تحية إلى شاكر النابلسي من دون عتاب!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مسامير جاسم المطير 1315
قرأت اليوم كلمة الدكتور شاكر النابلسي المعنونة ( العراقيون في الشتات الحريري ). أنا شخصيا من المعجبين بالكتابات الغزيرة لهذا الرجل خاصة ما يتعلق بالشأن العراقي،فهو يحمل لقرائه دائما فكرا حديثا موجزا كجزء من تفكيره الواعي المتأني لنصرة الشعب العراقي وقضية الديمقراطية المنشودة فيه.أخيرا دعي النابلسي
إلى كردستان لحضور مهرجان المدى فصدر منه توجه اخوي صادق للعراقيين المقيمين في ما سماه بــ"الشتات الحريري" للعودة إلى العراق ومواصلة النضال داخله لإعادة أعماره وتغزير ثقافته الأصيلة. حاول النابلسي أن يشاركنا نحن العراقيين الهاربين إلى خارج الوطن وطنيا من خلال كلمات عاطفية بلغة المحبين الحميمة باستخدامه خطابا ودعوة إنسانيين للعودة من بلدان الشتات الحريري إلى العراق والى كردستان المتحررة من الإرهاب بالذات ولو نسبيا ً. أقول نسبيا لأنه لم يسمع أو يقرأ، كما يبدو، عن مقتل شابة ايزيدية في الأسبوع الماضي رجما بحجارة دينية بعد أن طرحوها أرضا في الشارع فقتلوها ركلا ورفسا وتحجيرا لأنها أحبت شابا مسلما..!
الدعوة من السيد النابلسي طيبة ونبيلة من دون شك لكنها ، من وجهة نظري، لا تدخل في إطار التاريخ العراقيولا الدلالة السياسية ولا التجارب العملية من الناحية المعيشية والاقتصاديةولا حتى ضمن واقع عراقي معقد بالعنف ومركب اجتماعيا بالعدوان والإرهاب والتهجير المتجددة أسبابه وأنواعه كل يوم منذ ما يزيد على أربعين عاما. ربماجاءهذا من كون الدكتور النابلسي ليس عراقيا فلم يستنتج أننا نعيش في "المنافي" و"الغربة القاتلة" وليس في "الحرير".
أننا، يا صديقي، نحس بتهميشنا الصامت المتعمد ليس بإرادتنا بل وفقا لمنظومة من العوامل السيكولوجية والاجتماعية أولها وآخرها يتعلق بعوامل العنف والقهر السياسيين وهذا وحده يكفي لوضعنا بأقسى أوضاع الحياة حتى في بلدان الحرير الديمقراطي.
كثيرة جدا هي الملاحظات التي تبلورت لدي عن الخطاب العاطفي المتسرع الذي رسمه بمحبة صادقة لكنني لا أتناولها كلها بل سأركز على بعضها لأنهبأي حال من الأحوال لم يستطع أن يشاركنا نحن العراقيين المقيمين أسباب وجودنا قسرا خارج وطننا ودوافعنا وسنننا التي أثرت على بقائنا في الخارج بعد سقوط نظام صدام حسين متصورا أن الملايين الأربعة من العراقيين ينعمون في منافيهم بالدفء والدعة ورفاهة الحياةوربما نسى أيضا بطل رواية عبد الرحمن منيف (شرق المتوسط) ومعاناته في غربته رغم الفارق في ظروف ذلك البطل عن العراقيين المنفيين..!
لم يتطرق السيد النابلسي لا من بعيد ولا من قريب في مقالته إلى آلاف العراقيين العائدين إلى وطنهم العراق ولا ادري كيف فاته هذا التصنيف وهو يزور كردستان بدعوة مباشرة من بعض العراقيين الذين عادوا هم أنفسهم إلى وطنهم بعد 9 نيسان 2003 أيبعد سقوط الدكتاتورية. فمؤسسة المدى هي "مؤسسة عائدة" ورغم أنني واثق من سلامة نوايا مقالته لكنه لم يفرق بين تعبير العاطفة الخطابية وتعبير العقل السياسي فقادته فرضيات خاطئة وتصورات في التقييم ليست علمية إطلاقا .
