كتَّاب إيلاف

عندما قبلتني السـت فاطمة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

يهود العراق، ذكريات وشجون (الحلقة 16)

عرف العراق مناحات كثيرة في تاريخه الطويل، أولها مناحة الحسين بن علي بن أبي طالب "أمير شباب الجنة" و"سيد الشهداء"، وهي مناحة لا تزال تعاد كل عام لتذكر البشرية بالظلم والحيف الواقع على الأبرياء في كل عصر وجيل، وكتاب "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الإصفهاني مليء بتراجم شهداء أحفاد جعفر بن أبي طالب الذين استشهدوا في صراعهم السياسي ضد العباسيين. كنا نذهب بصورة خاصة إلى محلة حنون صغير الواقعة على شارع غازي لنشاهد من راء الستار مواكب العزاء في عاشوراء وقد أخذنا الخشوع والأسى لمراسم الحزن العميق الذي يمتد في أغوار التاريخ كالجرح النازف أبد الدهر. وقد ذكر لي صديقي أستاذ الكيمياء في مدرسة شماش ودار المعلمين العالية في بغداد الدكتور نسيم عزرا نسيم، واصله من الديوانية، كيف وجد يهودي نفسه فجأة في وسط موكب عاشوراء. تعرف عليه رجل من المشاركين وصاح به "ولك أيهودي أشدتسوي هنا، تريد اتموت"، فجاء أحد معارفه وصاح: "ويعني شنو إذا كان يهودي؟ بلكت حنّ قلبه على الحسين وجا يبجي عليه ويانا!" وهكذا أنقذه صديقه من خطر محقق، فالرجال لا يحبون أن يشاهد الغرباء أغوار عواطفهم طافحة على وجوههم وجزعهم ودموعهم في ساعات حزنهم العميق. وقد اصطحبني صديقي في مدرسة السعدون، صادق بن محمد مهدي كبة ذات يوم إلى دارهم الواسعة قرب الشط (شاطئ دجلة) في الكرادة لأشاهد ترتيبات "عزا الحسين" قبل قدوم الرجال وشاهدت صحن الدار مفروشا بالسجاجيد والدواشك والمخدات، وقرب كل مخدة نسخة من قصة "التعزية" ومروحة من الخوص إلى جانبه. ولا أزال اذكر كيف كاد يفتك أصحاب مخبز يهودي في البتاويين برجل مسن حاول الحصول على أقراص الخبز متجاوزا دوره بقوله على سبيل المزاح للخباز "يالله انطيني الخبز، آني مستعجل لازم أروح، عندي "طبك" مال عاشورا!" لأنه مس بمقدسات الشيعة وبمشاعرهم التي يحترمونها لأنها تذكرهم بمناحة اليهود في التاسع من كل شهر آب في ذكرى خراب "الهيكل" في بيت المقدس.
والحزن يوحد العراقيين وينسيهم الضغائن والأحقاد. أدركت ذلك في سن مبكرة في محلة البتاويين حينما كانت ابنة أخت باهيزا الزوجة الثانية لأبي علوان، الذي كان يعمل بستنجيا عندنا، زعلانة مع أم علوان الزوجة الأولى ولم تبادلها الكلام شهورا عديدة. ولكنها عندما مرّتْ ذات يوم قرب كوخ أبي علوان وسمعتْ صراخا وعويلا يتصاعدان من كوخ ضرة أختها وشاهدت حريمه وبنات الحمولة ونسوة المنطقة من الفلاحات قد انتظمن في دائرة كبيرة في وسط بستان مامو وقد حررن شعورهن الطويلة من المناديل ومزقن جيوبهن (طوق قميصهن) وكشفن عن صدورهن وأخذن يلطمن وهن يرددن "أحـو، أحــو، أحـو" في رقصة مناحة مخيفة بثيابهن الصوفية السوداء وهن يرسلن شعورهن الطويلة تتطاير في الهواء وقد عفرن وجوهن بالتراب ويصرخن صراخا يقطع نياط القلوب "يا بووووي، يابووووي"، ويلطمن صدورهن على إيقاع رهيب "أحّو، أحّو، أحّو" ثم يرددن مرة أخرى مع العدادة:
"إحـو، يا حبّابة يا يُـمـّا \ حجلج الغالي لأضمـّه \ إحو يا حبّابة يا يمـّا"
نسيتْْ الخصام والتحقت بدائرة النائحات حسب التقاليد التي ورثتها المرأة العراقية منذ أيام سومر وأكد وبابل. كانت تسير وحيدة قرب الكوخ ولم تكن تدري ماذا حدث. وعندما سمعت العويل والنواح وضعت الدلوين على الأرض بحذر واشرأبت بعنقها كاللبوة التي استشعرت رائحة خطر متربص، فلما سمعت اسم المتوفاة تناست العداء بينها وبين أم علوان وانضمت إلى النائحات والعدادات اللواتي يعددن مناقب الفقيدة ليسعدن النساء على ذرف الدمع المدرار وهي تولول بصوت حزين "يا بوووي، يا بوووي \ يا حبّابة يا يما". وقد أصبتُ على إثر مشاهدتي مناحة النساء هذه بأرق طويل خلال شهور عديدة.
