حدائق الحكمة: التجربة اليابانية (2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
لنكمل عزيزي القارئ النقاش في دور التفكير العربي والغربي في التعامل مع معضلات المنطقة. فقد ناقشنا في الأسبوع الماضي أهمية التفكير المتوازي المنتج للتعامل مع المعضلات والتقدم للأمام. كما ناقشنا نتيجة التفكير الغير التقليدي في الاكتشافات العلمية، فكلنا يرى التفاحة تسقط من الشجرة ولكن لا أحد منا فكر بطريقتنا التقليدية في التفكير، لماذا سقطت التفاحة، ولكن حينما فكر شخص آخر بطريقة غير تقليدية متوازية ومنتجة ومبدعة أكتشف شيء مهم عن حقيقة هذا الكون وهو علم الجاذبية الأرضية. وقد ينتقد البعض طريقة تفكيرنا في الوطن العربي، وأسلوب إصدار قراراتنا، ولكن علماء ومفكري الغرب بدءوا يشككون في الأسلوب الغربي في التفكير أيضا. فقد فقد العالم، منذ الحرب العالمية الأولى أكثر من مائة وخمسين مليونا من البشر، وخسر التريليونات من الدولارات، ولوثت الطبيعة ودمرت مواردها، بتفكير السياسة الواقعية البعيدة عن الحكمة والقيم الأخلاقية. ولنسأل هل أثبتت التجربة بأن تفكير سياسة العين بالعين والسن بالسن تفكير عقيم غير منتج؟ وهل تحتاج قيادة العالم لزعماء بحكمة المهاتما غاندي والرئيس نيلسون منديلا للتفكير في معضلات عالم العولمة؟ وهل سنتعامل مع مشاكل العالم باسلوب جديد من التفكير لنستطيع مناقشة احتمالات متعددة للتعامل مع المعضلات، والحكمة في أختيار أنسبها، والأبتعاد عن مبداء الأصرار على حل المعضلات المستعصية، بل العمل على تجاوزها والاستمرار في التقدم للأمام، لنكمل عملية التنمية والتقدم ولنعيش برخاء وأمان وسلام؟
البروفسور ادوارد دي بونو، من كبار متخصصي الغرب في التفكير الذهني وطرق تعليمه. وقد كتب في كتابه التفكير المتوازي، يقول، "أحاول في هذا الكتاب أن أبين سبب فشل طريقة التفكير الغربية. والسبب في ذلك، ليس عدم التطبيق الصحيح، بل للقصور الجذري والخطورة المترافقة بهذا النوع من التفكير. وهل يعني بأن التفكير الغربي الذي صاغه عصابة الثلاثة (سقراط وأفلاطون وأرسطو) كان خاطئا؟... التفكير الغربي يفشل لأنه لم يهيئ للتعامل مع التغير. والتفكير المتوازي الذي أقترحه، يخرج عن الصناديق والإحكام المسبقة للتفكير التقليدي، لينتقل لتفكير الاحتمالات الكثيرة والمتوازية. تفكير يدرس ماذا يمكن أن يكون لا ما هو كائن ألان."
ويحاول البروفيسور المقارنة بين الأسلوبين في التفكير فيقول، "التفكير المتوازي يهتم بالتصميم والاختراع بينما ينحصر التفكير التقليدي بالاكتشاف والبحث. التفكير التقليدي يعتمد على إحكام متحجرة أنية (نعم/لا، صح/خطاء، حقيقة/كذب)، التفكير المتوازي يتقبل احتمالات بدون أحكام مسبقة. التفكير التقليدي يهتم بالمنطق المتحجر الذي تترسب فيه الأفكار بعضها على البعض كطبقات متكلسة، لا يمكن تحريكها بسلاسة. بينما يهتم التفكير المتوازي بالمنطق المائي، كموجات الماء تتحرك بسلاسة متغيرة تحرك أفكارها حين تحتاج الاستفادة منها... التفكير التقليدي يضع الانقسام والإنكار ليفرض الاختيار، التفكير المتوازي يتقبل الإطراف المتناقضة ليجد الاحتمالات. التفكير التقليدي يعتقد بأن المعلومة حقيقة كافية، بينما يبحث التفكير المتوازي من خلال المعلومة على الابتكار والإبداع. التفكير التقليدي يؤمن بأنك حينما تزيل الأشياء السيئة تبقى الروائع، التفكير المتوازي يعمل ليصمم الروائع. التفكير التقليدي يستعمل الجدل المتناقض والتفنيد للاكتشاف، التفكير المتوازي يستعمل التقارب والتعاون."
وما أحوجنا اليوم في وطننا العربي لتفكير مبدع ومنتج يدرس المعطيات بميزان متوازي ويستنبط الاحتمالات الممكنة بصدق وتجرد. فتصور عزيزي القارئ لو قبلنا بالاطراف المتناقضة وبحثنا عن ابتكار الافكار وصممنا الروائع واستعملنا التقارب والتعاون للتعامل مع المعضلات المختلفة، وأبتعدنا عن الأصرار لحل المعضلات المستعصية، بل لو تجاوزناها وأكلمنا طريقنا للأمام. الم نمنع العنف والدمار؟ الم نقي ِشبابنا من تطرف الفكر؟ الم نبني مجتمع عربي مشارك في التنمية والتطور في عالمنا الجديد؟ وهذه ليست أفكار جديدة، فقد تجاوزت اليابان الكثير من المعضلات التي واجهتها بدون حلها بل بتجميدها، وأستمرت الى الأمام. كما تعاونت اليابان مع الصين خلال السنوات الماضية في كثير من الأمور الاقتصادية والتكنولوجية وتجاوزتا المعضلات السياسية بينهما حتى تأتي الظروف الملائمة للتعامل معها. ألم تتبع اليابان هذه السياسة مع السوفيت حول النزاع على الجزر الأربع الشمالية، التي تعتبر عند شعب اليابان جزر يابانية مقدسة؟ فلم تصل اليابان لقمة تقدمها الاقتصادي والتكنولوجي إلا حينما أجلت التعامل مع الكثير من الأزمات المعقده التي كانت بينها مع الشرق والغرب، وتجنبت ضياع الوقت، وتفرغت للتنمية والتقدم.
وقد لفت نظر بروفسور دي بونو الوضع المحزن الذي يعيشه العالم من حروب ودمار وتلوث بيئي وجشع مفرط. واستغرب لتصور البعض بأن هذه حقيقة العالم والطبيعة الحقيقة للبشر فيسترسل ويقول, "فقد نقبل بأن ما حولنا من فقر وتلوث بيئي وحروب متكررة وفوضى محلية هي نتيجة طبيعية للتغير والسلوك الإنساني، وسنتعامل معها كما تعاملنا مع غيرها من قبل. ولو تجاوزنا هذه الطاعة وتساءلنا: هل سبب مشاكلنا هو تفكيرنا الناقص؟ وهل هو السبب في صعوبة تعاملنا مع التحديات الحياتية؟ وهل ستتغير النتائج بتغير طريقة تفكيرنا."
ويعتقد البروفسور بأن طريقة التفكير الغربية التي حددها سقراط وأفلاطون وأرسطو، كانت مهولة لتقدم الحضارة البشرية، ولكن قد لا تكون الطريقة المناسبة اليوم، لعالمنا المعقد والمتغير بسرعة هائلة.....ويتساءل ما هي الحقيقة السقراطية المتكلسة التي نبحث عنها؟ وكيف نعرف بأننا وجدناها؟ ولنتذكر بأن كل منا في مجتمعاتنا العربية يملك الحقيقة، ونقاتل بعضنا البعض لان كل منا يعتقد هو الذي يملكها والغير، على خطأ وضلالة. ويخالف التفكير المتوازي كل ذلك، فلا يعتقد بأن أحد يملك الحقيقة، وليس بين البشر حقيقة بل أحتمالات يستفاد منها لتجاوز المعضلات. ويعني ببساطة بأن نضع الأفكار بجنب بعضها البعض، وبدون تناقض وبدون اختلاف وبدون الحكم المسبق بالحقيقة/الكذب، بل برغبة صادقة لدراسة الاحتمالات، وتجاوز الأزمات.
الطريقة التقليدية السقراطية لحل المعضلات هي جمع المعطيات، تحليل المشكلة، اكتشاف السبب، والتخلص منه؟ ولكن لنتساءل ما العمل إن لم نكتشف السبب؟ وما العمل إن لم نستطع إزالة السبب؟ لذلك يقترح التفكير المتوازي بأن نتجاوز الأسباب ونبحث طريقة أخرى للتحرك للأمام. ومع الأسف جميعنا لا نحب الجديد ونخاف منه ونقلق من نتائجه، لأننا نعتقد بأن الحلول الغير مترافقة بالتخلص من الأسباب هي حلول مؤقتة وتجميليه. كما أن هناك سبب أخر للقلق من أهمية التحرك للأمام وهو الحاجة لمفاهيم الإبداع. وخيار الإبداع صعب لأننا لم نتدرب عليه، بل تعلمنا بان تحليل المشكلة كافي لإيجاد حلها. ومنهج تعليمنا يعتمد على التحليل ولا مكان للإبداع فيه. والتفكير المتوازي يقترح لكي نتعامل مع المعضلة نحتاج للتصميم والأصرار للتحرك للإمام. فهدفنا البناء، ولن نستطيع البناء اذا لم نتحرك للأمام في التعامل مع العوائق والمعضلات. فحينما نفكر في الأصرار للتحرك للأمام نتجاوز الأسباب وحلولها. وهذا ما عمل من خلاله الشعب الياباني بعد الحرب، فالأرض محتله والدستور غريب على الشعب، ولا توجد موارد طبيعية، والمدن محروقة والبنوك خالية من الأموال. ومع ذلك قررا لشعب الياباني أن يعمل من خلال جميع هذه العوائق، لا أن يزيلها، ويتحرك للأمام، بل أيضا يتعاون مع العدو ويبني بلاده. ولم يقبل بعذر الانتقام أو القومية أو الوطنية أو أخطاء العسكر ليمنعه من التحرك إلى الإمام وإزالة جميع العوائق.
ويؤكد البروفسور في كتابه بأنه "من الجنون أصلا أن نستمر في الاعتقاد بان تحليل المشكلة يكفي لحلها، ونحن نطبق نظرية إزالة السيئ لتبقى الروائع. وقد كانت هذه الأفكار كافية لإزالة شاه إيران والرئيس ماركوس في الفلبين والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا والشيوعية في الاتحاد السوفيتي.....فنحن قادرين للعمل ضد شيء نعتقد بأنه خطئ....ومعظم الثورات عملت ضد شيء معين تعتقد بخطئه....ولكن ماذا حدث بعد ذلك، فوضى وقد تحول الوضع لأسوء من قبل.....لذلك يجب أن نطور التفكير التنفيذي البناء." ومع الأسف الشديد تعليمنا في الوطن العربي يدرب على الوقوف ضد الأشياء وانتقادها، فنحن منتقدون بارعون ونستطيع أن نقف ضد شيء ما وندمره، ولكن لدينا العجز وكل العجز في أصلاح الشيء وتطوير بناءه. فالهدم سهلا جدا، ولكن البناء يحتاج لكثير من المهارات الذهنية والخبرات الحياتية، وحكمة التصرف.
وقد يسأل عزيزي القارئ ما علاقة تعليم التفكير بالحكمة؟ وهل تحتاج أن تكون عتيقا وبلحية بيضاء طويلة لتكون حكيما؟ وهل ممكن أن تتعلم الحكمة أم أنها نتيجة لمعاناة وخبرات سنوات طويلة؟ وما تعني كلمة الحكمة أصلا؟ ويعلق البروفسور ليقول، "مع ألأسف أهتم التقليد الغربي بالحداقة ولم يهتم بالحكمة. والذي أثار أهالي أثينا ضد سقراط هو حداقته. فأيما تقوله، سيحاول سقراط أن يتحداه ويفنده، وبطريقة التلاعب بالكلمات وبحجج واهية, وقد كانت بعضها حجج دقيقة. ولا أحد يشك بحداقة سقراط، فقد تدرب على الطريقة السفسطائية. وكان السفسطائي في ذلك الوقت يعتبر نفسه حاذق، ويعلم أسلوب الحذاقة في النقاش، واعتبره نوع من القوة الذهنية. كما كان سقراط يعتبر نفسه حكيما، لأن اوريكل اعلن بأن لا أحد أكثر حكمة من سقراط. وقد تصور بأن حكمته أتت من معرفته بنقاط جهله، وحاول أن يقلل ساحات جهله بالاعتماد على الحداقة. والحداقة كالعدسة ضيقة البؤرة والتركيز، والحكمة عدسة واسعة الزاوية." وقد يتسائل عزيزي القارئ هل الحذاقة مشكله يعاني منها عملنا السياسي العربي؟
وينتقد البروفسور التفكير الغربي الذي يركز على الإلغاز وحل المعضلات والبحث عن الحقيقة والذي يعتقد بأنه يجب أن يكون هناك جوابا ماديا لكل شيء، وبأنه يملك الحلول لجميع معضلات الحياة والطبيعة. فعمل على مصارعة الطبيعة ليرضخها لحلوله المادية، وانتهى العالم بالخراب من التلوث البيئي والدمار الحربي والفقر والمرض البشري. ونلاحظ بأن التفكير المتوازي يركز على دراسة الاحتمالات، لينتج أفكار ومفاهيم جديدة، ويضيف احتمالات متعددة وبداية أفكار مغايرة, ويوسع الخبرات الإبداعية فتزداد الحكمة. وحينما ترجع لمناقشة معضلة جديدة يكون فكرك مليئا بالمفاهيم والاحتمالات المتعددة، وحديقتك الذهنية غنية بالنباتات الفكرية. وتشمل الحكمة غناء مخازن الاحتمالات الذهنية، والمفاهيم, والمجازات، والخطط، وأسلوب النظر الذهني للأشياء والمعضلات. وبهذا الغناء الذهني تستطيع أن تنظر للعالم بطريقة أخرى، ولمعضلاته بطريقة مختلفة. ومن الممكن أن تكتسب هذا الغناء الذهني من الحكمة بخبرات حياة طويلة، كما يمكن أيضا اكتسابها بالتدريب وبجهود ذهنية جادة ومتواصلة. والسؤال الهام لعزيزي القارئ، هل نحتاج لنغني، بفلسفة التعليم من المهد الى اللحد، حدائق الحكمة في مجتمعاتنا العربية، بنباتات جديدة وأزهار يانعة؟ والى لقاء حكيم.
سفير مملكة البحرين باليابان