحرام.أما عن شكر الحكام، فيمكن افتراض انه يشكر الحكام لعل الله يجذبهم إلى طريق الخير والدفع للعمل الصالح أكثر والعطاء المتميز..
رئيس المحكمة :
شكرا للشيخ منصور الرفاعي.. ولكن جذبتني أول جملة في حديثه والتي يقول فيها إن فكر الشعراوي يتلاءم مع احتياجات العصر الحاضر.. وقد عشمتني بسماع المزيد في هذه النقطة تحديدا.. فكيف تفسر ملاءمة فكر الشعراوي مع متطلبات العصر الحاضر ؟
الشيخ منصور الرفاعي :
عندما نستمع إلى الشعراوي نجده يبسط الأمور، فإذا استمع له حامل الدكتوراه ورجل آخر يحمل الفأس، فإن الاثنين سيفهمانه ويعرفان ماذا يقول ؟ لأن اللغة العربية لغة لها عطاءات، فلكل مقام مقال، فالشعراوي حين يتكم في القصاص غير ما يتكلم في الحدود، وإذا كان قد أشار إلي موضوع النقاب ومشاكله فقد رفض الشعراوي النقاب وأكد أنه يقول بالحجاب ، أما النقاب فهو مكرمة، من فعله فعله ومن لم يفعله فلا ضرر.. وقد اعترض الشعراوي على مجلة حواء عندما ذكرت أنه يقول بالنقاب، فهو يرى أنها أمور تدخل في إطار الحرية الشخصية ولا يتدخل فيها إلا بما شرع الله، فالشعراوي عندما يجلس أمام حاكم أو ملك ويجلس مع عامة الشعب، يستطيع الاثنان أن يفهما ما يقوله، فالشعراوي كالبحر يعطي كل من يرد عليه، فيأخذ منه ما يشبعه، وهو باق بعلمه لأنه علم مستمد من القرآن وهو منزل..
رئيس المحكمة
ولكن هذه احتياجات كل عصر وليست احتياجات العصر الحاضر فقط.
الشيخ منصور الرفاعي
هناك فترة - لعلك تشاركني الرأي- مرت علينا كنا نسميها فترة الركود الديني في الستينات، فكان إذا تكلم أي شخص بأي كلام يذهب إلى القسم، وكنا نتهم دائما بأننا ضد الدولة ، وأعضاء الاتحاد الاشتراكي هم من يكتبون ضدنا التقارير، وكم قلنا لوزراء الداخلية إن هؤلاء لا يقرأون ولا يفهمون ما نقول، فإذا كنتم تريدون أن تقيموا الإمام، فابعثوا إليه برجل متعلم ليكتب التقرير، وقد سميت تلك الفترة بفترة الركود والهروب وكنا نهرب من المسجد لكيلا نذهب إلى القسم أو نوقف عن العمل، ولكن منذ عهد أنور السادات والأحوال تحسنت رغم قوله بأنه لا سياسة في الدين.. إلا أننا اجتمعنا معه في القناطر الخيرية، وشرحنا له أن هذه المقولة خطأ ديني فتراجع عنها وقال إنه حاكم إسلامي لدولة مسلمة لأننا قلنا له إن السياسة هي الدين والدين هو السياسة.. كل ما في الأمر أنه لا يصح أن يجمع العالم الناس من خلفه للقيام بمظاهرة مثلا، فهذا خطأ حيث إن علينا الالتزام بقوانين الدولة وأن ننضبط مع التعليمات التي تؤكد على أن لا نثير الرأي العام.وتظهر مشكلة لرجال الدين وهي عدم دعوتهم لأجهزة الإعلام.. فعادة ما يعرض الدين على لسان غير علمائه ولكن يجب أن تتوافر فيمن يتحدث في الدين شروط العمل والإلمام بعلوم الدين..وعندما ظهر الشعراوي وسيطر على قلوب الناس فرحنا جميعا به لأنه يعبر عن رأي الدين الصحيح بمنطوقه ومفهومه.
المحكمة : شكرا للشيخ منصور الرفاعي لدفاعه عن الشيخ متولي الشعراوي.)