شاء القدر أن أشاهد مناحة أخرى يقوم بها الرجال، وهي مناحة مصرع الملك غازي (1939)، وقد وحدت هذه الكارثة أفراد الشعب العراقي أيضا في حزنهم الغامر، واشتركوا جميعا بدون فارق ديني أو مذهبي في مسيرات العزاء. وبعد الأربعين بأسابيع عديدة أقبلت علينا الست فاطمة مدرّسة التاريخ والطبيعة في مدرسـة السعدون الابتدائية النموذجية وهي تبتسم لأول مرة منذ مصرع الملك الشاب الوسيم وأخبرتنا نحن تلامذة السنة الثانية بأن على جميع طلاب المدرسة المشاركة غدا باحتفال المدارس العراقية بعيد ميلاد الملك المفدى فيصل الثاني في بارك السعدون (المنتزه الواسع الذي أقامته أمانة العاصمة تقليدا لهايد بارك في لندن) والذي يقع قرب مدرستنا. سرتْ الفرحة في قلوبنا بعد الحزن الغامر الذي عمنا منذ أن صعقنا نبأ مصرع الملك غازي المفاجئ. كانت مواكب العزاء تشمل كل طبقات الشعب العراقي وفئاته. وفي مدرستنا قاد موكبنا طلاب اكبر سـنا قدموا من مدارس أخرى. كنا نخرج من المدرسة وفي مقدمتنا عبد الرحمن الجابي وأخوه طالب، وينضم إلينا كل من إياد وقيس ابنا الدكتور علي غالب وفيصل أبن رشيد عالي الكيلاني وابنا فاضل الجمالي وأبناء عائلة الأزري وصادق ابن محمد مهدي كبة ولؤي القاضي وخيري وغيرهم من أبناء كبار رجالات العراق الذين درسوا معي في هذه المدرسة النموذجية، وكنا نخرج من المدرسة ونحن نردد وراء الطلاب الكبار الهتافات ونلطم على صدورنا على وقع الشعارات، متعمدين أن تصبح حمراء من اللطم لكي نفاخر بمدى حزننا:
الله أكبر يا عرب غازي انفكد من داره واهتزت أركان السما من صدمة السيارة
ثم ننتقل إلى الهتاف التالي الذي آلمنا جميعا أكثر من غيره:
مات غازي واشتفتْ به العدا فيصل الثاني الله يسـاعده
فهذا البيت خاصة كان يذكرنا بيتم المليك الطفل وبمصرع والده وقد اتهم الشعب العراقي أعداء الملك غازي الشاب الحكومة البريطانية خاصة بتدبير مصرعه، ثم أدركنا فيما بعد أن "العدا" هم الأنكليز والآثوريون الذين نكل بهم الملك غازي أثناء غياب والده في أوربا بسبب مطالباهم القومية لكي يظهر بمظهر الملك الشاب الحازم المتحمس وليثبت للشعب العراقي وللشعوب العربية رجولته وبطولته، حتى يقال أن جامجم القتلى علقت على أقواس النصر التي أقامها المحتفلون (ثم جاء حزب البعث فيما بعد وادعى إن سبب مصرعه كانت أمور أخرى عاطفية لا يصدقها العقل).
كان الملك الطفل اليتيم فيصل الثاني محور عطفنا وشفقتنا نحن الصغار، لأنه تيتم في سـن تقارب سننا الذي نخشـى فيه من فراق الوالدين، لذلك غمرتنا الفرحة العارمة عندما أخبرتنا الست فاطمة باحتفال العراق بعيد ميلاد المليك المفدى في الغد في بارك السعدون وأن على جميع الطلاب والطالبات المشاركة في الاحتفال. فرحنا لأننا وجدناها فرصة سانحة لتفريج كربنا بعد الحزن الذي عمّ العراق خلال أسابيع طويلة.
