مقترح للمصالحة السياسية والدستورية في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
التحالف الفيدرالي الديمقراطي
تفرض الأوضاع السياسية والاجتماعية المتأزمة في عراق اليوم واجبات أساسية على كافة القادة السياسيين تتمثل أخطرها في مهمتين: 1- ايجاد اطار واقعي للتفاهم بين الأطراف المختلفة وتجاوز اسلوب جبر الخواطر بالمشاعر الطيبة والشعارات 2- والتخلص في نفس الوقت من أهم الآفات التي تهدد منجزات العملية السياسية والنظام الديمقراطي الوليد تلك هي آفة المحاصصة التوافقية وما ولدته من ممارسة تقاسم و"استملاك" مناصب الدولة بين التنظيمات السياسية الماسكة بالسلطات المختلفة. ويهتم هذا المقال بطرح مقترح عملي للمساهمة في تحقيق هاتين المهمتين بتهيئة الشروط الضرورية لتحقيق المصالحة على برنامج حد أدنى وطني وديمقراطي يتجاوز المصالح الفئوية مهما كانت أشكالها ويسمح بتجاوز عنق الزجاجة الذي يمر به النظام السياسي الحالي في العراق.
فقد كرست المحاصصة التوافقية تخندق الاصطفافات المذهبية والقومية على مختلف مستويات الادارة وأصابت بالوهن مؤسسات الدولة التي تقاسمتها الجهات المتوافقة بالاسم والمتصارعة في الحقيقة. ولكن كيف يمكن التخلص من هذه الظاهرة التي يبدو وكأنها ترسخت واتسمت بصفة البنيوية؟ الواقع أنها لا زالت في بداية ترسخها في بنية النظام السياسي ولا زال بالامكان العمل على التخلص منها ومنعها من التهام منجزات عملية الدمقرطة الجارية منذ سنوات، أولاً: لأننا في بداية الطريق، الطويل بالضرورة، لانشاء أي نظام سياسي ورغم الصعوبات
لا زال التغيير في حيز الامكان، ثانياً: لأن نتائج هذه المحاصصة التوافقية قد جمعت مختلف قطاعات الرأي العام العراقي ضدها، وثالثاً لأنه لم يعد بامكان أصحاب الأمر أن يتغاضوا عنها لأنهم بدأوا هم أيضاً يعانون من أضرارها، وقد لاحظوا الوضع الخطيرالذي يمر به العراق من حيث ضعف العديد من المسؤولين وكذلك استحالة تحقيق أداء حكومي فاعل في عملية "تصفيف" لقوى متقاسمة للمناصب ومتخندقة في اطار حكومة "وحدة أو مشاركة وطنية"، لإن أي نجاح حكومي حقيقي يفترض توفير حد أدنى من الانسجام بين قوى سياسية ذات برامج مختلفة لكن يجمعها اطار واقعي عملياتي وليس مغلفاً بشعارات المحبة والأخوة التي رغم أهميتها لا تكفي لضمان الفاعلية في الأداء الحكومي، بل قد تُخفي في جعبتها ألغاماً موقوتة قاتلة.
