دياسبورا العراقيين في الشتات الصعب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
" الشمس أجمل في بلادي من سواها
والظلام..
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق ".
بدر شاكر السّياب
مقدمة
لعل من اكثر من يؤلم حقا ان يتجّرد بعض الكتّاب والمهتمين بالشأن العراقي للكتابة التي لا مبرر لها في " موضوع " لا يلّمون بتفاصيله ابدا، ولا يدركون جذور تعقيداته ثانيا، ولا يفقهون سر مشكلاته واشكالياته ثالثا.. ليكتبوا عنه ويتفلسفوا فيه من دون دراية كافية ولا اي معرفة وافية.. ويخرجون باحكام خاطئة، ويا للاسف الشديد. ان موضوعا كهذا الذي يعالج مشكلة ملايين العراقيين الموزعين بالالاف المؤلفة في شتات العالم ينبغي الاحاطة بابعاده وادراك مخاطره.. ولكي نفهم اهميته فقط، فاننا بحاجة ماسة الى دراسات وبحوث ومعالجات دقيقة من اجل تكوين رؤية علمية واضحة عنه خصوصا وان تعقيداته تلك لا تقتصر على جانب واحد، بل انها تتعلق بسياسات دولة وقرارات سلطة وعلاقات مجتمع وانهيار اقتصاد وتاريخ حروب وتنوع واسع من الاسباب والمسببّات التاريخية التي اوصلت العراقيين الى هذا الوضع الصعب. ولابد ان اوّضح بأن مصطلح الـ " دياسبورا " ـ لمن لم يعرفه ـ هو كلمة يونانية قديمة تعني: الشّتات.السّبي.الانتشار في الارض والمنافي.
العراقيون في الشتات.. اكبر من شعب كامل!
وينبغي ان نعلم أيضا، بأن العراقيين اليوم يشكلون اكبر الاعداد من المهاجرين عن وطنهم في العالم مقارنة بعدد سكان البلاد الاصليين، وذلك نتيجة الظروف الصعبة التي الّمت بهم على عهود مختلفة وخصوصا منذ العام 1991 وحتى الان. وليست هناك اية احصائيات ثابتة يمكننا التعويل عليها في معرفة ملايين العراقيين الذين هجروا العراق في ازمان مختلفة نحو ارض الله من دياسبورا الانتشار.. ولكن بالتأكيد ان المهاجرين العراقيين، او كما يسمونهم، بعراقيي الخارج هم في وزنهم الديمغرافي اكثر من شعب كامل كشعوب موجودة في بلدان عربية متوسطة العدد وليست قليله.. وهم لا ينتمون الى مذهب واحد او طائفة معينة او قومية بالذات او حزب باسمه او دين من الاديان.. انهم ينتمون الى وطن واحد اسمه العراق مع انتماءات لا حصر لها يبشر بها البعض في هذا المكان او يدّعي آخرون في ذاك، وفي المهاجر والمنافي والشتات لا تنفع اية انتماءات ما دام العالم لا يعترف الا بهوية واحدة هي هوية العراق، وليس هناك اية هوية اخرى من دون العراق..
العراقيون في كل بقعة من شتات العالم
وقد علمت من مصادر دولية في الامم المتحدة ان ليس هناك دولة في العالم اليوم ما لم تجد فيها كثرة من العراقيين او قلة منهم، وثمة دول ينتشر فيها فرادى من العراقيين وكل واحد منهم يحمل اثقالا كبيرة من المشاكل. هذا " الشعب " المتنوع المهاجر لم يزل يحمل هموم العراق ومعاناة الاهل وعظم الكارثة في القلوب.. صحيح ان الزمن قد فرقّهم وان المكان قد بعثرهم وان قرارات الحكومات قد مزقّتهم وان الملاحقات قد سحقتهم وان الحروب قد افجعتهم وان الفقر والمرض وهول المصير قد جعلهم يكفرون بكل ما لهم وما عليهم.. ولكن لم تزل الهوية العراقية تحدد طقوسهم واعرافهم وتقاليدهم واسلوب لقاءاتهم وافراحهم واتراحهم.. بالرغم من كل الانقسامات التي يعيشونها.. ودوما ما الاحظ ان العراقيين كانوا على امتداد القرن العشرين لهم اسلوبهم العراقي المتمرد سياسيا او اجتماعيا او اداريا في الحياة العراقية داخل العراق، ولكنهم يتقيدون بالقوانين والتعليمات ويكونون من افضل الناس وهم يتعاملون مع شعوب وادارات في دول اخرى!
مواسم الهجرة الى الشتات
ان الاسباب التي دعتهم يغادرون وطنهم تشكّل عندهم عمق المأساة، ولكنهم يحملون في الشتات مشكلاتهم الاولى، وان ما فرقّهم دوما في الداخل جعلهم لا يتآلفون مع بعضهم البعض في الخارج ابدا، وهذه مأساة اخرى نجدها في كل مكان ينتشرون فيه خصوصا بعد كل الاحداث التاريخية التي مرت بالعراق الام منذ العام 1991. انني اذ اؤكد على هذا الجانب، فأنني لا اعني بكلامي من هرب من وطنه ومعه الملايين من الدولارات او هرب من منصبه كي ينتقل الى منتجع او قصر او شقق مفروشة.. فهؤلاء ليسوا ارقاما في الخارج ولم يكونوا الا ارقاما في الداخل.. بل اعني بالعراقيين الحقيقيين في الخارج والشتات كل الملايين من المهاجرين اللائذين الخائفين المرعوبين المسحوقين المناضلين الوطنيين المهجرّين البائسين والمثقفين والفنانين والتشكيليين والادباء الرائعين والاساتذة الجامعيين والاطباء والمهندسين والمعارضين المبدئيين وكل العراقيين الذين لم يحملوا من ارضهم الا عبق ذكرياتهم الخصبة وقد تركوا بيوتهم وموجوداتهم واهلهم وارضهم وكل تاريخهم.. اقصد اولئك الذين اشتروا بدمهم وعرقهم وكل ما حصلوا عليه من شقاء العمر اللجوء او الهجرة او ورقة الاقامة او العبور من مكان الى آخر بكّدهم وعرقهم.. ولا ننسى ذكرى المئات من العراقيين الذين استلبهم الاخرون او عوملوا بازدراء او تاهوا في الصحاري فماتوا عطشا او اكلتهم الذئاب، او غرقوا في البحار، او قضوا في السجون، او اتوا على قارعة الطريق او سحقوا في الاسر .. لا ننسى ابرز الشعراء وابرع المثقفين والاساتذة العراقيين الذين ماتوا اغترابا ولم يدفنوا في ارضهم ابدا!
شتات في شتات
منذ نصف قرن واعداد غفيرة من العراقيين تهاجر نحو المجهول وهي لا تعرف اين سيكون مصيرها.. وكلما تقدم الزمن نحو 2003 والالاف المؤلفة تجد طريقها نحو عالم الاغتراب.. كان السوّاح من العراقيين يعودون من اماكن مختلفة.. هاجر الآثوريون منذ الثلاثينيات في القرن السابق، وكان المسيحيون يهاجرون منذ نصف قرن بعد ان فرض التهجير على اليهود العراقيين اثر الحرب العالمية الثانية وتأسيس دولة اسرائيل، وكلنا يعلم كيف هاجر اليهود من عموم العراق.. كان السياسيون من المعارضين يهربون ويغادرون الحدود فرارا.. وكانت الحكومات العراقية المتنوعة من البساطة ان تسقط الجنسية العراقية عن مواطنين عراقيين يخالفونها ويعارضونها، بحيث تغدو " المواطنة" مجرد سلعة سياسية! كان المثقفون في الخارج اكثر التصاقا بمجتمعات متمدنة بحيث يعودون الى العراق وعيونهم مشدودة نحو العالم الذي تعلموا فيه، وبعضهم كان يعود الى العراق وبرفقته زوجته الاجنبية فتتأقلم مع عادات العراقيين وتقاليدهم، ولكن مع تقادم الزمن لم تعد الاجنبيات تطيق الحياة في العراق في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين.
سياسات وحروب وكوارث
ولما هجمت السبعينيات من القرن الماضي تبلورت عوامل اخرى هي سياسية بالذات وبلغت اوج قوتها في العام 1979 عندما غادر معظم الشيوعيين العراقيين العراق هربا وتوزعوا في مختلف شتات اوروبا.. ثم جاء التهجير القسري لالاف من العراقيين الى ايران كونهم من غير اصول عراقية، فتبلورت مأساة اخرى لعراقيين لم تكن لديهم جنسية عثمانية قديمة ومن ايران تشتت هؤلاء الى اماكن عدة بفعل قساوة ايران معهم.. وفي ايام الحرب العراقية الايرانية آثر الالاف من الطلبة العراقيين البقاء في الخارج دون الرجوع الى الوطن كيلا يكونوا وقودا في الحرب المأساوية التي اكلت زهرة شباب العراق.. وجاءت حرب 1991، فهربت الالاف المؤلفة من العراقيين من نار الحرب ونتائجها التعيسة نحو شتات آخر وكان من نتائج فرض الحصار الاقتصادي وانهيار البنية التحتية وانتشار الفقر ان بدأت تهاجر الالاف المؤلفة من العراقيين نحو الخارج وتتحمل عمق المأساة في كل مكان تذهب اليه.. وغدا السفر الى الخارج عملية ملتوية وغير قانونية وبمثابة هروب جماعي بري عبر معبر طريبيل سيئ الصيت، وبأي وسيلة كانت وصولا الى العام 2003 التي بدل ان تكون سببا في ارجاع الملايين من العراقيين، لكنها كانت سببا في نزوح الملايين.. ولم ينفع رجوع وعودة بعض العراقيين الى ارض الوطن، اذ سرعان ما عاد هؤلاء الى شتاتهم من جديد ليبكوا وطنهم الجريح وقد انتقل من حالة سيئة الى اسوأ الحالات .. ومنذ العام 2003 وحتى اليوم هناك من يهرب وهناك من يغادر وهناك من يهاجر وهناك من يسافر.. ولكنهم جميعا يبكون انفسهم ويبكون ما حل بالعراق من اوصاب وكوارث!
أي شتات حريري؟؟
انني مقتنع تمام القناعة ان بعض العراقيين مهما بلغت بهم درجة الراحة في الشتات الذي دعاه احد الاصدقاء بـ " الشتات الحريري " من دون ان يدرك عمق المأساة، فان لهم معاناتهم التي قد لا يدركها غيرهم.. وان نسبة من العراقيين في الخارج ان كانت قد استقرت منذ عقود طوال من السنين، فهؤلاء لا يمكن ان يقارنوا بالملايين من المهاجرين العراقيين الذين يعانون من شظف العيش واهانات تلحق بهم من سلطات دول ومخافر حدود وشرطة مطارات وبوليس موانئ وحرس بحر.. ويعانون من جملة ازمات اغتراب حقيقي ويعانون من ازمة مجتمع ومن ازمة عمل ومن ازمة قيم ومن ازمة تجانس ومن ازمة تربية.. لا تتوقعوا ان العراقيين في الشتات هم في رغد من العيش او في توازن مع الذات.. او في سعادة بيتية او في تربية جيل جديد.. فالانقسامات لحقت بهم ايضا، وخصوصا في السنوات الاربع الاخيرة، بحيث وصلت الى بيوت العراقيين انفسهم.
القلة والرغبة والمأساة
واذا كان هناك بعض العراقيين الذين اطلق عليهم بـ " الحواسم " فهم قلة نفعية بنتهامية تافهة لا تتناسب والملايين من العراقيين المناضلين حقا الذين عانوا وما زالوا يعانون الامرين ويعيشون على امل العودة او منهم على حلم الرجوع.. وهم لا يطلبون الا حياة عراقية من اجل الكرامة والستر ولقمة العيش! واذا ما انتقدهم الناقدون كونهم قد هجروا وطنهم ولم تعد ذاكرتهم تستوعب العراق، وتصل التهمة الى حد التشكيك بالوطنية، وهذا اقسى ما يمكن ان يعاني منه اي عراقي شريف، فلابد من معرفة الاسباب التي دعتهم ان يغادروا او يهربوا او يفروا بجلدهم من اي كابوس كانوا يعانون منه.. كما ينبغي ان نعلم ان هناك من كان ولم يزل يقتطع من لقمة عيشه في الشتات حتى يرسل بما يتوفر له الى اهله وذويه واصدقائه في الدواخل العراقية وكانت تسحقهم ولم تزل مرارات الفقر وهول الغلاء واستشراء المجاعات والامراض واخيرا التفخيخات والتفجيرات والقتل العشوائي.. ان مأساة العراقيين واحدة لا يمكن تجزئتها سواء في الداخل كانت ام في الخارج. فهل يمكننا ان نعيد للعراق مكانته ومشروعه الوطني ليرجع فيحتضن الجميع من جديد؟ هل من شرفاء عراقيين يعملون على ان يكون العراق حاضنة حقيقية لكل العراقيين؟ لا يظلمهم أحد ولا يسحقهم أحد ولا يهمشهم أحد ولا يفخخهم او يفجرهم او يقتلهم احد وينأى بهم عن كل المكاره؟
واخيرا : من الشتات الى الحلم المنشود
نعم، اذا كان بمقدور العراقيين انفسهم ان يراجعوا انفسهم كلهم ولا استثني منهم احدا، فعليه القول انه يتحمل نصيبه من الثمن المدفوع.. واذا كان كل عراقي مستعد ان يعترف لنفسه كم اساء الى غيره حتى وان كان ملاكا، فسوف يقّدم خدمة للعراقيين.. وكم مطلوب من كل عراقي ان يعتذر لآخيه العراقي بدل المواجهة وآلية الصراع والقتل والنفي.. وكم مطلوب من العراقيين ان يرى احدهم افضل من الاخر الا بما يقدمه من الاحسان والمعروف! مطلوب من اي عراقي ان يتوقف عن استعراض عضلاته امام العراقيين ويحسن للاخرين بدل تمجيد نفسه وتأليه ذاته وبدل الانتقاص من الاخرين! وكم مطلوب منه ان يتنازل الى اخيه العراقي الاخر ويقبله مهما كان نوعه ومهما كان انتماؤه ومهما كانت اصوله ومهما كانت افكاره.. وكم مطلوب من العراقيين ان يقدّموا ابناء وطنهم مهما بلغت درجة الخلاف معهم على غيرهم من غير العراقيين! وكم هو مطلوب مشروع محبة وتسامح بدل كل هذا الحقد والكراهية المقيتة! ومن المصيبة ـ كما قال لي احد الاصدقاء العراقيين ـ اننا لم نكن سابقا الا ممثلين منافقين بحيث مثّلنا دور العاشق والمحب والولهان بعضنا ازاء بعض وقد تعرفّنا على حقيقتنا اليوم بحيث كل واحد منّا يختزن حقدا كالجبال ازاء اخيه العراقي، فأجبته لم نكن في السابق نحس بأي احقاد ابدا الا ان كان من يضمر في الخفاء مشروعا للكراهية والموت وهذا قليل، فان العراقيين تحّركهم عواطفهم، ومتى ما وجدوا أمنا ورخاء وتمدنا وسماحة وقانونا ومساعدة واعلاما نزيها ووطنيا بعيدا عن اي محاصصات ومقاسمات وانتماءات تودي بالعراقيين الى اسفل سافلين!
وكم مطلوب من العراقيين ان يؤدوا الامانات الى اهلها ويعشقوا وطنهم دون ان يرسموا خططا لتقسيمه ودون ان يستعرضوا عضلاتهم باسم هذا الطرف على حساب الاخر ومن دون ان تكره هذه المدينة تلك.. وعندما يشعرون انهم اهل لصنع ارادة عراقية قوية وواحدة باستطاعتها ان تملأ كل فراغ وان تقول لأي محتل ولأي غاصب.. نحن اولى بادارة شؤوننا ولا يحق لك ان تقسمنا على اساس عرقي او طائفي او ديني او جهوي.. وعندما تعتمد الكفاءة والنزاهة اسلوبا اساسيا في العمل والتقييم من دون اي انتماءات حزبية او محاصصات طائفية او مجتزءات عرقية.. واخيرا، عندما ينفتح ابناء الداخل على ابناء الخارج وبالعكس ليؤسسوا توازنا عراقيا متلاقحا من اجل مصير واحد. فهل ستتحقق احلامي في يوم من الايام؟ وترجع الملايين الى اعشاشها.. وتعود الملايين من العراقيين الى وطنها.. الى بيوتها.. أتمنى ذلك من صميم القلب.