أول ايام الدراسة...في مدرسة الزعفرانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يتذكر كيف سجله أخوه في المدرسة، أخذه الى المصور الشمسي الذي أجلسه بعد أن قصوا شعر، أمام ذلك الصندوق الخشبي ظل يحدق به حتى ظهرت صورته، وهو يرتدي بدلة البحار ببياضها الناصع وخطوطها الحمراء الملونة، التي أحبها فاشتراها له أبوه في العيد الماضي، كانت تلك أول مرة يلتقط بها صورة شخصية له في الهواء الطلق، يمد المصور يده مثل ساحر في كيس القماش المربوط بذلك الصندوق، ويده الأخرى تنظم العدسة التي يحدق فيها، ما هي إلا دقائق قليلة حتى ظهرت صورته وقد بان سنه المكسور، الذي فقده قبل أيام حين كان يلعب مع أصدقائه عندما سقط على وجهه فانكسر سنه، بكى حين رأى الدم يسيل من فمه، بينما فر صديقه مخافة العقاب.
الزعفرانية...مدينة مسورة بالحب ضمير منفصل: الزعفرانية... سيرة مدينة جسر الحديد انقطع من .....
سجله أخوه في مدرسة الزعفرانية الثانية المدرسة الوحيدة في المنطقة،التي ضاقت بطلابها فانشطرت على نفسها فيما بعد الى مدرستي غمدان والخورنق، كلا المدرستين تدوام في مبنى واحد بفترتين، لم يكن لها بناء مميز وإنما اتخذوا ستة دور من تلك الدور التي سكنها الأهالي وحولوها الى صفوف دراسية، وفي الأول (ب) انتظم مع قرابة ثلاثين طالباً في صف صغير، بحجم غرف بيتهم، كان الأستاذ صلاح معاون مدير المدرسة أكثر سطوة من المدير نفسه، نحيفاً طويلاً - ربما لم يكن كذلك لكننا صغرنا جعلنا نتصوره عملاقاً - أنيقاً معتداً بنفسه لا تفارقه عصاه ولا نظارتاه، عصاه التي يحركها متبختراً، ونظارتاه الشمسيتان اللتان ثبتهما ليحرك من خلفهما عينيه الى جميع الاتجاهات، فيشعر جميع الطلبة أنهم مراقبون، يسير بخيلاء، يمارس سطوته علينا في الفناء أمام المدرسة، متباهياً أمام بعض النساء اللواتي يحدقن به من بعيد باعجاب شديد، يضرب الاستاذ صلاح المسيئين بقسوة فيسهل عليه قيادة تلك الجموع الكبيرة من الطلبة.
في أول يوم دراسي ذهب إليه عادل كان الدوام ظهراً، حيث يبدأ الساعة الثانية عشرة ظهراً، وقف يردد ما يعرفه من النشيد الذي كان يسمعه من خارج المدرسة حيث يصرخ الطلبة بمطلعه الحماسي " لاحت رؤوس الحراب تلمع بين البوادي- هاكم وفود الشبابي هيا فتوة للجزائر" دون أن يعرف معنى الحراب ولا البوادي كل ما كان يعرفه سمعه من أبيه أن هناك بلداً عربياً اسمه الجزائر يحتله المستعمرون، وإن نشيدهم الحماسي هذا سيكون سبباً في استعادته، يقف الاستاذ صلاح يراقب الطلاب ويشير بعصاه الى بعض الطلبة يحثهم على رفع أصواتهم فيشتعلون حماساً، بينما يتسابق الجميع في رفع عقيرتهم "وإن ذهبت شهيدا هيا فتوة للجهاد".
غدت تلك الأيام الغابرة التي مرت بنا ذكريات جميلة كست بحلاوتها أيامنا الماضيات بجمال لا يوصف، فحجبت حلاوة الذكرى حقيقة مرارة ذلك الواقع وقساوته، ما زلنا نتلمس تلك الذكريات وإن غادرتنا، ففي طفولتنا كنا نمضي أوقاتنا حلوة عذبة لاندرك معاناة الكبار وخوفهم من المستقبل الذي لم يكن يشغلنا.
توقف أمام التانكي الذي ذكره بمدرسة الطفولة نزل من سيارته بدا التانكي كما لو أصغر حجماً مما كان يتصوره "في طريقي الى المدرسة نظرت الى التانكي وهو خزان ماء مهجور عال بارتفاع ثلاثة أدوار، كان يستخدم أثناء بناء دور منطقتنا، وهو اليوم ملعب للأولاد يتسلقون عليه، حين كبرت قليلاً، حاولت أن أجرب الصعود عليه، فلم اتجاوز الدور الأول حتى شعرت بالدوار واصفر وجهي سخر مني اصدقائي، فتسلقوا هم الدور الثاني والثالث، أما فاروق فكان يتسلقه مثل قرد يتسلق اشجار جوز الهند، لا رهبة في نفسه ولا يخشى السقوط، يقف في أعلاه يرفع يده منتصراً، حين ينزل كان يروي لنا ما بداخل الخزان، مرة قال انه وجد رجلاً ضخماً أشعث الشعر مثل قرصان ينام داخله، ما إن شاهده حتى صرخ في وجهه، كنت كلما أمر عند الغروب، اخشى ان ارفع بصري الى التانكي، مرة واحدة فقط رفعت عيني، فشاهدت ذلك الرجل يمد راسه من الخزان ملوحاً بخنجر بيديه، كان أعوراً وله سن تلمع من بعيد"
تذكرت فاروق الذي لم يكمل دراسته، وانخرط في مهنة الحدادة مع أبيه، كنا نلعب في العطلة الصيفية بينما كان يعود بملابسه المتسخة من العمل كما لو ان هذا العمل عقاباً له على تركه الدراسة، قتل فاروق في الحرب مع إيران كنا نحمل نعشه واتصوره يقول من تابوته لا أحد غيري قادر على الصعود على التانكي.
لم يكن هو الوحيد الذي دفناه من الأصدقاء كانت الحرب تجمعنا في مآتم أصدقاءنا وفي كل لقاء كان ينقص واحد منهم.