(ثالثا )
انتهى ما نقلته الدستور عن محاكمة الشعراوى، وعرضت لمحاكمة الأربعة الاخرين بين الهجوم و الدفاع. وبينما عاش الاخرون فى أمن وطمأنينة لاحقنى الاضطهاد والسب والشتم من النظام والأزهروالاخوان والمتطرفين على السواء.
ليس هنا مجال استعراض ذلك كله ـ وانما أكتفى ببعض الأمثلة الدالة:
1ـ كنت أتوقع أن تثور الاحتجاجات حول ما قلته من أن الشعراوى خالف عقائد الاسلام وتشريعات الاسلام. ولكن الذى أصابهم بالجنون هو جملة جاءت على لسانى أثناء ارتجالى الخطبة متأثرة بسياق الموضوع وحتمية المقارنة،وهى قولى (وهذا الذي حدث يذكرنا بمقارنة مؤلمة، فالدكتور صموئيل حبيب - عميد الطائفة الإنجيلية - وقد توفى مؤخرا ـ وكما يقال توفى فقيرا بعد أن قضى حياة حافلة بإقامة المشروعات الخيرية للفقراء المسلمين والمسيحيين داخل مصر، وكان يجلب لها الأموال من الخارج ومات في إحدى رحلاته لجمع هذه الأموال للفقراء.. فأين الشعراوي من القس صموئيل حبيب ؟!) تفضيل صموئيل حبيب على الشعراوى فى مجال العمل الخيرى أثارت الجميع بما فيهم بعض أصدقائى من المعتدلين وفى داخل جامعة الأزهر. وجاءتنى اتصالات تتبرأ منى، و بعضها بادر بقطع صلته بى ابتعادا عما سيجرى لى من أجل تلك العبارة.
2 ـ الوزير كمال الشاذلى لم يهتم بالدفاع عن نفسه إثر نشر المحاكمة قدر اهتمامه بالهجوم على شخصى الضعيف لأننى هاجمت رمز الاسلام الشيخ الشعراوى، وفهم البعض أن هجومه آت فى سياق إتخاذ أجراء ضدى، ويتم تنسيقه مع الأزهر وأمن الدولة، ويديره الشيخ أحمد الشعراوى رئيس مجمع البحوث.
3 ـ ثم حدث ما توقعته و تحسبت له وهو استدعاء عاجل من أمن الدولة بلهجة رسمية. كان المتحدث معى بالتليفون هو من أسميه ( الضابط بتاعى ) وكان وقتها رئيس فرع القاهرة فى النشاط الدينى. منذ بداية استدعائى لأمن الدولى عام 1985 كان مجرد ضابط صغير، وكان يرانى منذ تعيينه هناك ـ أدخل نفس الغرفة و يستمع الى أساتذته فى الجهاز يحققون معى. وظل هذا روتينا استمر معه بعد أن أصبح هو أكبر رتبة فى الفرع. أى كبر أمام عينى مثل ابن لى ـ واصبح هو المطالب باستدعائى كلما جئت من رحلة من الخارج أو كلما ضغط الأزهر ـ ممثلا فى مجمع البحوث ـ فى التنكيل بى. من الطبيعى أن نمت بيننا صلة إنسانية حذرة كانت تظهر فى لفتاته وهمساته المتكررة لى بعيدا عن المكتب وهو يودعنى يرجونى بالترفق بنفسى، وانه موظف لا يستطيع مخالفة الأوامر، وأنه يأخذ أوامره بشأنى من الأزهر لأنهم مرجعيته الرسمية، وأعلم إنه كان يحاول حمايتى بالقدر الذى لا يضره هو شخصيا. كنت استطيع أن أتبين من لهجة صوته وملامح وجهه كيف يكون الأمر خطيرا، وقد تأكدت من جدية وخطورة الاستدعاء فى التليفون. قلت له:لن آتى. قال : أنا فلان وأنت فلان وممكن أن أرسل لك فرقة تقبض عليك وتحضرك الى هنا. قلت سآتى و لكن ليس الليلة. واتفقنا على موعد اخترته للذهاب. كان كل منا يوجه خطابه فى الحقيقة الى من يتسمعون ممن يهمهم الأمر.كنت حريصا على ألا يظهر جزعى وقلقى فى التليفون. إتصلت بضابط آخر فى الجهاز كان يحرص على النقاش معى فى التليفون ولديه بعض العلم بالتراث والاسلام ـ ويكرر لى عبارة ( أهلا ياغالى ) (وقوله:انت شخصية حادة، من يحبك يحبك جدا و من يكرهك يكرهك جدا ) وهو الذى أعطانى تليفون بيته لاتصل به إذا احتجت اليه. وقد احتجت اليه فاتصلت به وأعلمته بموعد ذهابى الى هناك وضرورة وجوده لحمايتى مما يدبرونه ضدى. وعد بالمساعدة بطريقة أخافتنى أكثر. أعددت ما سأقوله ـ وقدرت إنهم لن يغامروا باعتقالى لأنه سيفتحون بابا للخوض فى موضوع الشعراوى بما يرفع من شأنى وبما يهبط من صورة الشعرانى. وقدرت أن أكثر ما سيفعلون هو الترهيب والتخويف، وهذا ما لن يحصلوا عليه فى التحقيق.
