كتَّاب إيلاف

الدين في المدرسة العراقية الجديدة بين التربية والعلم

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لا يمكن تفادي تدريس الدين في المدرسة العراقية الجديدة، ولا أعتقد أن موضوعيا يجازف بطرح مثل هذا الطلب حتى إذا كان معقولا في حد ذاته، ولا أتصور أن الاسباب خفية، وقد سلطت الضوء بعض الشي على هذه النقطة في حلقة سابقة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حقا هنا، هل على المدرسة العراقية الجديدة تناول الدين كمادة علمية أم مادة تربوية؟ أي هل تتناول المناهج الدينية في المدرسة العراقية الجديدة موضوعها الذي هو (الدين) على نحو القضية العلمية أم على نحو التربية والتوجيه؟
وفرق كبير بين الطرحين...

إن الدين كـ (مادة) تربوية غير الدين كـ (مادّة) علمية وذلك بشكل عام، فإن التوجه أو المنحى الثاني يتناول الدين كقضية خاضعة للتحليل العلمي، وعندئذ تدخل علوم كثيرة في صلب الموضوع، مثل علم النفس الديني، وعلم الاجتماع الديني، وعلم مقارنة الاديان، والانثروبولوجيا، وعلم الاجناس، وعلم قراءة النص، وعلم الاسطورة، وعلوم اللسانيات، وغيرها من العلوم الإنسانية الاخرى، حيث يتم طرح الكثير من المسائل العميقة التي لها علاقة بالدين من حيث كونه ظاهرة اجتماعية معقدة تمتد إلى بدايات النشوء البشري، وتدخل في صميم تكويننا الثقافي والتشريعي والسياسي، فهناك تتم دراسة أصل الدين، وتاريخه، وعلاقته بالمثل الاعلى، و دوره في صناعة التاريخ إيجابيا أو سلبيا، وصلته بالصراع السياسي. وليس شرطا أن تكون نتائج الدراسة مرضية لكثير من المتدينين، وليس شرطا أن تأتي هذه النتائج متفقة مع أمهات القواعد الدينية التي أتفقت عليها الاديان وأربابها ومفكروها، بل قد تأتي النتائج معكوسة تماما، تنتمي إلى اللاأدرية، أو مملكة رفض الغيب.

قراءة الدين قراءة علمية، أو عقلنة الدين، أو أخضاع الدين لأدوات التحليل العلمي، هذه القراءة اليوم من أهم المواد التي يهتم بها العقل الغربي في مجال الإنسانيات، ولها مدارس ومذاهب، وليس لها علاقة وطيدة بالدين باعتباره مادّة تربوية، مادة أو تعاليم تنشط الجانب الروحي من الإنسان، تهذب غرائزه، وتعبد له الطريق إلى الصحة النفسية، اللهم إلا من طرف بعيد، وليس بالصميم.
الدين باعتباره مادة تربوية مسالة أخرى، لا علاقة لها بعقلنة الدين بالمفهوم الذي تعالجه علوم الانسانيات، الدين هنا مادة تقويم، إصلاح، تنشيط للروح، إيقاظ للضمير، تهذيب للجانب المادي الوحشي من الإنسان، تسلية روحية، سلاح لمواجهة الخوف من الموت، والخوف من المجهول، والخوف من الفشل، زر ع ا لامل في النفوس التائهة، التمرين على القيم الروحية الجميلة.

الدين كمادة تربوية أمر شائع، نجده بطبيعة الحال في الأماكن الروحية، مثل المساجد والكنائس وغيرهما، نجده في الجمعيات الخيرية، نجده في المقاهي، في الشوارع، في المدارس، على شكل محاضرات وحوارات وتوصيات وكتب ونشرات، شأن شعبي سائر، ولكن الدين كمادة للتحليل العلمي فهو من أختصاص العلم، ليس أمرا شائعا، بل ربما هناك حملة شعوى عليه من قبل رواد الدين الدعاة، من رواد العودة إلى الدين، من رواد حملة الدين كرسالة في الحياة وطريق خلاص على كافة الاصعدة، الروحية منها والمادية.

ليس من المعقول أن يطرح الدين في المدرسة العراقية الجديدة مادة للدراسة العلمية، أي أن يكون مادة تحليل على ضوء تلك العلوم التي سبق وأن أشرت إلى بعضها، وذلك على المستوى الإبتدائي او الإعدادي، اللهم إلا بشكل عابر، فإن هذه المعالجة هي من أختصاص المرحلة الجامعية، وإنما المعقول هو أن تتناول المدرسة العراقية الجديدة الدين مادة تربوية وليس مادة علمية، مادة توجيه وإرشاد وتهذيب، أي أن تلتزم المدرسة العراقية الجديدة وهي تدرس الدين بالاهداف التي أ علن الدين عنها، رسالته التي أعلن عن خطوطها العريضة بشكل واضح وصريح،، وهي الإيمان والسمو بالروح وتهذيب النوايا وتاسيس روح التصالح مع النفس والغير والعالم ونشر السلام وتحقيق الاطمئنان الداخلي والتخلي عن الشر وتركيز مبدا المحبة والتسامح بين البشر.

لقد أعلن الرسل الكرام أنهم جاءوا لهداية البشرية، لوضع الناس على طريق الهدى، الطريق المستقيم، طريق ا لانسان الاخلاقي، لتجنيب البشر الحروب والدم والظلم والعصيان والخطيئة والتسافل الاخلاقي، فالمطلوب من المدرسة العراقية وهي تضع منهج التعليم الد يني أن تنتبه إلى هذه النقطة بالذات، ولا يشتط بها الحماس ــ خاصة وإن وزير التربية والتعليم من المتدينين ــ فتخلط بين الدين كمادة تربوية والدين كمادة عقلنة وتحليل، فتنبثق فوضى مفاهيمية، وتزج الطالب المسكين في عوالم مبهمة، فالذي اخافه أن يشتط الحماس بهذه المدرسة ومن أجل الد فاع عن الدين كحقيقة وقضية ومنهج وهدف تلتجا إلى علوم النفس والتربية والاجتماع وغيرها للدفاع عن الدين، ومكتسبات الدين، وأهداف الدين، وغايات الدين، وغيبيات الدين...
لقد شاع في الإيام الاخيرة مثل هذا المنهج، وهو منهج خطير للغاية، ومن العجب أن نلتقي أحيانا بعالم ديني يدافع عن الدين، حيث يلجا إلى علوم النفس و الاجتماع وعلوم مقارنة الاديان مبتدا كلامه بـ (وقد ثبت في علم النفس...) !
لا أدري كم يقتنع رواد المنهج الديني في المدرسة العراقية الجديدة بكلامي هذا، لأني أعرف أن بعض هؤلاء (الرواد) من غير الاختصاصيين في المناهج، وتمتلكهم حماسات غير علمية وغير موضوعية، ولم يتمتعوا بحاسية التمييز بين المناهج، لا اقول ذلك من فراغ، فإن مستشار السيد وزير التربية للمناهج الدينية (كارثة !!!!!!!!).

يتبع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف