كتَّاب إيلاف

مقتضيات أمن الدولة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

منذ أزيد من نصف قرن و العالم العربي يعيش هزّات أمنية داخلية متشعبة ومتواليّة إلى درجة أنّ شبح اللاإستقرار بات يهددّ كل الجغرافيا العربية حيث لم يتمكن النظام الرسمي العربي من الحفاظ على الأمن الأمني والأمن السياسي وجعل هذا النظام منهما مبررا للإجهاز على الحريّة في كل تفاصيلها حرية العمل السياسي و حرية الإعلام و حرية التفكير والإبداع و ما إلى ذلك.
وخلال نصف قرن أيضا و أزيد من ذلك و الأجهزة الأمنيّة توجّه أصابع الإتهام إلى الأجهزة الخارجية تارة المخابرات الأمريكية و الفرنسية و البريطانية و الموساد الإسرائيلي أو المخابرات العربية الإقليمية و القطرية وتارة كانت أصابع الإتهّام توجّه إلى الجماعات اليسارية و الإسلامية والراديكالية وغيرها.

ولم نسمع أنّ هذه الأجهزة وجهّت الإتهام إلى نفسها في مسألة الضلوع في عشرات الأعمال الأمنية التي يشهدها هذا الوطن أو ذاك تحت عنوان مقتضيات أمن الدولة حيث تلجأ الأجهزة الأمنية وعندما يحاصر هذا النظام أو ذاك داخليا أو خارجيا إلى القيام بأعمال أمنية الغرض منها إعادة ترتيب البيت الداخلي ولجم المعارضة عن الذهاب بعيدا والعودة إلى الخطاب الوطني الذي كانت السلطات تتغذى وتتقوّت منه لتعمّر أكثر، ولدفع الإرادات الدولية وعلى رأسها واشنطن للتخفيف من الضغط السياسي عليها و الإيحاء لها أنّه إذا إستمررتم في سياسة فرض الإصلاح والدمقرطة فإنّ البديل سيكون أصوليا إسلاميا وهو بديل معادي للغرب و أمريكا على وجه التحديد.

لكن هل يمكن للأجهزة الأمنية العربية أن تفكّر بهذه الطريقة بحيث تعمل بمبدأ الضرر المؤقت لدرء الخطر عن النظام السياسي القائم هنا وهناك!
مبدئيّا يجب الإشارة إلى أنّ الأجهزة الأمنية الإستخباراتية لا تعرف حدودا و لا مقايسس لا إنسانية ولا مبدئية، فكل ما يؤدي إلى تكريس قوة النظام والحفاظ على عموده الفقري تلجأ إليه، و يستوي في ذلك المخابرات العربية و الغربية. ففي كتابه الشهير المخابرات الحديثة يقول هانسون يولدوين :
إنّ نظام المخابرات الصحيح عبارة عن منشأة ذات إمكانات هائلة لكل من الخير والشر، ويجب أن تستخدم النساء والرجال وكل الوسائل، فهي أي المخابرات رقيقة وشرسة تتعامل مع الأبطال والخونة، و هي ترشو وتفسد وتختطف وتقتل، إنّها تقبض على قوة الحياة والموت، إنّها تستغّل أسمى وأدنى العواطف وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية حتى أعظم معانيها والنزوات حى أحطّ مداركها وهي تبررّ الوسائل التي تحققّ أغراضها حتى القتل. إنتهى كلام هانسون.

و في يوم من الإيام كنت في ضيافة ديبلوماسي عربي في عاصمة عربية وتجاذبنا أطراف الحديث في تداعيات بعض الأحداث الأمنية في عاصمته، وسربّ لي هذا الديبلوماسي سهوا أو عمدا أنّ بعض الأحداث الأمنية في بلاده هي من ترتيب المخابرات في بلادة للحصول على العطف الغربي المطلوب لإدامة الحرب على المجموعات الأصولية، و بعد أيّام قليلة أقيل هذا الديبلوماسي من منصبه وأستدعي إلى بلاده، و أحتملت عندها وجود أجهزة تنصت في مكتبه أو أنّ نشري لحوار أجريّ معه في صحيفة عربية مرموقة قد كشف عن بعض التفاصيل التي نقلها لي هذا الديبلوماسي.
و في الواقع هذا غيض من فيض، فقد إعترف بعض السلطويين السابقين الذين زحزحزا عن مناصبهم و أعلنوا التوبة السياسية أنّ العديد من الأعمال الأمنية التي كانت تشهدها بلادهم كان وراءهم رجال الإستخبارات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة أو كما قال أحد رجالات هذه الأجهزة لا تسألوا عن الدولة فنحن الدولة و الدولة نحن.