صادف يوم الاحتفال أحد الأعياد اليهودية، وقال لي صديقي زيد ابن وزير المعارف هامسأ: "نيّالكم، أنتو الله يحبكم وانطاكم هوايا (الكثير) أعياد". وهرعت مع أطفال شارعنا قرب صلاة (كلمة أرامية، بمعنى كنيس) مئير طويق في البتاويين إلى المشاركة في الاحتفال. كان بارك السعدون القريب من دارنا مزينا بالأعلام العراقية الملكية المربعة الألوان حسبما ذكرها صفي الدين الحلّي في حماسته التي تعدد خصال العرب السامية، والموسيقى تصدح وفرق الرقص الشعبي تقوم بعروضها والخطباء يخطبون بحماس معزين العائلة المالكة والشعب العراقي على فقيد العراق ومتفائلين بالمليك الطفل، وكان المغنون والمحتفلون منتشرين في كل مكان من هذا البارك الجديد الذي يضم مساحات واسعة من بساط "الثيّل" (العشب) الأخضر اليانع، والزهور والنباتات الغريبة الألوان والأشكال رسم البستانيون بواسطتها عبارات الترحيب: "صباح الخير" و"اهلا وسهلا"، إلى جانب الأشجار المشذبة على شكل حيوانات مختلفة. وكان في وسط البارك عمود منتصب كالصاري، طويل أملس التف حوله أساتذة وطلاب من مدارس مختلفة وتدلى من رأس العمود حبل طويل أمسك بطرفه أحد الأساتذة أما الطرف الثاني فكان يمرّ على بكرة وهو مربوط إلى إطار حديدي علقت عليه أكياس السكاكر و"الحامض حلو" من مصنوعات أوربا وهي مغلفة بالورق الشفاف الملون البراق. أقبل بعض الطلاب والطالبات يجربون حظهم ويحاولون تسلق العمود. كان مدير مدرسة "التفيض" هو المسئول عن هذه اللعبة، وكان يقرب الأكياس من رأس الطالبات حتى قبل أن يتسلقن العمود ليمكنهن من نزع الأكياس بسهولة، أما إذا تسلق أحد الطلاب فكان يقرب الأكياس من رأسه وإذا مدّ يده أسرع المدير إلى سحب الأكياس بسرعة إلى الأعلى مسافة قصيرة من رأسه المتسلق ليواصل محاولاته. استهزأت بطريقة الطلاب في التسلق فقد كنت مع إياد علي غالب من هواة تسلق الأشجار والأعمدة في حديقة بيته الواسعة. تقدّمتُ إلى المدير وقلت له بعد أن أخفق بعض الطلبة في التسلق: "أريد أصعد!". نظر إليّ المدير باستخفاف لصغر سني وقال لي بتحدٍ: "يلّلا اصعد، دنشوف شطارتك!". فتحمس إخوتي وأصدقائي وصاروا يصيحون: "أي سامي اصعد! أبدالك اصعد، لا تخاف!". كشف هذا التشجيع عن هويتي، وما أن وضعت يديّ على العمود حتى همس أحد الأساتذة للمدير: "أستاذ! دير بالك ترا هذا حسـقيل!". وما أن سمع المدير كلمة "حسـقيل" حتى اكفهر وجهه وكأن أفعى نهشـته، وسحب الحبل بسرعة إليه وإذا بالأكياس الملونة تحلق طائرة نحو السماء بسرعة مذهلة. ندت من الطلاب والمتفرجين صيحات دهشـة واستنكار، تشوبها ضحكات تشفي واستهزاء، وابتسم المدير ابتسامة صفراء، فخورا بفعلته المثبطة للعزيمة، كأنه يقول: "يللا اصعد! هسّـا أنشوف حسقيل شيسوي!". أغضبني هذا التحدي السافر وزادني إصرارا على مواصلة الصعود رغم الارتفاع الشاهق للعمود ورغم المسافة الشاسعة بيني وبين الأكياس اللامعة التي بدت كأنها تشارك المدير بسمته الساخرة. تعالت أصوات الجموع المحتشـدة وأنا أواصل التسلق بإصرار "إي! ولك عفيا، أصعد بعد يا سبع، اصعد ... أصعد ...!!". بلغت منتصف العمود، وتوقفت عندما بدأ العمود يترنح يمنة ويسرة، وندت صيحة خيبة أمل من المتفرجين،، ثم ساد صمت عميق. قلت للمدير: "العمود صار يميل، أخاف يوكع". بادر ثلاثة من المعلمين إلى الإمساك بالعمود ودعمه، وقالوا لي: "لا تخاف! إحنا لازمينا". وعندما تأكدت من ثباته واصلت التسلق بسرعة وتعالت الأصوات المحرضة مرة أخرى بحماس أشدّ: "إي عفيا سبع، إصعد، إصعد..."، وانضمّ الجميع كجوقة موسيقية تردد: "ولك على الأصفر... ولك على الأحمر...ولك على الأخضر...!!" وأنا أواصل الصعود وبدت الأكياس الصفراء والحمراء والخضراء والزرقاء هذه المرة ضاحكة متهللة لاقترابي منها. وحين بلغتْ القمة ولامست الأكياس شعر رأسي توقفتُ لألتقط أنفاسي. أخذ كل واحد من المتفرجين المتحمسين يطالب بإنزال الكيس ذي اللون المفضل لديه. وببطء رفعت يدي اليمنى نحو الأكياس وتعالت الأصوات مرة أخرى مشجعة ومرددة: "على الأحمر ... على الأصفر... على ... على..."، أمسكت فجأة بالكيس الأحمر الذي شابه وجه المدير الذي لوحته الشمس بغضب وقطعت الخيط المعلق به... تعالت أصوات الاستحسان من الذين فضلوا الكيس الأحمر، وتعالى التصفيق والهتاف من كل جانب: "والله بطل... والله سبع... عفيا بالسبع". وفجأة، قربت الكيس من أسناني بغضب بالغ ومزقته وألقيت بمحتوياته على رأس المدير والمعلمين وانزلقت بسرعة إلى الأرض. كان بعض المعلمين يلتقط السكاكر المغلفة بورق شفاف لامع ويجمعها في كفيه ثم يدسها في جيوبي ... وربّتَ أحدهم على خدي قائلا بإعجاب: "عفيا بالسبع... والله بطل...". انقض عليّ مدير مدرسة "التفيّض" بغضب وسألني بتحدٍ: "ولك ليش شكيت الجيس؟" (ويلك، لماذا مزقت الكيس؟) فأجبته بفخر وكبرياء وشماتة: "آني ما طلعت على العمود خاطر الجيس، آني طلعت على شرف المدرسـة!!!". بهتَ المدير من جوابي المفحم وقال لرفاقه: "أشو هذا طلع أيهودي ابن أيهودي". أحاط بي الأصدقاء طالبين حصتهم وأتعاب تشجيعهم وتصفيقهم... وزّعت السكاكر عليهم وهم يهللون لهذا النصر لمدرستهم، وعافت نفسي من تناول واحدة منها لأشاركهم بفرحة بالنصر. سار الأقارب والأصدقاء محيطين بي بفخر واعتزاز وهم يقولون لمعارفنا الذين يمرون بنا في الطريق إلى دارنا: "سامي صعد على العمود وشـقو الكيس وأغمانو على غاس المدير" (سامي تسلق العمود ومزّق الكيس ورماه على رأس المدير). ولما سمع والدي بالقصة قال والقلق باد على وجهه: "كل المعلمين ساغوا نازيين، الله الستار!" (كل المدرسين أصبحوا نازيين، والعياذ بالله). فقالت والدتي: "أبيل وأغماد على هيكذ مدير! قيتغالب ويا ولد يطلع مقد أبن أبنو!"! (الويل والثبور لمثل هذا المدير، يتنافس مع طفل في سن حفيده)". فردّ عليها الوالد: "مقد تفتهمين! قيغيد أيقلو أنتا ما عراقي، ما منـّـنا، وإنتي قتخفين على سامي! ليش سامي يتعبّا بالجيب؟!" (ألا تفهمين! يريد أن يقول له أنت لست عراقيا، لست منّا. وأنت تخشين على سامي! هل هو ممن لا يعبأ به؟".
دخلت المدرسة في اليوم التالي وكأن شيئا لم يحدث البارحة. فإذا بالطالبة بثينة الكيلاني تقول للست فاطمة: "سـت فاطمة، سـت فاطمة! البارحة سامي طلع على العمود وشك الجيس باسنانه، ولما سأله المدير، ليش؟ كلّه: "آني ما اصعدِتْ على مود الجيس والحامض حلو، آني اصعدت على شرف مدرسة السعدون !!!." ابتسمت السـت فاطمة ابتسامة عرضة ولمع السن الذهبي بين شفتيها ببريق خلاب، وربـّـتـت على رأسي ثم قبلتني من خدي وقالت لي بفخر واعتزاز: "عفيا سامي! والله أنت سبع وراح يصير براسك خير، عندك مستقبل!". عند ذاك فقط أدركت بأني قمت بعمل يستحقّ الإعجاب، وإلا لما قبلتني مدرّستي المفضلة الجميلة.