فليس من العقلنة الاقتصادية والاجتماعية تصور أمكانية عودة مليوني عراقي إلى كردستان للعيش فيها وهي ــ أي كردستان ــغير قادرة أصلا حتى على استيعاب بضعة آلاف كردي من المغتربين وأغلبهم من أعضاء الحزبين الحاكمين في اربيل والسليمانية كانت وما زالت حكومة الإقليم الكردستاني الموحدةتوجه خطابات الرجاء إلى حكومات الاتحاد الأوربي بحق أبقاء آلاف الكرد في بلدانها ممن لم يمنحوا حتى الآن حق اللجوء في بلدان "الحرير" وعدم إعادتهم إلى كردستان لأنها غير قادرة على استيعاب العائدين لا من حيث السكن ولا الخدمات ولا العمل ولا التعليم. هل تعلم يا سيدي النابلسي أن عشرات الآلاف من الأكراد والعراقيين عموما هم طلاب جامعات في ألمانيا وأمريكا والسويد وهولندا وبريطانيا ولو لبوا نداء النابلسي بالعودة إلى كردستان فان على حكومة الإقليم أن تفتتح فورا وعلى الأقل عشر جامعات وعشرات المعاهد لاستيعابهم ..! هل هذا ممكن أو معقول حتى لو افترضنا تضحيتهم بالنوم في الشوارع لعدم توفر السكن اللازم الطلابي لإيوائهم ..!
وهل تعلم يا سيدي النابلسي أن حوالي مائتي ألف مواطن عراقي من (الكرد الفيلية) الذين سفرهم صدام حسين إلى إيران وغيرها لم ينالوا حتى الآنحق عودة الجنسية العراقية لهم ولم تعترف الحكومة الديمقراطية العراقية الحالية لهمبحقوق المواطنة العراقية أصلا ..فكيف يعودون!
لقد عاد إلى العراق عشرات الآلاف من العراقيين بعد أن قرروا ترك بلدان الحرير وهم الآن موزعون في مختلف دوائر الدولة العراقية و مؤسساتها الثقافية يعملون فيها بجد وحماس وكفاءةحذرين مما يحاك حولهم من الطائفيين وغيرهم من قصيري النظر ، واغلبهم يعاني مآسي السكن أو العمل وكثير من حملة الشهادات العليا يطرقون أبواب الدولة لتعيينهم ولا من مجيب. بإمكاني يا سيدي شاكر النابلسي إيراد آلف مثال املكه عن عودة العائدين ولكنني اكتفي ببعض الأمثلة:
مجموعة كبيرة من التكنوقراط العراقيي ن مجموعهم 150 مواطنا عراقيا عادوا فور سقوط النظام الدكتاتوري ليملآوا جزءا من الفراغ الناشئ عن سقوط الدولة البعثية ومؤسساتها بهدف وضع الأسس والقواعد والخطط لإعادة أعمار العراق لكنهم ما استطاع أكثرهم من القيام بواجبه بعد العام الأول من وجوده في العراق لان الكثير من النظرات السلبية أحاطت بوجودهم لاصقة بهم تهم العمالة لأمريكا بينما اغلبهم من العناصر الثقافية الوطنية اليسارية (الروائي إبراهيم احمد .. الشاعر صادق الصائغ .. الكاتب
الدكتور عدنان عاكف .. الكاتبإبراهيم الزبيدي) وغيرهم ..فاض طروا لمغادرة العراق ثانية عام 2004 .
إسماعيل زاير صحفي عراقي كان يعيش على "الحرير الهولندي"ربع قرن من الزمان لكنه عاد إلى العراق بعد أسبوع واحد فقط من سقوط الدكتاتورية ليؤسس صحيفة يومية
كان من نتائجها أنهم احرقوا مطبعته مرة وحاولوا اغتياله مرتين قتل فيها سائق سيارته واختطفوا شقيقه فدفع الجزية أو الفدية ألاف الدولارات لإطلاق سراحه.
الدكتور شاكر الدجيلي قرر العودة إلى بغداد من الشتات الحريري في السويد عن طريق الدولة العربية الشقيقة سوريا فتم تغييبه إلى الأبد على يد المخابرات السورية البطلة أو غيرها من الجهات القومية البطلة الأخرى ..!
السيدة هناء عادت من منفاها الحريري وبعد يومين فقط قتلوها في حي الجامعة وهي التي كانت تريد في ذلك اليوم الذهاب إلى جامعة بغداد لغرض تقديم أوراقها للتعيين فيها .
الصحفي إبراهيم الحريري المعروف منذ خمسين عاما بدفاع كتاباته اليومية عن الفقراء والعمال والفلاحين ترك بيته الحريري في القطب الكندي ليعود إلى بغداد يكتب كل يوم عن المعدمين وليقاسمهم آلامهم وهو ينتقل من غرفته العراقية الخشنة التي يعيش فيها إلى مكان عمله في صحيفة طريق الشعب منتقلا على دراجة هوائية وهو لا يملك حتى أجور التاكسي ..!
الشاعر عدنان الصائغ لم يقرر العودة إلى العراق لكنه ذهب إلى مهرجان المربد العراقي في البصرة عام 2005 ليلقي قصيدة ليس غير وليعلن أن قلبه ووجدانه ووجوده الثقافي والشعري ليس في بريطانيا الحرير بل في الخيش العراقي وما أن تلا قصيدته وأكملها حتى هدده مسئول إسلامي بالقول ( غادر تسلم ) فغادر المربد فورا عن طريق الكويت ليعاود آلامه على حرير لندن..!!