فى الموعد كنت فى نفس الغرفة أمام ( الضابط بتاعى ) كان قد وضع على وجهه تكشيرة تعلن خطورة الموقف. سألنى عما قلته ومن دعانى الى المحاكمة ولماذا ذهبت. قلت انها كانت محكمة علنية ولا شك أنكم حضرتموها وسجلتم كل ما فيها، ثم أنها أصبحت منشورة ومشهورة وحديث الجميع. وما قلته فيها مدعم بالأدلة، وما قاله المدافع عن الشيخ الشعراوى له أيضا أدلته. والقارىء له الحرية فى الاقتناع بهذا أو ذاك، وفى امكانك أن تناقشنى فيما قلت وسأرد عليك موضحا المزيد من وجهة نظرى. بالطبع كان كل نقاشى معه مسجلا و مسموعا لدى أطراف أخرى تتسمع وتتحفز. قال لى : ولماذا ذهبت ؟ هنا ألقيت بقنبلتى التى أعددتها. قلت : ذهبت حرصا على الشيخ الشعراوى. أنا الذى أستطيع أن أناقش الشعراوى فى الدين دون التعرض لشخصه. إن لم أذهب كان من الممكن أن يتحدث غيرى فى الاتهامات الرائجة والمتداولة التى تنتشر بين العلمانيين و اليساريين، والتى تتهم الشيخ الشعراوى بالشذوذ الجنسى.
عندها حدث ما توقعت. دخل الحديث فجاة فى أحوال الطقس وأخبار العيال، والدنيا ربيع والجو بديع و سلم لم لى على كل البتاتيع وقفل لى على كل المواضيع. ثم فوجئت بشاب وسيم يدخل الحجرة، كان هو الضابط الذى اعتاد النقاش معى بالتليفون. دخل مبتسما فاتحا ذراعيه وأخذنى بالأحضان. وقضينا وقتا فى كلام أى كلام.. وودعونى عند المصعد وركب معى ذلك الضابط (التليفونى )، فقال وقد اختفت ابتسامته: أنت نجوت الليلة من خطر كبير.. ولكن لن يتركوك..نصيحة أخيرة ابعد عن الشعرانى و ابوهريرة. وإلا فلن نستطيع الدفاع عنك بعد الآن.. وفهمت حينها أن كلمتى عن شذوذ الشعرانى قد أنقذتهم من حرج الوقوع فى خطأ اعتقالى. انها الكلمة التى أسكتت ابن الشيخ وألجمت لسانه.. وتخيلت لو قامت دولة الاخوان المسلمين الأزهرية السنية السلفية التراثية الشعراوية..هل كنت سأجرؤ على نقد الشعراوى، وهل كنت سأيقى حيا بعدها ؟
( رابعا )
ومرت الأيام واحيل أحمد الشعراوى الى المعاش،ثم مات الشيخ الشعراوى نفسه، وتحقق ما قلته فى هذه المحاكمة. كنت قد قلت (ومن المنتظر بعد وفاته أن يقام عليه قبر مقدس ) وفعلا بعد موته أقيم عليه قبر مقدس..
( خامسا )
آه يا بقر..!!