الحكومة الفرنسية المثيرة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جاءت التشكيلة الوزارية للرئيس الفرنسي الجديد تنفيذا لوعوده الانتخابية عن الانفتاح على كل شخصية فرنسية تريد المساهمة معه من أجل فرنسا. لقد قال حين فوزه إن المنتصر هي فرنسا وقيمها وإنه لا غالب ولا مغلوب بين المرشحين. وبالفعل، فقد ضمت التشكيلة الوزارية برنارد كوشنر الاشتراكي الذي سبق أن تسلم مناصب وزارية في عهد حكم الاشتراكيين. والداتي ذات الأصل المغربي وزيرة للعدل. كما عين اشتراكي وصديق أمين عام الحزب الاشتراكي منذ ثلاثين عاما وزيرا لشؤون الأوروبية. تضم التشكيلة أيضا وزراء من حزب الوسط الذي يرأسه فرنسوا بيرو المعارض لسركوزي وخصمه. ووفق استطلاع أجرته مؤسسة "سوفريس" للفيجارو وبعض الفضائيات الفرنسية، فإن ثقة الفرنسيين بسركوزي ازدادت منذ إعلان أسماء الوزراء. ويتبين أن 60 بالمائة من الفرنسيين راضون ونسبة غير الراضين 28 بالمائة، أكثريتهم من أنصار اليسار. وحصل وزير الاقتصاد والمالية بورلو على 74 بالمائة من الأصوات، وكل من وزير الخارجية ووزيرة العدل، الداني، على 72 بالمائة. من الأمور اللافتة أيضا، عدا وجود كوشنر، أن تشغل وزارة العدل وزيرة من أصل مغربي، هي رشيدة الداني، وهي من المقربين للرئيس الفرنسي. والجديد أيضا تشكيل وزارة خاصة لشؤون الهجرة والاندماج والهوية الوطنية الفرنسية، كذلك تعيين مفتش عام للفعاليات التضامنية ضد الفقر. وجاءت التشكيلة بسبع وزيرات وثمانية وزراء.
إن وجود الوزيرين كوشنر والداني أثارا كثيرا من التعليقات الصحفية والسياسية. أما الاشتراكيون، وكما هي عادتهم، فقد سخروا من هذا الانفتاح، وسموه زائفا ومناورة، وقرروا فصل كوشنر باعتباره "مرتدا". لقد أثاروا حوله تقولات عن دور طموحه الشخصي؛ غير أنه لم يكن محتاجا للمناصب فقد شغل منصب الوزارة عدة مرات، كذلك حال الوزير الاشتراكي للشؤون الأوربية، "جان بيير جويّة"، حيث شغل العديد من المناصب الرفيعة في حزبه حتى عشية تشكيل الوزارة.
لقد كان من أهم إجراءات الانفتاح، عدا وجود وزراء من خارج حزب رئيس الجمهورية، الاحتفال المهيب الذي أقيم في غابة بولون الباريسية لتخليد مجموعة من شباب المقاومة الوطنيين من الشبان الشيوعيين، الذين كانوا لا يتجاوزون الثمانية عشرة عاما. كانت المجموعة على وشك الانخراط في المقاومة عشية التحرير عام 1944، ولكن مندسا فرنسيا وشى بهم للغستابو، فاغتالوهم بكل خسة وجبن في مكان الاحتفال. في الاحتفال تلت الطالبة الشابة [ 17 سنة ] صوفيا الإبراهيمي آخر رسالة وجهها مسؤول المجموعة "غي موكه" إلى أمه. كانت رسالة مؤثرة جدا ومشحونة بالحب لفرنسا وبروح التضحية من أجل تحريرها، كما شحنت بعواطف الحب للأم والأهل والزملاء. هذه الرسالة أبكت سركوزي، وأعتقد أن كثيرين ممن كانوا يتابعون الاحتفال من الشاشة، قد بكوا أيضا. وقي جاء في كلمة الرئيس الفرنسي فورا إنه سيطلب من وزير التربية أن تدرس الرسالة في جميع المدارس الفرنسية.
أما عن الوزيرة الداني، فقد رحبت الأوساط الفرنسية بتعيينها، كما رحب السيد محمد الشراني، الذي كان قد أسس منظمة "صوتوا للضواحي." ولكن ردود الفعل العربية، التي قرأناها للآن على لسان بعض المثقفين العرب خارج فرنسا، جاءت بأقلية مرحبة تذكّر القراء بوجود أكثر من وزيرة ووزير من أصول عربية في مناصب وزارية في دول الاتحاد الأوروبي، فضلا عن برلمانيات، وتمنى أحدهم لو أن الحكومة المغربية اقتدت بفرنسا في مساواة الجنسين في المناصب الوزارية الحالية. أما آخرون، من بين المصابين بعقدة المؤامرة، فقد عبروا عن مخاوف وهمية متوقعين أن تكون الوزيرة "سهما في كنانة أعداء العرب"، وقال آخر إنه يخشى أن "تطبق القانون على العرب وحدهم"! إننا لا نعرف أي عرب فرنسيين يقصد؟ هل الأكثرية المسالمة من المسلمين والعرب، أم الأقلية الصاخبة في بعض الضواحي والأحياء، ممن احترفوا العنف، وممن تمرسوا على حرق سيارات الموطنين، ورمي البوليس بقذائف مولوتوف، والمعتدين على المسنات والمسنين؟؟! هل يراد عدم تطبيق القانون على من ينتهكونه كل يوم وذلك مهما كان أصله، أم ينبغي استثناء ذوو الأصول العربية والأفريقية، وترك الحرية المطلقة لهم لتحدي القوانين؟؟؟!
إن رشيدة امرأة عصامية لا يزيد عمرها عن 41 عاما، وكانت تعيش في إحدى الضواحي الباريسية الأكثر حاجة مع عائلتها ووسط 11 أختا وأخا. لقد عانت كثيرا بالكدح الشاق لضمان نفقاتها القانونية. وقد تقدمت من نجاح الآخر، حتى لفتت إليها أنظار عدد من كبار القانونيين الفرنسيين، من أمثال أتالي وكذلك الوزيرة والسياسية اللامعة سيمون فيل، الذين نصحوها بدخول المعهد القانوني الأعلى. وصارت من بين أصغر مساعدي النائب العام وكوادر المحاكم في الضواحي "الحارة"، ذات الأكثرية من أبناء الهجرة المغاربية والسوداء. وفي 2002، مع تعيين سركوزي وزيرا للداخلية، أعجبتها توجهاته، ونهجه في الحفاظ على سيادة القانون، ودخلت ضمن كوادره، وتقدمت حتى صارت من الناطقين بلسان حملته الانتخابية الرئاسية.
أما برنارد كوشنر، وهو 67 سنة عمرا، فإنه في مقدمة الشخصيات السياسية الفرنسية الأكثر شعبية، وهو كسركوزي من أصول مهاجرة بعيدة. وبالمناسبة، فقد صرح سركوزي أنه "فرنسي صغير بدم مختلط"، وأضاف أن كل تاريخ فرنسا وقيمها مغروسة فيه وقد تشربها. إن المثقف والمؤرخ والسياسي اليساري ماكس غالو، الذي كان الناطق الرسمي بلسان حكومة بيري بوغوا الاشتراكية زمن ميتران، يرى في ظاهرة الاعتراف بالدم المختلط هذا، وبلوغ الرئاسة بهذا الدم، طفرة في التطور الفكري والسياسي الفرنسي. إنه يرى في اعتراف سركوزي بكونه من أصول الهجرة اعترافا من فرنسا بكون دماء أبنائها مختلطة.
كوّن وزير الخارجية رصيده الكبير منذ 1971 بالعناية الاستثنائية بالدفاع عن حقوق الإنسان في كل مكان، وقيادة حملات إغاثة إنسانية لمساعدة سكان المناطق المتضررة، وخصوصا في أفريقيا. كان مثلا يحمل بنفسه أكياس المساعدة للضحايا في الصومال، وعينته الأمم المتحدة بين 1999 و2000 ممثلها الأعلى في كوسوفو. كان من رواد مذهب التدخل العسكري لأسباب إنسانية. ومع أن كل الأحزاب الفرنسية أدانت الحرب الأخيرة في العراق، فإنه كان السياسي اليساري الفرنسي الوحيد، ومن القلة بين الساسة والمثقفين الفرنسيين، ممن برروا تلك الحرب. كان منطقه أن الحرب بشعة وإنه ضدها، ولكن بقاء دكتاتور دموي كصدام بانتهاكاته الواسعة ضد العراقيين هو الأسوأ والأكثر بشاعة. وفي 2004 قال إنها حرب مبررة لكونها كانت لإسقاط "دكتاتور شرير"، على حد وصفه. كان يقول: " من أجل تغيير القانون فمن الواجب أحيانا كسر القانون"، ومن هنا فقد كان يثير غضب الحكومات الفاسدة والاستبدادية بتبريره للعمل المسلح ضد كل طاغية يقمع شعبه قمعا وحشيا. إنه من منطلق حقوق الإنسان، لا موضوع التسلح، أيد إزاحة صدام بالقوة.
لم يكن كوشنر مجاملا لسركوزي، بل وهاجمه أحيانا خلال الحملة الانتخابية، ولكنه في الوقت نفسه وجده تدريجيا الأقرب لمعتقداته في الإصلاح، ووضع حقوق الإنسان في المقدمة، ولأن سركوزي رجل انفتاح؛ كذلك الاتفاق معه على وجوب رأس الصدع مع الولايات المتحدة،و والتقارب معها. وهناك أيضا إعجابهما بنهج توني بلير في الإصلاح، وتطوير الاقتصاد، وتقليص البطالة، مع استمرار تعزيز الخدمات الاجتماعية، وقد فسر ماكل غالو هذا الإعجاب بأن كلا من بلير وسركوزي يمثلان جيلا وطرازا جديدا من الساسة، بإيمانهم العميق بالأمة وتاريخا وتراثها، وفي الوقت نفسه العزم على التغيير والإصلاح وعدم الجمود على مقولات بعينها.
عندما جرى تعيين كوشنر قال: "قد يبدو في ذلك شئ من الغرابة ولكنني مقتنع بأنني سأخدم مصالح فرنسا من هذا الموقع." في الوقت نفسه، فثمة قضايا كبيرة لا يتفقان حولها، ومنها موضوع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، حيث يرى كوشنر أن تركيا دولة أوروبية ويجب انضمامها إلى الاتحاد، بينما سركوزي يعتبرها دولة من آسيا ويعارض انضمامها؛ وللعلم فإن شيراك كان من أنصار الضم، وكذلك الاتحاد الأوروبي. وسنرى في المستقبل القريب عما إذا كانت ستتم تسوية عامة حول الموضوع. كما هما يختلفان حول سحب القوات الفرنسية من أفغانستان، وهو ما ينويه سركوزي ويعارضه وزير الخارجية. ويعارضه كوشنرم. جهة أخرى، يخشى أصدقاء الوزير القدامى، والذين رحبوا بقبوله الوزارة، من أن تقوم له بعض المشاكل بسبب صراحته، الخارجة أحيانا عن مألوف اللغة الدبلوماسية المزوقة بل أحيانا المراوغة، في التعامل الدولي، ولكن من المتوقع في رأينا أن يلزمه المنصب بتلطيف اللهجة والأسلوب، دون التراجع عن معتقداته. إن هناك دولا كثيرة لا تحترم حقوق مواطنيها، ولكن لا يمكن التعامل معها على قدم المساواة، وإن "الجبهوية" ليست هي دوما سبيل الحل. إن من الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان، روسيا التي يوجد اليوم بعض التوتر بينها وبين الاتحاد الأوروبي بسبب حقوق الإنسان، واستعمال سلاح النفط والغاز لابتزاز والضغط على جمهوريات كانت سابقا ضمن الاتحاد السوفيتي، كأوكرانيا، وجورجيا، وروسيا البيضاء، وتنظيم المظاهرات الصاخبة في موسكو ضد دولة صغيرة كأستونيا ومحاصرة سفارتها. إن الصراحة المباشرة والقوية لوزير الخارجية الجديد جعلت الهيرالد تريبيون تضع في مقالها عن الحكومة الفرنسية، وعلى صفحتها الأولى، عنوان " الطبيب المباشر" direct، أي الصريح بلا مجاملة.
إن المستقبل سيبين مدى نجاح حكومة سركوزي في حل المشاكل الفرنسية الكبرى، وما تجابهه البلاد والمجتمع من تحديات داخلية ودولية: كقضية تطوير الاقتصاد لزيادة الثروة الوطنية، وتحريك سوق العمل الذي وضع اليسار له قيودا صارمة، وكمشكلة البطالة، والأمن، والهجرة، وتحقيق الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين في أيام الإضرابات الكبرى خصوصا في وسائل النقل العامة. ومعلومة المعارضة العنيفة للنقابات العمالية، التي لا تمثل غير 6 بالمائة من العمال، ولكن لها قوة إعلامية كبيرة، فضلا عن استخدام العنف أحيانا تجاه العمال الراغبين في العمل، أو وضع المتاريس لمنع تحرك القاطرات أو الحفلات العامة. إن سركوزي ورئيس الوزراء يريدان حل مشكلة خدمات الحد الأدنى بالتشاور مع قيادات النقابات، ولكنهما مصران على تحقيق الوعد الانتخابي بضمان الحد الأدنى من الخدمات، وهو ما تطالب به أكثرية ساحقة من الفرنسيين تجد نفسها شبه مختطفة أيام إضرابات النقل. إن من الأمور الكبرى العزيزة على سركوزي مشكلة تعزيز صيانة الهوية الفرنسية وقيمها الديمقراطية والعلمانية. كما هناك موضوع إصلاح نظام الضرائب، وكيفية معالجة مآزق اقتصادية كبرى في مقدمتها مأزق طائرة "الأير بوص"، الفرنسية ـ الألمانية، وإذ يتشكى الألمان من العراقيل الفرنسية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فالحكومة مصممة على تعزيز قوة ووحدة الاتحاد الأوروبي، والتقارب من الولايات المتحدة، وهي متفقة في الموقف من النووي الإيراني، والموضوع اللبناني، وقضية العلاقات الفلسطينية والعربية مع إسرائيل، علما بأنه يبدو أن سركوزي ربما يريد موقفا أكثر حزما من موقف شيراك للضغط على الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل وبالاتفاقات بين الجانبين، والتي تمت بمظلة دولية. وسوف تحتل حقوق الإنسان في التعامل الدولي مكانا هاما في السياسة الخارجية الفرنسية ، خصوصا بوجود برنارد كوشنر وزيرا للخارجية.
تبقى قضايا عاجلة وساخنة أخرى، في مقدمتها قضية الرهينة الكولومبية ـ الفرنسية بيتانغور، المقيمة كل عائلتها في باريس. ومن المؤلم أن نرى فرنسا تعارض سياسة الحكومة الكولومبية في التعامل بحزم وقوة لتحرير المئات من الرهائن، الذين هم سجناء العصابات الماوية التي تمارس الاغتيال، وتخطف مقابل فدية مالية، والتي هي في مقدمة زارعي المخدرات وتهريبها للمتاجرة بها لتمويل إرهابها الدموي. إن فرنسا وإيطاليا، وخلافا لمواقف توني بلير وبوش، تتراجع أما إرهاب الخطف وتقدم فديات كبرى لتحريرهم كم جرى مؤخرا في أفغانستان وكما يبدو أنها تريد حل الرهينة في كولومبيا بنفس الطريقة. إن العديد من الدول الغربية الأوروبية تشجع الإرهاب بشكل غير مباشر كلما كانت القضية خطف بعض رهائن بلدانها. هذا ما فعلته إيطاليا في العراق حين خطفت عصابات الإرهاب صحفية تسابقت للوصول للفلوجة لمقابلة زعماء الإرهاب بحجة "أخذ الأسرار" منهم!! وهذا ما فعلته إيطاليا أيضا مؤخرا حين ضغطت على الحكومة الأفغانية لإطلاق سراح زعماء طالبانيين خطرين،؛ ويبدو أن طريقة الرشوة هذه هي التي تفضلها فرنسا، مع الأسف.
أخيرا و في تقييم عام للتغيير الجديد يقول الكاتب والسياسي اليساري ماكس غالو في تصريحات له في صحيفة :لو باريسيين" عدد 20 مايو الجاري:
" لسنا فقط أمام تبدل الأجيال السياسية، بل نحن على أعتاب إعادة بناء الجمهورية الخامسة ، أي القريبة من يوم تأسيسها عام 1958.".. "لقد كانت هناك أزمة عميقة بسبب عدم وجود برنامج من أجل فرنسا. نحن اليوم في عهد الأمة. كانت البلاد ناضجة للتغيير، ولكن كانت ثمة هوة بين حيوية البلاد وتكلس النخب السياسية." إنه يرى أن اليسار، وطوال عهود الحكم الاشتراكي الطويل، تصرف بمعزل عن رؤية الواقع وواجبات التغيير، وإن على اليسار أن يفتح عينيه أمام الواقع وتحدياته الجديدة.