ويتخذ الحل للتخلص من هذه الظاهرة المَرضية أشكالاً عديدة، فقد يكون ذلك بالانسحاب من التحالفات الانتخابية العاملة حالياً على الساحة العراقية لاعادة بناء الخارطة السياسية، كما فعل قادة حزب الفضيلة ويهدد التيار الصدري بمثله بعد انسحابه من الحكومة، وقد يكمن الحل بتفكيك هذه التحالفات السياسية لنفسها كما يردد البعض على وسائل الاعلام. ولكن النظر الواقعي في سياق التحالفات ونمط الثقافة السياسية السائدة يفرض حلاً يتصف بالتدرج ويضمن للأحزاب والكتل الممثلة حالياً في مجلس النواب المحافظة على توازنها وفي نفس الوقت تحقيق الهدف والتقدم نحو تخليص الوضع السياسي من هذه المظاهر الخطيرة. ويتمثل هذا الحل بدعوة هذه الأحزاب والتنظيمات الى للانضمام في أطر تحالفات جديدة 1- تجمعها على أسس سياسية وطنية 2- وتسمح لها بتفكيك تحالفاتها الحالية بعد ايجاد البديل 3- وتحفظ لها مهمة (أو فرصة) تطوير برامج انتخابية قائمة على معايير عقلانية تنفتح على جميع المواطنين ممن يقتنعون بصحة برامج هذه التحالفات وبضرورة تأييدها وذلك بغض النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية والقومية لهؤلاء المواطنين. ان ملاحظة الواقع الحالي للعملية السياسية والقيادات السياسية الموجودة على الساحة تؤكد، في نظرنا، واقعية وطموح هذا التوجه ويدفعنا اليوم الى طرحه كحل واقعي وذلك بالدعوة الى تأسيس "التحالف الفيدرالي الديمقراطي" كاطار وطني يمكنه ضم مختلف الأحزاب والتنظيمات والشخصيات السياسية المؤمنة بالنظام الديمقراطي الفيدرالي في العراق ونتوقع أن تشكل الشخصيات المستقلة تياراً خاصاً بها في داخل هذه التحالفات الجديدة. ويتعلق هذا المقترح مبدئياً بتنظيمات عديدة مثل أحزاب وتنظيمات أساسية في جبهة التوافق كالحزب الاسلامي وكذلك بالتيار الصدري وحزب الفضيلة، الى جانب القائمة العراقية (أو العديد من قواها وشخصياتها) والمؤتمر العراقي، اضافة طبعاً الى الائتلاف العراقي الموحد (أو معظم المنضمين اليه حالياً) والتحالف الكردستاني. كل هذه التنظيمات أما تؤيد الفيدرالية كما وردت في الدستور وبدون تقييد أو لا ترفضها ولكن تقف ضد تطبيقها "المتسرع"، وطالما صرح العديد من قادتها بمثل هذا الموقف.
المهم ولأنه لا يمكن حالياً التفكير بشكل جدي بحل الأحزاب الدينية الطابع، والمذهبية في واقعها، كالحزب الاسلامي والمجلس الأعلى، على سبيل المثال لا الحصر، ولا الأحزاب القومية وتحويل هذه أو تلك الى أحزاب وطنية الطابع بشكل متعسف، فعلى الأقل يمكن الدعوة الى فك التحالفات السياسية النيابية (والانتخابية) التي تجمع هذه التنظيمات القائمة على أسس مذهبية أو قومية كالائتلاف العراقي (الشيعي) والتحالف الكردستاني وجبهة التوافق (السنية). ان هذه التحالفات تسيطر اليوم على الساحة السياسية والعملية الديمقراطية وتتقاسم مناصب ومسؤوليات الدولة ولكنها بدأت تواجه صعوبات كبيرة في ادارة هذه العملية وحتى في ادارة علاقاتها، ببعضها البعض، وبالتالي فأنها تشعر أيضاً بأن التخندق (المذهبي والقومي) ساهم بشكل واضح في تشويه صورة العملية السياسية، الانسانية في جوهرها والوطنية في مقاصدها، بل وقد يؤدي الى تخريب هذه العملية من الداخل بسبب ممارسة التوافق التي روج لها بعض السياسيين وبشر بها بعض المثقفين وغدا واضحاً أنها تعني في الواقع محاصصة تقاسم يفتقد المشروعية للمناصب الكبرى وحتى الثانوية منها على حساب معايير الكفاءة المهنية والمساواة بين العراقيين وتكافؤ الفرص التي كفلها الدستور (المواد 14 و16) وما تعنيه من سوء الأداء ومظاهر الفساد وانعزال السلطة.
ان الصعوبات المتعلقة بارث الماضي البغيض (العنف والفقر وتفكك العلاقات الاجتماعية والتدهور الثقافي) وتعقد الظروف الحالية (احتلال أمريكي وتدخل اقليمي مع تدفق المغوليين الجدد من جنود الارهاب التكفيري)، يجعل من الواجب على مختلف الأحزاب والتنظيمات والشخصيات السياسية تأكيد ما تم خلال الأربع سنوات الماضية من منجزات يمكن وصفها بالتاريخية بالنسبة لتاريخ العراق منذ قرون طويلة، والمضي الى الأمام بعقلية منفتحة على بعضها البعض لتأكيد هذه المنجزات وتحقيق مطالب التنمية والعدالة في اطار الدولة الديمقراطية الجديدة. اذن تفرض المصلحة الوطنية والسياسية أن تتقبل هذه الأحزاب فكرة التخلص من تحالفاتها الحالية وتأسيس تكتلات سياسية ونيابية بديلة تقوم على أسس وطنية وتمتلك برامج سياسية بمعنى الكلمة. وهذا يفترض أن تدخل الأحزاب والقوى السياسية والأثنية والدينية المختلفة في نقاشات مضنية لبلورة البرنامج الذي يمكنها الاتفاق عليه. وهذا سيشمل بطبيعة الحال مختلف التحالفات سواء منها المؤمنة بالفيدرالية أو تلك التي ستتفق على اعتماد اللا مركزية أو تلك التي ستجتمع حول محاور أخرى للعمل السياسي كالليبرالية أو الاشتراكية، وقد ينتمي ليبراليون أو اشتراكيون آخرون الى التحالف الفيدرالي عندما يعتبروه المحور الأهم في تقرير المصير السياسي للعراق.
وفي الوضع الحالي أي في ظل حكومة "الوحدة الوطنية" والمحاولات الدائبة لتحقيق المصالحة الوطنية، مقابل الخيارت الأخرى (كالحكم على أساس الاستحقاق الانتخابي أو حل مجلس النواب واجراء انتخابات جديدة)، تفرض الفاعلية السياسية التوجه نحو هذا التحالف الفيدرالي المقترح، وعندها ستصب جهود المصالحة الوطنية أيضاً في اتجاه انضمام أطراف أخرى الى هذا التحالف وذلك ببذل أقصى ما يمكن من المرونة والذكاء السياسي من قبل الأطراف المتحمسة للفيدرالية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني والمجلس الأعلى وحزب الدعوة. حيث تقاس القدرة السياسية لكل لاعب سياسي بقابليته على التمرس بفن الممكن وتقديم التنازلات التي تسمح له بالتحالف مع أكبر عدد ممكن من الأحزاب والقوى في اطار هذا الخيار الديمقراطي الفيدرالي. ولكن الفارق المهم أن الاتفاق سيتم ليس بجبر الخواطر وبالخطابات وانما بالاتفاق على برنامج عمل حكومي صعب الانجاز ولكنه يسهل العمل الحكومي المقبل.
ويتطلب تحقيق مثل هذا التحالف ان أردنا له النجاح أموراً عديدة من أهمها:
أولاً اذا كانت مختلف القوى الماسكة بالسلطة لا تريد العمل بالاستحقاق الانتخابي فقط بل تًصر فعلاً على تحقيق المصالحة والتفاهم فعليها التخلص من نفسية التخندق المذهبي والقومي للتفاهم مع القوى الأخرى على أساس المرونة السياسية وأن تكف عن مطالبة الآخرين بالمرونة بينما هي متمسكة بمواقفها، موضع الخلاف. وبالنسبة للمدافعين عن الفيدرالية فان أي تحالف يتمحور حول الديمقراطية الفيدرالية سيشكل قوة كبيرة لهم وكلما توسموا بمرونة أكبر كسبوا حلفاء أكثر، لا سيما وأن هناك اطار واضح (الديمقراطية الفيدرالية) يجمع هذه القوى المتنازلة لبعضها البعض، ان صح التعبير. فعليها اذن التنازل لقاء هذه المكاسب، وفي المقابل، على القيادات السياسية في جبهة التوافق اعلان قناعتها الواضحة بشرعية الدستور الكاملة بعد الاتفاق على تعديله طبعاً وتحويل المرونة السياسية التي نشهدها في الواقع عند الكثيرين من قادتها اليوم (وقد دفعوا ثمناً باهظاً لذلك) الى أساس عمل لها وتحييد بعض المتشبثين من قيادييها بالخطاب الطائفي المتشنج والذي أصبحت أضراره واضحة على مختلف المسستويات.