المفكر الإسلامي ضياء الشكرجي عاد إلى العراق من مهجعه الألماني الحريري فكابد ما كابد من معاناة حتى من أقرب رفاقه الحزبيين أجبرته ثانية لمغادرة الوطن لا لسبب إلا لأنه مفكر متنور يريد النور للإسلام والمسلمين خاف منه حزبه الإسلامي قبل غيره..! ولا بد انك سمعت عن الصحفي الإسلامي محمد عبد الجبار الذي طرده إسلاميون ومسلمون من رئاسة تحرير جريدة الصباح الحكومية بقوة التهديد والسلاح فعاد إلى "الشتات الحريري" مستبدلا إياهبالكويت الجار القريب لوطنهبدلا من بريطانيا البعيدة التي عاش فيها حرا قبل سقوط النظام الدكتاتوري.
هل تريد المزيد أيها الأخ العزيز..؟ هذه مجرد أمثلة مكتسبة من تجارب عودة العراقيين التي يرغبون فيها أحياء كانوا أ م أمواتا ..!!
حتى جثمان الشاعر كمال سبتي العائد من مكان موته في هولندا كاد أن يطير فوق عش الوقواق عندما ذهب ليدفن في المقبرة النجفيةولم يكن حال عودة جثمان الفنان التشكيلي زياد حيدر إلا معقدا أيضا. وكلاهما سبتي وحيدر أوصيانا بدفنهما في تراب وطنهما بدوافع البرهنة على حب الوطن.للعلم ليس غير أود أن أعلمك أنني شخصيا استلمتُ حتى الآن 109 رسالة تهديد بالقتل وقد نشرت جريدة الأهالي البغدادية نص الرسالة التنديدية الإسلامية رقم 100 التي يقول فيها كاتبها المسلم مهددا أياي في حال عودتي إلى العراق(أنهم سيقطعون جسدي العلمانيإربا إربا ويرمون لحمي للكلاب السائبة الجائعة في بغداد) لذلك فأنا جاسم المطير أوصيت بدفني في هولندا بعد مماتي ..!
أرجوك أيها الأخ النابلسي أن تعيد النظر في مقالتك وان تسمو بمعاناة العراقيين في منافيهم التي تتصورها حريرية متمنيا لك الابتعاد عن روح العاطفة أو الغضب وعن روح مصادرة دور العراقيين في المنافي وعملهم من اجل مصلحة شعبهم ووطنهم . فالملايين من العراقيين في "الشتات الحريري"ينتظمون في فروعأحزاب عراقية أو في جمعيات أو في منظمات مجتمع مدني أو في تجمعات ديمقراطية في تنوع نشاطي يكمل نشاطات ثقافية أو اجتماعية أو سياسية لما يجريها رفاقهم أو زملاؤهم داخل الوطن . في يوم 14 أيار الجاري سينعقد مؤتمر ثقافي عراقي كبير لكن ليس في بغداد بل في عمان لمناقشة شئون ومعاناة الثقافة والمثقفين داخل العراق وخارجه.
انك مسرور لحضورك مهرجان المدى السنوي هذا العام في اربيل أو لسماعك عن مهرجان المربد أو غيرها من المهرجانات والاجتماعات العراقية داخل "العراق الجريح"
لكنك ربما لم تسمع أو تواكب مهرجانات "العراق الحريري" الثقافية والندوات السياسية والاقتصادية والعلمية الجارية كل أسبوع وكل شهر على مدى أيام السنين وشهورها ابتداء من نيوزيلندا مرورا باستراليا ومشيغان وليس انتهاء في برلين وموسكو. المهرجانات العراقية في خارج الوطن مستمرة امتدادا مع داخله ، فإن كان هناك مربد بالبصرة كل عام فهنا عشرات المرابد كل عام، وإن وجدت أو سمعت عن مهرجان ثقافي سنوي داخل العراق فان عشرات مثلها تجري، هنا، كل عام. نأمل أن يساعدك حظنا في حضور إحداها بالمستقبل لترى بأم عينيك أن لا حرير في منافي العراقيين بل معاناة قاسية مميتة لا يخفف منها غير علمانية الدول المقيمين فيها حيث تنتشر وتسود قيم ليس لها أي مثيل في دول عربية أو إسلامية.
لك مني في الختام تحيةبلا عتاب وأرجو أن لا تنسى أن مقالاتك الغزيرة المتواصلة والجريئة يعتز بها ناشرون عراقيون في الشتات الحريري فينشرونهاأكثر بألف مرة مما ينشرها آخرون أينما كانوا في بلدان العرب المسلمة بما فيها العراق.
بصرة لاهاي في 7 - 5 - 2007