نكتب أم لا نكتب؟ تلكم هي المعضلة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تحدثت في مقالتي المعنونة "لماذا الكتابة؟؟!" عما أصابني مؤخرا، كما حصل في العام الماضي، من امتناع قسري عاطفي وفكري وإنساني عن مواصلة الكتابة عدة أسابيع، بسبب الأوضاع المأساوية في العراق وما تحدثه عندي من مرارة موجعة وخيبة آمال. أين تلك الآمال التي عقدناها بعد سقوط النظام السابق؟ أين هي نسائم الديمقراطية ولو أخف النسائم؟ أين نحن اليوم من عراق تمنينا أن نراه متآخيا، ديمقراطيا، مزدهرا ، آمنا بلا غازات ولا مقابر جماعية؟ أين منا هذا الوطن العزيز الذي كنا نتمنى ازدهاره وهو العراق ذو الحضارات والموارد البشرية والطبيعية الهائلة؟
خيبة بعد خيبة ومرارة بعد أخرى تشل إرادة الكتابة. إذ ماذا تكتب؟ ولمن؟ هل نحاور أنفسنا أو في حلقات الأصدقاء؟
إننا رغم بعدنا عن شعبنا، فنحن نعيش مع أهلنا في الوطن كل يوم وكل دقيقة،، متابعين أخبار التردي الأمني، وشراسة الإرهاب، وضحايا التفجير والتفخيخ بالمئات كل يوم، وانفجار التطهير الطائفي، واستفحال التطهير الديني الموجه لإبادة المسيحيين والصابئة المندائيين وبقية الأقليات الدينية، التي سكنت العراق منذ أقدم الأزمان. نتابع تفاصيل قمع المرأة بمختلف الأساليب، وإجبارها على الحجاب المزدوج، وملاحقة السافرات وخطفهن لتقطيع رؤوسهن.
ولكن! كلما قرأنا شهادات مؤلمة ومثيرة ممن عانوا فعلا أهوال العراق من الداخل، ولاسيما عندما تسجله كاتبة مبدعة عما لقيت من المعاناة والآلام حين وجودها في بغداد، فإن نازعا آخر أقوى ينتابنا، يدفع للكتابة للإعراب عن التضامن والمشاركة في الآلام مع أهلنا في الوطن ومع كل الهاربات والهاربين من الجحيم تاركين وراءهم كل ما يملكون.
لقد كتبت مؤخرا مقالا عن معاناة المسيحيين وبقية الأقليات الدينية متأثرا جدا بصرخات المراجع الدينية المسيحية من داخل العراق.
إن المعاناة بكل أحزانها، لا يشعر بها كل يوم وساعة، غير من اكتووا بها. وهذا ما تسجله الرواية المعروفة لطفية الدليمي في شهادتها المفصلة عن معاناة المرأة العراقية المثقفة والسافرة على أيدي محترفي الجريمة، القادمين من مستنقعات التخلف وكهوف الظلام لقتل المواطنات والمواطنين باسم الدين، ولنشر الرعب اليومي بينهم.
تقول الشهادة، المنشورة في موقع " الأوان":
"في وحدتي أعيش بين الموت والأنا، حين لا يعود أحدنا قادرا على رؤية الآخر، أو سماع نبرته، أو استقبال ريبته أو تساؤلاته... عندئذ ينكفئ كل واحد منا على وحوشه الشخصية نلتهمه ويلتهمها، ويرسل أي آخر إلى الجحيم...
"أغامر بالعيش وسط حدائق الموت المزدهرة بجثث مجهولة، ورؤوس مقطوعة، وصمت مطبق من المثقفين، وتصاعد نبرة التجهيل والتحريم... مجازفة شاقة وعبثية بالنسبة لكاتبة تحيى وحيدة وسط المجزرة، في بيت محاط بحشود المتطرفين وهجمات الساعين لفرض ثقافة واحدة على شعب متشابك الأنواع والأعراق والثقافات. أسمع عويل الرجال الجارح في المساء، حين أقدم المتطرفون على قطع سيقان تسعة من الشبان لأنهم يرتدون السراويل القصيرة بحكم عملهم مدربين في مسبح الحي. يفككني نحيب البنات اللواتي قتلت زميلاهن في الحافلة الصغيرة وهن عائدات من عملهن في أحد البنوك، مكشوفات الرؤوس بلا حجاب، فأطلق الملثمون المسلحون نيرانهم عليهن ثم عمدوا إلى قطع رؤوس ثلاث منهن وألقوا بها على الرصيف عند الظهيرة، نذيرا لسواهن من النساء العاملات..
"أبقى وحيدة محاطة بمكائد ومكالمات من مجهولين على الهاتف الأرضي، تنذرني بقطع الرأس إن أنا واصلت الخروج إلى عملي ونشر كتاباتي..
"أكدح في نهارات الموت من أجل رغيف خبز وبضعة لترات من نفط للمدفأة، في بلاد ينام جياعها على بحر من أكبر احتياطي للنفط في العالم!..."
هكذا تمضي هذه الشهادة من قلب بغداد، المدينة التي كانت يوما ما مثالا للتعايش بين الأديان والقوميات، ونموذجا لحرية المرأة. وأذكر بالمناسبة أنه في الكلية في أواسط الأربعينيات لم تكن بين الطالبات محجبة واحدة رغم كثرة عددهن. طالبة واحدة فقط كانت تلبس العباءة عند الخروج من البيت وتنزعه حال وصول الكلية.
عراق اليوم مستباح ومسحوق، ويعيش جحيما لا مثيل له في أي بلد من بلدان العالم.
إنني إذ أحيي الكاتبة، فلابد أنها تعرف أن أحرار المثقفين العراقيين في الغربة لا ينسون الوطن ولا الشعب، ولم يلتزموا الصمت في إدانة ما يجري، والإعراب عن تعاطفهم وتضامنهم القلبيين مع أهلنا في العراق.