ثانياً: تفرض هذه المرونة تخفيض سقف المطالب التي تعتبرها هذه الأطراف كخطوط حمراء ولا سيما نفس القوى الداعية الى الفيدرالية. اذ لا يمكن أن تستمر هذه القوى في دعوة الآخرين الى الانضمام للعملية السياسية الحالية وهي تفتقد المرونة اللازمة لتعديل الدستور وتتخندق على مطالب مثل اقليم الوسط والجنوب وحدود كردستان وكردستانية كركوك وتريد تحقيق كل ذلك الآن وهي تعلم يقيناً أن الذين يراد اقناعهم بالمشاركة في العملية السياسية لن يقبلوا بهذه الاطروحات، رغم مشروعيتها كما يبدو في نظر غالبية العراقيين. فمشروعية المطلب لا تعني فرض طريقة وتوقيت تطبيقه وعندما تدخل المبادئ في السياق السياسي فعلينا تقبل وضعها موضع التفاهم السياسي والتصالح مع المقابل على برنامج حد أدنى بالنسبة لمختلف الفرقاء. هذا التفاهم السياسي (لا غالب ولا خاسر) في اطار المصالحة (الوطنية) ثم خصوصاً الاستمرار في ممارسته العملية من قبل الأطراف المعنية لفترة مهمة سيؤسسان بشكل موضوعي (لا خطابي) للثقة المطلوبة بين الفرقاء ومن خلال الممارسة نتجاوز ثقة القبلات والمجاملات والشعارات الى ثقة حقيقية تتشكل تدريجياً على أرضية الواقع المتطور ولدى مختلف الأطراف المعنية، وستسمح عند تكونها فعلاً بحصول مقاربات أقل تشنجاً وحوارات موضوعية وتفاهماً على طرق حل هذه الاختلافات وغيرها. وهكذا ستصبح قضية كركوك أو تقاسم الثروات أو اقليم الوسط والجنوب أو غيرها من المواضيع الشائكة لدى مختلف الأطراف مواضيع يتم مناقشتها بشكل حضاري، كما يقال، بين أناس يثقون ببعضهم فعلاً لا قولاً. هذا السياق لا ينظر بدرامية الى الرفض المحتمل للقوى الأخرى التي ذكرتها أو بعضها لهذه المبادرة وتشكيلها تحالفات أخرى، عند ذاك ستكون القوى المؤمنة بالفيدرالية قد أدت واجبها الوطني والسياسي وسيكون لها أن تتخذ المواقف التي تراها مناسبة ويجب التذكير هنا بأن تحالفاً يتمحور حول برامج مغايرة قد يصبح حليفاً في فترة أو أخرى من مسيرة التطورات السياسية الحافلة دوماً بالمستجدات في سياقات النظم الديمقراطية.
ثالثاً: ولضمان صلابة الاتفاق المؤسس لمثل هذا التحالف، ينبغي لقادته أن يحسموا أيضاً موضوع رحيل القوات الأجنبية وعدم الاكتفاء بمواجهة مطلب الجدولة الزمنية لرحيلها بالجدولة الموضوعية، اذ يمكن بل يجب تحديد مفاصل الجدولة الموضوعية المقترحة واقرانها بمقاربة زمنية. فتسليم الملف الأمني في المحافظات مثلاً يمكن تحديده بمقاربة زمنية مع نهاية العام الحالي، كما أكد ذلك مؤخراً رئيس الجمهورية، الأستاذ جلال الطالباني، كذلك يمكن أن تقترن المفاصل الضرورية الأخرى بمقاربات زمنية مماثلة، وهكذا يمكن التصالح على مبدأ "الجدولة الزمنية الموضوعية" بل وتضمينها فكرة أن التواريخ المتبناة تقريبية وليست نهائية، فلا أعتقد أن النظر الى واقع تحقق المتطلبات الضرورية لرحيل هذه القوات الأجنبية في نهاية كل مرحلة سيكون مستعصياً على اتفاق قادة الأطراف المختلفة.
وأخيراً، يتطلب هذا المقترح طبعاً النقاش الجدي لتعميقه وتطويره من قبل المعنيين، المهم أن يتم مثل هذا الجهد لأنه ضروري لتخليص البلاد من المخاطر التي ذكرناها وتنقية الأجواء السياسية وتسديد العملية الديمقراطية على الأسس الوطنية والعقلانية السليمة. ولا تنبع أهمية ذلك من واجب "الرفق" بالعراقيين وضرورة الحفاظ على أمنهم ومستقبلهم بل أيضاً من مصلحة السياسين أنفسهم في تأكيد مصداقيتهم في عيون العراقيين ويصح ذلك بالخصوص على القادة التاريخيين (عرباً وكردأ، سنة وشيعة)، فكما انهم معنيون بالمكانة التي يستحقونها في كتب التاريخ العراقي بعد نضالاتهم الطويلة وتضحياتهم الجسام ضد الاستبداد الصدامي، فانهم معنيون أيضاً بتكريسها الآن واكمالها بصفحات النضال الأصعب من أجل بناء عراق ديمقراطي فيدرالي متصالح مع نفسه ومنسجم مع تراثه المتجذر في أعماق التاريخ.
خبير في القانون الدستوري
sahibsd@yahoo.com