وربما يدخل في هذا السياق إعتراف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بمسؤولية رجال المخابرات في الجزائر علىإختطاف آلاف المواطنين الجزائريين الأبرياء وقتلهم بدم بارد وقد عرض على عوائل الضحايا تعويضات، فيما يطالب أهالي الضحايا بشنق المتسببين في إختطاف الأبرياء و حرمان الأبناء من آبائهم في السوح العامة مع مسؤوليهم المباشرين وغير المباشرين.
وفي هذا السياق ينظر البعض إلى الحدث الأمني الأخير الذي حدث في القاهرة والذي أودى بحياة بعض السائحين الغربيين حيث قد يكون الغرض الإستراتيجي من هذا العمل الأمني وضع كفاية لتيار كفاية و الإيحاء بأن مصر مهددة أمنيا و مجددا بالتيار الأصولي وهي رسالة للداخل المصري وخارجه.

و تعتمد الأجهزة الأمنية على إستراتيجية اللاإستراتيجية و خلط الأوراق على الداخل والخارج و الهدف الأساس من كل ذلك هو تحصين النظام من حالة التآكل والإنهيار وخصوصا عندما يشتد عليه الضغط المحلي والدولي، ففي بعض العواصم العربية كانت الأجهزة الأمنية نفسها تسرّب معلومات لبعض الصحفيين ضدّ مصلحة الدولة نفسها وقد لا يفهم قليلو الوعي بإستراتيجيات الأجهزة الأمنية هذه الخطة، لكن لهذه الأجهزة مشروع كامل تريد تحقيقه على المدى القريب والمتوسّط، وقد حدث أن أغتالت هذه الأجهزة صحفيين ومثقفين لتأليب شرائح المثقفين على تيارات بعينها على خلاف كبير مع النظام، و قد تلجأ هذه الأجهزة إلى وضع قنابل وسيارات مفخخة في بعض الأماكن لتوجيه رسالة إلى الأمريكان على وجه التحديد بأنّ البديل سيكون أصوليا وأنّ الإنفتاح إذا تحققّ فسوف تكون القوة الإسلامية هي المستفيدة من هذا الإنفتاح وبالتالي يجب أن يبقى هذا النظام في موقعه مقابل خدمات جليلة وكبرى للإرادات الدولية وعلى رأسها أمريكا.

وفي عرف هذه الأجهزة فكل شيئ مباح من إصدار بيانات مضادة للدولة والتي تنسب لتيارات سياسية معينة، و الخطف في ضحى النهار و التسبب في ترويع مواطنين وفي فترة من الفترات أصدر جهاز أمني إلى بعض عناصره أوامر بإطلاق اللحية والتدرّب على الصلاة وإستخدام المسك الأظفر - العطر المحببّ عادة لروّاد المساجد - للدخول في المرحلة المقبلة وفي كثير من العواصم العربية أطلق رجل المخابرات لحيته فيما حلقها الإسلامي.
وكلما كان يحيط الإحتقان السياسي بدولة عربية معينة كانت الأجهزة الأمنية تلجأ إلى أسلوب التفجير وحتى إستهداف بعض المصالح الغربية من كنائس وسفارات وديبلوماسيين غربيين ورجال دين مسيحيين للحصول على دعم غربي واضح لهذه الأنظمة في مشروعها السياسي الداخلي ولتحصل على الغطاء السياسي الدولي المطلوب لتنفيذ أجندتها.

وقد كشف عشرات ضبّاط الإستخبارات العرب الذين طلبوا اللجوء السياسي في الغرب بأنّهم كلّفوا بمهام كبيرة أمنية نسبتها النظم إلى مجموعات وتيارات معارضة وحتى للكيان الصهيوني والمخابرات الأمريكية، وقد إعترف أحدهم أن بناء مجموعة مسلحة معارضة للدولة تمّ في مكتبه وهو الذي صاغ مع رؤسائه خطة التفجير الأمني لتحقيق اللأهداف السياسية المرجوة والتي إنتعش منها النظام ولا يزال في مشرقنا العربي ومغربه.
ولهذا ترفض كل العواصم العربية تشكيل لجان تحقيق للبحث في القضايا الأمنية من قبيل التفجيرات والتفخيخات و الخطف والتعذيب و القتل العمدي ورمي الجثت في البحار ودفن الجثت حية و ما إلى ذلك من الملفات التي يندى لها الجبين دما لا عرقا.

وكان كلما يشتد الضغط على عاصمة عربية في الكواليس على وجه التحديد كانت منحنيات الوضع الأمني تتجه صعودا في الداخل وكذلك عندما كان الضغط السياسي الداخلي يطوق هذا النظام أو ذاك كانت حيلة الأجهزة الأمنية تميل إلى تفجير الوضع الداخلي، و هذه الأجهزة مستعدة لإغتيال الرئيس إذا إقتضى الأمر كما حدث في دولة عربية و قد تصفي شخصيات رسمية بعينها لأسباب تعرفها دوائر ضيقة فقط.
ويبقى القول أنّ كل الأحداث الأمنية في العالم العربي للأجهزة الأمنية أصابع فيها بطريقة و بأخرى، و الهدف الإستراتيجي من كل ذلك هو تحصين النظام وزمرته من الإنهيار وفقدان الإمتيازات الكبرى التي توفرها شركة الدولة العربية لرؤسائها وأبنائهم وأقربائهم و عشيرتهم!!


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف