ما هي بشارة عزمي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا ندري حتّى هذه اللّحظة متى سيعود الدكتور عزمي بشارة إلى البلاد، إن كان يعتزم العودة حقًّا، بعد أن قام بتقديم استقالته من الكنيست في السّفارة الإسرائيليّة في القاهرة. غير أنّ أمرًا واحدًا بات شبه مؤكّد وهو أنّه، بإقدامه على هذه الخطوة خارج البلاد وبهذه الصّورة، لن يعود إلى الوطن على ما يبدو. لقد بدأت كرة الثّلج هذه تتدحرج عقب ما شاع مؤخّرًا في وسائل الإعلام، كما في فتات التقوّلات، عن قضيّة أو عن قضايا خفيّة، أمنيّة وماليّة، ارتبطت باسمه ولا نعرف تفاصيلها ولا حيثيّاتها. وقد سمحت المحكمة بنشر بعض التّفاصيل حول التّحقيق الّذي جرى مع عزمي بشارة في هذه القضايا. ولأنّنا لا ندري تفاصيل هذه القضيّة، فلن نتطرّق إلى ما يتعلّق بها الآن، وربّما نعود إليها مستقبلاً عندما تنجلي الأمور وتتّضح الصّورة. فإذا اتّضح أنّ ثمّة ملاحقة سياسيّة فإنّ الجميع هنا سيتصدّون لها مهما كانت طبيعة الاختلافات السّياسيّة مع توجّهات الدكتور بشارة، أمّا إذا تبيّنت أمور أخرى لها أبعاد تتعلّق بفساد مالي فتلك قضيّة أخرى.
***
ولكن، ورغم ذلك، لا يمكن المرور الآن مرّ الكرام على هذه المسألة، وكأنّ شيئًا لم يحصل. فلو كان عزمي بشارة فردًا من عامّة النّاس في هذا الوطن، لما أرهقنا أنفسنا بالتّطرُّق إلى ما جرى معه. غير أنّه يتزعّم حزبًا سياسيًّا قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا باسمه وبنشاطه بين ظهراني الفلسطينيّين العرب مواطني دولة إسرائيل. كما أنّ هذا الحزب يمثّل شريحة من هؤلاء المواطنين من بين سائر الشّرائح الممثّلة في الكنيست. ولكونه كذلك فمن حقّ الرّأي العام، والمحلّي على وجه الخصوص، أن يسائله وأن يحاسبه. كذا هي الأمور في الحياة العامّة وفي المجتمعات المدنيّة السليمة الّتي اجتهد الدكتور بشارة بالتّنظير لها في مقالاته في السّنوات الأخيرة.
ولأنّي شخصيًّا أكنّ الاحترام للدكتور بشارة، على الأقلّ لأنّه يحترم اللّغة العربيّة والكتابة بها، بخلاف الكثيرين من كُتّاب التّهويمات الّتي لا يخرج القارئ من كتاباتهم بشيء. ولأنّه يجيد التّعبير بها عن أفكاره بوضوح لا لبس فيه، فمن واجبنا أيضًا أن نقول كلامًا واضحًا لا لبس فيه يفهمه القاصي، من عرب الجوار، كما يفهمه الدّاني، من عرب الوطن، من أهل هذه الدّيار.
***
نبدأ فنقول، إنّ هنالك فرقًا جوهريًّا بين رجل الفكر ورجل السّياسة، إذ أنّ السّياسي، على العموم، يجعل من الكذب أو التّلفيق أداةً لخدمة مصالح سياسيّة وحزبيّة، بينما رجل الفكر لا يأبه بما يٍُقال عنه لأنّ مهمّته ذات طابع آخر. ولأنّه لا يبحث عن شعبيّة لدى منتخبين يمنحونه أصواتهم في الانتخابات فهو في حلّ من هذه القيود الّتي تكبّله. بصورة عامّة هنالك توتّر دائم بين السّياسي الّذي يعمل في إطار الواقعيّة السّياسيّة والمفكّر الّذي يرى الأمور بمنظار عابر للقيود المكبّلة الّتي تشكّل ميزة لصيقة بالألاعيب السّياسيّة. ولكن، عندما يطوّع المفكّر أفكاره لأغراض سياسيّة وشخصيّة تنتفي عنه صفة المفكّر ليدخل في خانة رجل السّياسة الكاذب الّذي يضحك على ذقون النّاس. قد نقلّل، خلال تعاملنا مع الحياة السّياسيّة ورجالها، من قيمة أكاذيب السّاسة، إذ تُصنعُ الأكاذيب لأهداف شخصيّة جليّة. بينما عندما تأتي هذه الأكاذيب من شخص يحمل راية الفكر والسّياسة في آن معًا، فإنّ الأمر يدخل في خانة البليّة. وشرّ البليّة في هذا السّياق هي ليس ما يُضحكُ، بل شرُّها ما يُربكُ. ففي هذه الحال يتحوّل الفكر من كونه فكرًا نقيًّا هدفُه السّياسة والمجتمع إلى كونه أداةً يتلاعب بها رجل السّياسة الكاذب بعقول وعواطف النّاس ابتغاء الوصول إلى مآرب لا تمتّ إلى مصالح النّاس بشيء.
***
ورغم أنّي عبّرتُ أكثر من مرّة عن امتعاضي من المراهقات العروبيّة الّتي يحاول الدكتور بشارة إشاعتها، إلاّ أنّي أقول إنّ الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل قد خسرت، على الأقلّ على الصّعيد الدّاخلي المحلّي، صوتًا مهمًّا في تحدّيها للسّياسات الأيديولوجيّة الإسرائيليّة بكلّ ما يتعلّق بهذا التّوتُّر القائم بين المواطنين العرب في إسرائيل وبين المؤسّسة الإسرائيليّة على اختلاف مشاربها. ومن المهمّ التأكيد في هذا السّياق أنّ هذا التّوتُّر لم يبدأ بعزمي بشارة ولن ينتهي بغيابه الآن مع "اختياره" المنفى الطّوعي بدل البقاء في الوطن.
قبل عقود مضت قام شخصٌ آخر، وهو شاعر لا بأس به، بفعل مشابه بهجره الوطن، ونعني طبعًا ما قام به محمود درويش. لقد اختار ذلك الشّاعر البحث عن الأضواء في البلاد العربيّة بدل البقاء والمواجهة في وطن الأوطان. هذا مع العلم أيضًا أنّ ذلك الشّاعر المهاجر لم يُحاكَم أبدًا ولم يُسجن أبدًا في إسرائيل، رغم ما قد أُشيع ويُشاع حول هذه المسألة من أمور لا تمتّ للحقيقة بصلة.
لقد أكل ذلك الشّاعر أصابعه ندمًا، إذ بعد عقود من الدّوران في ربوع العربان عاد يحنّ إلى ذات المكان الّذي هجره طوعًا. بل أكثر من ذلك فقد قام خفيةً، وبعد اتّفاقات أوسلو، بتفعيل وساطات بغية العودة إلى هذا الجزء من الوطن، المعتَرَف به من قِبَل مصر أم الدّنيا، ومملكة بني هاشم، وصولاً إلى منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، جزءًا من إسرائيل بالذّات. كما أنّ "قلب العروبة" النّابض كان قاب قوسين أو أدنى من هذا الاعتراف الّذي لا شكّ سيأتي في المستقبل بعد إبرام اتّفاقيّة سلام بين إسرائيل وسورية. لا يمكن طيّ هذه الحقائق تحت بساط الشّعارات الّتي تدغدغ عواطف مراهقي العروبة. لكن، ما لنا ولدرويش، فهو شاعر، فرد، ولا يمثّل حزبًا سياسيًّا يزعم تمثيل شريحة من المواطنين في هذا الوطن.
***
من هنا، ليست حال الدكتور عزمي بشارة على هذا المنوال، إذ أنّه يعرض نفسه قولاً وعملاً على السّاحة السّياسيّة بوصفه أحد قادة مسيرة المواطنين العرب في إسرائيل. ولمّا كان الدكتور بشارة قد اختار لنفسه هذا الموقع القيادي، فإنّ هروبه من المواجهة وتركه "جنوده"، منتخبيه، يواجهون تبعات مراهقاته العروبيّة يشكّل وصمة عارٍ لمن يدّعي لنفسه هذا الموقع. بل أكثر من ذلك، إنّ هذه الخطوة هي نقيض شعارات الصّمود والبقاء في الوطن. بعد خطوة كهذه، كيف سيثق النّاس بقيادات من نوع الّتي سرعان ما تهبّ إلى ترك الوطن حاملة في جيوبها ما قلّ وزنه وغلا ثمنه، باحثة عن أضواء الفضاء العربي المظلم أصلاً. هذا فيما يخصّنا نحن الّذين نعيش في وطننا، وفيما يخصّ علاقتنا بالمؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة. أمّا بخصوص ما يتعلّق بما يجري من حولنا في الجوار العربي، فـ"حدّث ولا حرج".
***
في الحقيقة، لا ندري ما هي الأيديولوجيّة الّتي يرفع رايتها الدكتور بشارة. هل هي حقًّا أيديولوجيّة مدنيّة ديمقراطيّة ليبراليّة، أم أنّ هنالك أمورًا خافيّة وراء هذا الكلام المعسول؟ إنّ سلوكيّات الدكتور بشارة في السّنوات الأخيرة لا تدع مجالاً للشكّ في أنّه استخدم الانتخابات الاسرائيليّة للوصول إلى ساحة أوسع، هي السّاحة العربيّة من حولنا. كما أنّ مواقفه المعلنة تكشف جوانب أخرى تشكّل نقيضًا صارخًا لكلّ ما هو مدنيّ، ديمقراطي وليبرالي. إذ أنّنا لا نفهم كيف تأتلف دعاوى مثل هذه مع ما يرفعه الدكتور بشارة من رايات لأنظمة عربيّة هي الأسوأ من النّواحي المدنية، الديمقراطيّة واللّيبراليّة، كالنّظام البعثي السّوري، على سبيل المثال لا الحصر. ومهما تبجّح هذا النّظام بشعارات القوميّة والعروبة غير أنّها تبقى شعارات لا تتأسّس على أيّ فعل ملموس.
هل شعارات المراهقة العروبيّة الّتي أشاعها الدكتور بشارة ابتغاء دغدغة عواطف النّاشئة تُخفي تَوتُّرًا بين العرب من غير المسلمين وبين الأكثريّة العربيّة المسلمة؟ رُبّما، لكنّنا لن نتطرّق إلى ذلك في هذه العجالة. أم أنّ شعارات المراهقة العروبيّة تُخفي في طيّاتها أيديولوجيّة قومويّة عنصريّة عربيّة؟ إذا كانت الحال كذلك، فيجب أن نقولها صراحة أنّنا ضدّ هذه الأيديولوجيّة العنصريّة جملة وتفصيلاً. إذ كيف يمكن لشخص يدّعي فكرًا مدنيًّا ديمقراطيًّا ليبراليًّا أن يعيّن نفسه ناطقًا بلسان نظام بعثي فاشي يضطهد الأكراد والأقليّات الأخرى في سوريا على سبيل المثال، مثلما يضطهد عامّة المواطنين السّوريّين، ومثلما اضطهد عقودًا عامّة المواطنين اللّبنانيّين عندما كان رابخًا على صدورهم في العقود الأخيرة؟ فلم نسمع من مدّعي العروبة والمدنيّة ودولة المواطنين، ولو مرّة واحدة طوال السّنوات الأخيرة، كلمةً واحدة أو استنكارًا لاعتقال مواطنين، مثقّفين سوريّين لمجرّد التّعبير عن معارضتهم للنّظام البعثي القبلي الفاشي في الشّام. إنّ صمته الصّارخ، وهو الّذي طالما تزيّى بثوب الفكر والثّقافة والكتابة، إزاء هذه المسائل وكثير غيرها يسحب البساط من تحت دعاواه وشعاراته الرّنّانة. بل أكثر من ذلك، إنّ هذه السّلوكيّات تدخل في خانة تزلّف السّلاطين أيًّا كان هؤلاء السّلاطين، وأيًّا كانت طبيعة أنظمتهم.
***
وأخيرًا، أليس من الغريب ما يحدث مع هؤلاء من مراهقي العروبة ومن أمثالهم من مراهقي الإسلام السّياسي؟ وكيف لا يجدون مكانًا يهربون إليه غير تلك الإمارة المحروسة الّتي يتقاطرون إليها، علمًا أنّها تقيم علاقات علنيّة وودّيّة مع إسرائيل وتُشكّل علنًا أكبر قاعدة عسكريّة أميركيّة في الشّرق الأوسط. إنّها تلك الإمارة الّتي أضحت تشكّل بوقًا فضائيًّا عابرًا للحدود العربيّة بغية إشاعة فوضى المحافظين الجدد، البنّاءه أميركيًّا الهدّامة عربيًّا؟ وكيف ذا لا يجدون ملاذًا في "قلب العروبة النّابض"، قلب الأمّة العربيّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة، على سبيل المثال؟ أليس وراء هذه الأكمة ما وراءها؟
فلهؤلاء جميعًا ولأمثالهم نقول علانية: إذا كان مدّعو القيادة السّياسيّة يلوذون بالفرار هكذا إلى الفنادق الفخمة بحثًا عن أضواء، فماذا سيقولون بعد الآن لمن انجرّ وراءهم من النّاس البسطاء؟
أمّا نحن، في هذا الوطن، فسنظلّ نقول لأمثال هؤلاء: نحنُ هنا باقون، في وطننا الّذي لا وطن لنا سواه،، في السّرّاء كما في الضّرّاء.
أليس كذلك؟