وفي عام 1999 عندما قرأ عريف حفل توزيع جائزة إسرائيل قرار لجنة التحكيم التي رشحتني لنيل الجائزة عن أبحاثي في الأدب العربي ودعاني إلى منصة الرئاسة حيث وقف على أقدامهم رئيس الدولة آنذاك السيد عيزر وايزمان، ورئيس الحكومة السيد بينامين نـتـنياهو ووزير التربية والتعليم السيد أسحق ليفي، ورئيس العاصمة آنذاك السيد إيهود أولمرت، وغيرهم من كبار رجالات الدولة، اعترضتْ طريقي إلى المنصة الست فاطمة وقبلتني مرة أخري وقالت لي: "سامي! آني ما كلتلك أنت راح يصير براسك خير؟!". قلت لها: "ولله تمام، لكن بالله كوليلي صدكْ مِنْ سِمع الرئيس صدام حسين انو يهود العراق تقدموا هنا وصار منهم رئيس أركان الجيش ورئيس الكنيست ووزراء وأساتذة جامعات وأطباء وعلماء وكتاب وشعراء مشهورين، كال: وليش لا! مو هاي هيّ العبقرية العراقية؟", ضحكت الست فاطمة وأجابت: والله هيج يكولون، لكن يكولون همين (أيضًا): من راحوا اليهود من العراق، راح الخير ويّاهم؟"، قلت لها مواسيا: "كل ما يقوم به يهود العراق وما يقدمونه من خير إلى إسرائيل ينسب إلى العراقيين، فنحن هنا ما زلنا نُسمّى عراقيين، شايفه شلون؟ إسمعي!!"
وواصل العريف: "ولد البروفيسور ... في العراق ... ودرس في مدارس العراق ... ونشر أشعاره في جرائد العراق ... وقدم إلى البلاد عام 1951 مع الهجرة الجماهيرية من العراق ... ونشر المقالات والكتب العديدة عن الأدب العربي وعن يهود العراق ... عراق ... عراق ... عراق... " أطل السياب بوجهه النحيل الحزين وقال: "من الأفضل أن يقرؤوا قصيدتي "غريب على الخليج" فهي تعبر خير تعبير عن موقفكم يا يهود العراق، وذلك عندما قلت:
الريح تصرخ بي: عراق!
والموج يعول بي: عراق! عراق، ليس سوى عراق!
والبحر أوسع ما يكون، وأنت أبعد ما تكون
"والموت" دونك يا عراق..."
فانطلق حمزة الحسن من عزلته في "أورستا" النرويج وقال لي: "أرانا الآن يا شاؤل، غرقنا في وحل واحد. لكنك أفضل حالا، أنت في وطن وأنا في منفى. هل تقبل بهذه المقايضة؟". قلت لحمزة بإشفاق: "كل واحد منا يؤمن بكتبه السماوية، فمتى نؤمن بالإخاء الإنساني أيضا!".
وعند مصافحتي لرؤساء الدولة المهنئين نظرت إلى وجوههم لأعرف هل سمعوا حواري مع "الأعداء"؟ وهل يعلمون سبب نظراتي الساهمة؟؟؟
قالت لي الأديبة سميرة المانع بعد أن انتهى الحفل: "نحن المسلمين العراقيين، سوف لا نعود إلى العراق إلا بعد أن يعود إليها اليهود لنرى كيف ستعاملهم الحكومة العراقية!". أجبتها: "أما نحن يهود العراق، فما زلنا أكثر من خمسة وخمسين عاما نتمنى أن تهتم الحكومات العراقية بالشعب العراقي المسكين وأن يسود السلام والإخاء بين أفراد الشعب العراقي وبين العراق وجاراتـها، قائلين: "لعل السلام يسود قريـبا ونزور العراق مرة واحدة في العمر لنتذكر أيام الطفولة الرائعة، فشربة ماء من أنهارها العذبة قد تعيد لنا شبابنا الراحل!". دمعتْ عينا سميرة وهي تودعني واختفت معها الجموع المحتفية وهي تقول: "ترى! هل ستجود الأيام وتحقق الأحلام؟!!".


كتبت هذه المذكرات لتنشر في "إيلاف". الأسماء التي وردت فيها هي أسماء حقيقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤلف هذه المذكرات ولا يسمح بنقلها بأية صورة كانت سوي باتفاقية خاصة وبترخيص خطي من المؤلف. أ. د. شموئيل موريه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف