نحن والجن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عشرات الرسائل وصلتني من القراء، منذ أغسطس 2005 حين لخّصت وعرضت على صفحات إيلاف، كتاب (حوار صحفي مع جني مسلم) الذي نقلته عشرات المواقع والمنتديات، بعضها ذكر المصدر إيلاف واسم عارض الكتاب، وبعضها لم يذكر، وآخرون من بعض شباب المنتديات نسبوا التلخيص لأنفسهم.
باستثناء رسالة أو رسالتين، فإن جميع الرسائل التي وردتني يظن أصحابها أنني مؤلف الكتاب، فيشكرون جهودي، ويمتدحون معلوماتي، ويطلبون مني التوسع في هذا الموضوع، كما يطلبون بعض الشروح التي تفيدهم في الاتصال بالجن، أو تجنبهم شرورهم، ويدعون لي بالثواب الجميل، ونعم الله والتوفيق وطول البقاء. ويرجونني بعد ذلك أن أزودهم بنسخة من ذلك الكتاب، معلنين استعدادهم لدفع المبلغ الذي أريد، ويبدو أن أغلبهم من المهاجرين المقيمين في الغرب الذين لا تصلهم هكذا كتب.
لكن أكثر ما لفت نظري، رسالة تلقيتها منذ أيام قليلة، ويبدو أن صاحبتها فتاة لم يشتد عودها، جذبتها قصص الجن، ودولهم، وانتشارهم في أوساطنا، وقدراتهم الخارقة على إيذائنا أو مساعدتنا، والتقريب والتفريق بين الأصحاب والأحباب. وقد أشفقت عليها، وعلى أولادها حين تصبح أما، إذ استقر في عقلها ووجدانها أن مثلث برمودا هو مكان إقامة الجن، وفيه مملكتهم. وإنها على استعداد لأن تدفع عمرها وحياتها ثمنا لكشف هذا السر. وقد كتبت تقول: (الكلام جدا غريب وعجيب. كثير اثر فيني. واني اكثر وحده متحمسه لاعرف عن سر وغموض مثلث برمودا واتمنى اعرف سره حتى لو كان يكلفني دفع عمري كله او اني اضحي بعمري وحياتي بس اعرف سر. او لو بسطاعتي اني اروح له ما اقول لا. بس المشكله ما اقدر. ما عندي اي تعليق. بس حبيت انكم كان توسعتوا في المعلومات اكثر لانه كثير محمس جدا. بس مشكوورين وما قصرتوا).
واستجابة لطلب صاحبة الرسالة أعلاه، وآخرين مثلها. سأطيل قليلا، وأذكر ما باستطاعتي، مما تسمح به مساحة هذه المقالة، عن تاريخ الجن والشياطين، وعلاقتهم بالإنسان، وآراء الأديان السماوية بهم.
ولكن كي لا يستمر هذا الالتباس في أذهان أولئك القراء، أرغب أن أوضح أني لست مؤلف الكتاب (وقد أفردت في التلخيص الذي عرضته أكثر من سبعة أسطر للتعريف بمؤلفه وشهاداته العلمية وأعماله الخاصة وقدراته ومناقبه). كما إنه لا علاقة لي، لا من قريب، ولا من بعيد، لا بالجن والجنون ولا بالعفاريت، على مختلف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم وعقائدهم. وإن كان ثمة علاقة ما، فإنها قديمةٌ غابرة، انقطعت منذ تجاوزت الثانية عشر من عمري أو نحو ذلك بقليل، حين كنت أذهب لبيت قريبي في ليالٍ غاب عنها القمر شتاء، وأعبر الجسر الذي يصل طرفي الوادي(الوديان مساكن الجن كما قالت العرب) وأسمع صفير الهواء وبعض الرعد، وحفيف أوراق أشجار الحور والصفصاف التي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال، فأظن ما أظن، ويسكنني الخوف والوجل، وتنتابني الشكوك والهموم، وتتراءى لي الأشكال والهيئات، وأتوهم ما تيسر لمن لقنني وأشبعني قصصا أن أتوهم.
قبل أن يعرف الإنسان الأديان، اعتقد ، بسبب ضعفه أمام الطبيعة المحيطة به، والمجهولة له، وبسبب خوفه منها، وعدم قدرته على مواجهتها ومواجهة كائناتها، وجهله في تفسير ظواهرها، ومعرفة أسباب هذه الظواهر (ليل، نهار، برد، حر، برق، رعد، مطر، شمس، قمر، نجوم، أدغال، صحراء، حيوانات قاتلة وأخرى وديعة، حشرات مؤذية، طيور، أسماك...الخ). اعتقد ذلك الإنسان البدائي أن في الطبيعة قوى خفية غير مرئية، تغيّر وتبدل فيها. قوى خارقة لقواه ومداركه، واحدة تعمل لخيره وتساعده على تدبر أموره (قوى خير). وأخرى تُفشل مساعيه وتعمل ضده (قوى شر). ومع الزمن اختص بهذه القوى الخفية (الخيرة والشريرة) أناس ذوي مواصفات خاصة ادعوا معرفتهم بكنه هذه القوى الخفية، وقدرتهم على الاتصال بها، وإقامة علاقات معها، وقدرتهم أيضا على تحييد هذه القوى، أو تسخيرها لصالح الإنسان، أو ضده. فكانت الحجب (جمع حجاب) والتمائم، وأشكال أخرى، تُعلق في المنازل، أو تُلبس في الأعناق والمعاصم والخصور، كما نرى حتى الآن لدى القبائل البدائية في أفريقيا وغيرها.
لقد جعلت الأديانُ السماويةُ الشيطانَ سابقا على وجود الإنسان في الأرض، وأعطته القدرة على التجسد بأشكال مختلفة. فقد غررت الأفعى بحواء ووسوست لها منذ أن كانت في الجنة.
فاليهودية- أولى الأديان السماوية المعروفة بشريا- تبنت معتقدات الإنسان الأول، وقسمت القوى إلى قسمين، أسمت الأولى أي قوى الخير: بني الله أو الملائكة. وأسمت الثانية أي قوى الشر: الشيطان، وأسمت من يعمل معه أو بإمرته (الشياطين الصغار أو الجان)، وجعلت منه العدو الأول والأكبر والأزلي للإنسان، وصورته في البداية على شكل أفعى شريرة خبيثة محتالة (فيما بعد جعلت للشيطان رائحة وقرون) وحمّلته مسؤولية مخالفة الإنسان لأوامر الله، وطرد آدم من الجنة.
جاءت المسيحية وتبنت مفاهيم اليهودية ذاتها بخصوص الشيطان والشياطين- دون أن تجسدهم- كمصدر للشر، وسبب البلاء والشهوات الخبيثة، والأمراض العضوية والنفسية في حياة الإنسان، إذ يدخل الشيطان في العقول والنفوس والأجساد، فيصيب أصحابها بالجنون أو العمى أو البرص أو الأمراض. وحين تخرج الشياطين من الناس، يُشفون، ويعودون أصحاء سالمين، مؤمنين مطيعين، يلهجون بذكر الله.
ثم جاء الإسلام. وكما جعل اليهود الشيطان يجادل الله بخصوص النبي أيوب. كذلك فعل بعض علماء المسلمين، إذ جعلوا إبليس يلقي على الملائكة مداخلة في الإلحاد، ويطرح عليهم أسئلته الإلحادية السبعة الشهيرة، منسوبة (خلافا للواقع) إلى الأناجيل الأربعة، لإيجاد مبرر لنقل هذه الأسئلة، على قاعدة: ناقل الكفر ليس بكافر. (أنظر أسئلة الشيطان السبعة في الملل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني).
بداية لم يخرج دين الإسلام عن مفاهيم ومعتقدات اليهودية والمسيحية، بخصوص الشيطان والشياطين والجن وشرورهم، وعداوتهم الأزلية للإنسان (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا- الكهف 50) إبليس إذن من الجن، وهو أبو الجن، وله ذرية ذُكرت معه، أما الملائكة فلا ذرية لهم.
وفي سورة الأعراف (20و27) (فوسوس لهما الشيطان....) و(....إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون). وفي سورة الناس، وصف للجن بأنهم وسواس خناس، يجب التعوذ بالله منهم، ومن شرهم. (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس).
سم الجن إلى قسمين. قسم فاسق كافر شرير، وقسم مؤمن مسلم، يوحد الله، ويدعو للبر والتقوى، ويدافع عن دين الإسلام ورسوله الكريم. كما أضاف للجن إضافات جديدة، تقربهم إلى أذهان الناس، بعد أن كانوا مفاهيم مجردة، فأعطاهم عيونا ترى، وآذانا تسمع، وألسنة تنطق، وجعلهم قبائل وشعوبا وأحزابا كالبشر تماما، وهو المفهوم ذاته الذي كان سائدا لدى عرب الجزيرة قبل الإسلام.
ففي سورة الجن التي تلت بترتيب النزول سورة الناس، يعلن نفر من الجن (ما بين الثلاثة إلى العشرة) أنهم سمعوا قرآنا عجبا، بديعا، لم يسمعوا نظيرا له في بلاغته، وحسن نظمه، وفصاحته، وغزارة معانيه ودقتها، يهدي إلى الرشد، فآمنوا به، ومن يؤمن بربه لا يخشى نقصا من حسناته، ولا زيادة في سيئاته. وقد أجمع العلماء أن أولئك النفر من الجن، هم من جن مدينة نصيبين. وبعضهم حدد المكان والزمان الذي استمع فيه هؤلاء النفر من الجن إلى القرآن. يقول الإمام السيوطي في تفسير الجلالين: (إن ذلك كان في صلاة الصبح في موضع بين مكة والطائف يدعى بطن نخل). كما يصف لنا هؤلاء النفر من الجن أحوال قومهم، فيقولون، أنه يوجد بينهم من هو صالح، ويوجد بينهم من هو طالح، وأنهم أي الجن كانوا- قبل الإسلام- يسترقون السمع على ما يدور ويدبر في السماء لأهل الأرض، لكنهم بعد مبعث الرسول المصطفى، وجدوا السماء قد مُلئت حرسا أشداء من الملائكة، يقذفون من يسترق السمع من الجن، بالشهب والنجوم الحارقة، فأحجموا بعدها عن فعل ذلك. (قل أُوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنَّا سمعنا قرآنا عجبا 1 يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نُشرك بربنا أحدا 2 وأنه تعالى جَدُّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا 3 وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا 4 وأنَّا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا 5 وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا 6 وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا 7 وأنَّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرسا شديدا وشهبا 8 وأنَّا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا 9).
وكما أعطى اليهود الشيطان رائحة كريهة وحوافر وقرون، كذلك فعل بعض علماء المسلمين، لكنهم أطلقوا العنان لخيالهم أكثر، فأعطوا الجن مقاييس (طول الجني وعرضه) وألوانا (أزرق، أحمر،...) وآذانا تشبه آذان الخيل والقطط، وأجهزة تنفسية وتناسلية، وغشاء بكارة للأنثى الجنية، وأشكالا أخرى منظورة، كالكلب الأسود، والقط الأسود، والحية، والحمار، والمرأة (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان- رواه مسلم في صحيحه عن أبي الزبير) وجعلوا قسما من الجن يختص بالنصف الأسفل من المرأة. وألبسوهم ثيابا ونعالا (الجن المسلم بنعلين، والجن الكافر بنعل واحدة)، وزوجوهم، وأنجبوهم صبيانا وبنات. وأعطوهم أسماء (هاروت، ماروت، شنكوش، برشوش،..الخ) وأطعموهم، وسقوهم، (الجن المسلم يأكل ويشرب بيمينه، والجن الكافر بشماله) وأسكنوهم إضافة للمناطق المهجورة والوديان، الأماكن القذرة كالمراحيض والبلاعات، وجعلوهم يشاركون الإنسان في حركاته وسكناته وأفعاله، وفي زوجته أيضا. كما بوّلوا الجني في أذن الإنسان المسلم الذي لا يذكر الله قبل النوم. كما إنهم أدخلوا الجني إلى بدن الرجل من دبره، وإلى بدن المرأة من فرجها. وطالبوا رجال المسلمين بالانتباه، وحذروهم من مشاركة الجن لهم في مضاجعة نسائهم، وطلبوا منهم أن يسموا باسم الله، وأن يغطوا وجوههن كي لا يراهن الجن الكافر ويستحليهن، ولذلك بعض من رجال المسلمين ينقبون زوجاتهم داخل البيوت خوفا من أن يراهن الجن الكافر. مستندين في ذلك كله إلى أحاديث نسبوها للرسول. (أنظر حوار صحفي مع جني مسلم). كذلك أقاموا لهم ممالك (في العصر الحديث مملكتهم في مثلث برمودا)، وجعلوا لهم علوما وأحزابا وانتماءات. ورووا عنهم أشعارا نسبوها إليهم. كما تحدثوا مع الجن، وأنطقوهم، وقاتلوهم، وقتلوهم، كما نسبوا إلى الرسول قوله أن جنيا حاول أن يقطع عليه صلاته، لكن الله مكنه منه فخنقه، وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد ليتلاعب به الصبيان، لولا أن ذكر قول أخيه سليمان. (ذكره مسلم في صحيحه عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري بنحو هذا اللفظ، وفي مسند أحمد عن أبي سعيد الخدري).
كذلك نسبوا للجن قتل بعض الناس، وحصلوا على اعترافاتهم- بهذا الخصوص- شعرا (الاغتيالات السياسية- لبّسوا الجن تهمة قتل سعد بن عبادة زعيم الأنصار الذي طمع بالخلافة بعد وفاة النبي، ولم يبايع الشيخين أبا بكر وعمر). كما جعلوا للجن الكافر قرون، أما الجن المسلم المؤمن فقد نقّبوا زوجته، وكافئوه بحوريات في الجنة، مستندين في ذلك إلى تفسيرهم للآية (56) من سورة الرحمن (فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان). وهكذا أصبح الجن المسلم شبيها بالملائكة. ولكن بالرغم من كل هذا فإن أغلبية الناس تخاف الجن، ولا تثق بهم، كفارا كانوا أم مؤمنين.
كذلك لم ينسَ بعض الشيوخ، أن يحمّلوا الجن الكافر-على طريقة اليهودية والمسيحية- مسؤولية كل الأمراض النفسية، والعضوية التي تصيب بني الإنسان (من السكري والقولون والزائدة الدودية إلى السرطان) مؤكدين أن علاج هذه الأمراض إنما يتم بالرقى والتمائم والتعاويذ والأدعية الحسنة، وأساليب أخرى لا يعرفها غيرهم.
كما جعلوا لكل إنسان قرينا من الجن. حتى الرسول جعلوا له قرينا من الجن، أسكنوه البقيع، وأبقوه حيا، لم يميتوه حتى الآن، وأنشأوا له مجالس علم، يعلّم فيها الجن المسلم أحكام الله تعالى، ويفسر لهم القرآن الكريم. (أنظر حوار صحفي مع جني مسلم).
لقد انتشرت قبل الإسلام بين أوساط العرب سكان الجزيرة العربية، هذه المفاهيم والمعتقدات عن الجن، نتيجة لانتشار الديانات اليهودية والنصرانية والمسيحية بينهم. وقد تصور عرب ما قبل الإسلام أن الجن قبائل مثل قبائلهم، وعالم مثل عالمهم، فأسكنوهم بين ظهرانيهم أو إلى جوارهم في واد خاص أطلقوا عليه اسم (وادي عبقر- ومن هنا اشتقت لفظة العبقرية). وقد تصوروا نتيجة لهذا التجاور مع الجن، إمكانية الاتصال والتواصل معهم، أي مع الجن، ولكن فقط من قبل أناس متميزين، يتمتعون بمواهب وصفات خاصة، أولئك هم العرافون (جمع عرّاف) والكهان. كما تصور عرب ما قبل الإسلام أن الجن قادر بما يملكه من قدرات على اختراق حدود السماء، ومعرفة أسرار الغيب، والتنبؤ بالمستقبل، وإبلاغ هذه المعلومات للعراف والكهان، الذين كانوا يدعون أنهم يستمدون معلوماتهم من الجن.
كذلك تصور عرب ما قبل الإسلام أن للشعراء اتصالا بالجن، ولكل شاعر قرين يوحي له ويلهمه شعره. وقرين الشاعر الأعشى كان يدعى (مسحل). وقد قال فيه شعرا. كما اعتقدوا أن للجن أشعارهم أيضا. وأن بعض الشعراء الجاهليين كان قادرا قول الشعر الإنسي، والشعر الجني. (ولقد نطقت قوافيا إنسية --- ولقد نطقت قوافي التجنين).
ونتيجة لهذا الاعتقاد- الذي انتشر بين عرب الجزيرة قبل الإسلام- بإمكانية الاتصال بين البشر والجن، نشأ الاعتقاد بأن الجن يوحي للعراف والكهان وينبئهما بعالم الغيب، ويوحي للشعراء، ويلهمهم أشعارهم. وقد استخدم هذا الفعل (أوحى يوحي) كثيرا في الشعر الجاهلي. وقد شكل هذا الاعتقاد بالوحي، الذي كان سائدا آنذاك، شكل الأساس الثقافي والنفسي لقبول فكرة الوحي الديني الذي مصدره الله.
لقد كثر في ذلك الزمن التنبؤ والمتنبئين، واستمرت هذه المعتقدات حتى العصر العباسي، لا بل ما زال التنبؤ بالمستقبل وادعاء معرفة الغيب مهنة قائمة حتى لحظتنا الراهنة. وليس من دلالة على ذلك أشهر من قول أبي تمام في فتح عمورية (السيف أصدق أنباء من الكتب... في حده الحد بين الجد واللعب).
لقد كانت (الكهانة والعرافة) وسيلة للتنبؤ بالدين الجديد، والنبي الجديد المرتقب، ولهذا نرى أن رواة السير الإسلامية أطنبوا في سرد القصص التي تنبأت بظهور الرسول، ورووا العشرات منها، نقلا عن أناس ذوي علم، وكهنة وقسيسين (أغلبهم يهود ونصارى) تنبأوا جميعهم بعلامات النبي المنتظر، واقتراب زمانه.
أخيرا لا بد من الإشارة أن التاريخ لم يخبرنا منذ انتهاء عصر الصحابة، أن أحدا- سوى النصابين- من الناس رأى بالعين المجردة جنيا، سواء أكان جنيا مسلما أم كافرا. والكتاب المذكور (حوار صحفي مع جني مسلم) منع الأزهر تداوله، كما أن عددا من الشيوخ المتنورين اتهموا صاحب الكتاب بالكذب وخداع المسلمين. كذلك تمنع الدول الإسلامية جميع أولئك المدعين، المحتالين النصابين، الذين يضللون الناس ويسرقون أموالهم.
ونهاية القول لا بد من التأكيد أن الخطر الأكبر الذي يتهددنا، وأعاق مجتمعاتنا ونشئنا، وأدى إلى عطالتنا وعجزنا وتخلفنا، لم يتأتَ إلينا من شياطين الجن، وإنما مصدره الحقيقي شياطين الإنس، التي تزرع وتصنع كل أنواع العفاريت والشياطين التي تحتل عقولنا، وترسم أفعالنا الضارة بنا.