تنظيم القاعدة وفرنسا: من سيحدد ساعة الصفر؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هددت "كتائب" أبي حفص المصري التي تعتبر الفرع الأوربي لتنظيم القاعدة، في بيان لها على الانترنيت بأنها "ستشن حملة جهادية دامية" في فرنسا، ردا على انتخاب "الصليبي الصهيوني" ساركوزي.
تنظيم القاعدة، كما نرى، يهدد بإغراق فرنسا بالدماء، ليس، مثلما جرت العادة، بسبب مطالب محددة يريد تحقيقها، كإطلاق سراح معتقلين، أو سحب قوات عسكرية من بلد معين، أو إلغاء قانون أصدرته فرنسا، وترى القاعدة انه يسيء للمسلمين.
القاعدة تهدد فرنسا، هذه المرة، بسبب وصول السيد نيكولا ساركوزي إلى سدة الرئاسة. ومثلما هو معروف للجميع، فأن ساركوزي لم يصل للرئاسة إلا بعد أن صوتت له أكثرية الفرنسيين. والفرنسيون صوتوا لساركوزي وفقا لقواعد نظام سياسي ارتضوه لأنفسهم، وساروا عليه منذ سنين طويلة، فساركوزي ليس الرئيس الأول، إنما هو الرئيس الثالث والعشرون للجمهورية الفرنسية. وسواء كان ساركوزي جيدا أو لا، وسواء كانت الآلية الدستورية التي فاز بفضلها، جيدة أو لا، فأن هذا شأن يخص الفرنسيين وحدهم.
مطالب مستحيلة، لكنها مدروسة بعناية
هنا، يخطو تنظيم القاعدة خطوة غير مسبوقة، في تعامله مع المجتمعات الغربية. فالتنظيم يريد أن يفرض نفسه، قاضيا ومعلما ومرشدا لهذه المجتمعات، ويفرض عليها أن تغير نمط حياتها، وتتخلى عن قناعاتها الفكرية ومعتقداتها السياسية، ليس عن طريق الحوار، ولا الإقناع، وإنما عن طريق الصدام، واستخدام العنف بأرقى أشكاله.
هل هذا الهدف الذي يريد تنظيم القاعدة الوصول إليه هو، هدف سهل، ومعقول، وقابل للتحقق، في المدى المنظور، أو حتى الأبعد ؟ بالتأكيد، لا.
إذن، هل أن تنظيم القاعدة مجموعة من المغفلين والحمقى الذين لا يقدرون حقائق الأمور، حتى يطالب بمطالب مستحيلة كهذه ؟ الجواب، أيضا، لا.
لماذا، إذن، أطلقت القاعدة تهديدها، حتى قبل أن يمارس الرئيس الفرنسي الجديد مهامه، رسميا ؟
تهديد القاعدة هو، بدون شك، بالون اختبار، يراد منه معرفة رد فعل الرئيس الفرنسي الجديد، وردود أفعال الطبقة السياسية الفرنسية، عموما. لكن بالون الاختبار هذا، له أغراض أخرى، منها ما يخص الرئيس ساركوزي، شخصيا، ومنها ما يخص الشعب الفرنسي.
القاعدة أرادت، بإطلاق هذا التهديد المبكر جدا، أن تزعزع ثقة الرئيس الجديد بنفسه، وأن تنزع المبادرة من يده، منذ الأيام الأولى لانتخابه، وتجعله في حال الدفاع، بدلا من تطبيق سياسته "الهجومية" التي وعد بها، في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب.
والقاعدة تريد أن تجعل الرئيس الجديد، حتى قبل جلوسه على كرسي الرئاسة، أسيرا ومرتهنا لضغوطات المعارضة السياسية الداخلية، وكذلك لضغوطات الشارع الفرنسي. فالفرنسيون ما يزالون يتذكرون الرعب الذي سببته تفجيرات العاصمة الفرنسية قبل سنوات، وكذلك تفجيرات مدريد في 11 آذار عام 2004 واعتداءات لندن في في 7 تموز 2005. والفرنسيون، مدفوعين بهذه الذكريات الأليمة، سيضغطون، (هكذا يفكر تنظيم القاعدة) على الرئيس الجديد، لمنعه من "التحرش" المبالغ فيه، بخلايا وبتنظيمات القاعدة، ومن يؤيدها ويوفر لها الدعم داخل فرنسا. وهذه الخلايا موجودة، فيما يبدو، على الأرض الفرنسية. وإلا، فكيف تهدد القاعدة بشن هجمات داخل فرنسا، إذا لم تملك وجودا ماديا في هذا البلد.
منظرو القاعدة وواضعو إستراتيجيتها يعرفون، عن طريق الدراسات الميدانية التي تكون قد قدمت من قبل خلايا نائمة للتنظيم في فرنسا وأوربا، أن الرئيس الفرنسي الجديد مصمم على الوقوف بحزم ضد الحركات الإسلامية المتطرفة، وهو مستعد، إن أقتضى الأمر، للذهاب بعيدا في تحالفه مع واشنطن، لتحقيق هدفه.
ولأن تنظيم القاعدة يعتبر، كما يبدو، فرنسا "الحاضنة الأوربية" الأولى للتنظيم، و"مربط فرسه"، تجهيزا وتنظيما ودعما ماليا ولوجستيا، بسبب عوامل ديموغرافية وجغرافية واجتماعية، فأنه يخشى، ليس فقط على "الفراخ" التي ستفقسها مستقبلا الخلايا النائمة التي شكلها في فرنسا، ولكنه يخشى من تدمير "الحاضنات" نفسها، أي هذه الخلايا النائمة التي تعب التنظيم في إيجادها، إذا نفذ الرئيس الفرنسي الجديد سياسته الموعودة ضد الإرهاب.
هلع له مبرراته
تنظيم القاعدة بدأ يشعر بهلع، فعلا، حالما تم الإعلان عن نتيجة الانتخابات الفرنسية. وهو يريد، وعلى عجل، استباق الأمور. فهذا التنظيم يخشى أن تؤدي الإجراءات المنتظر أن ينفذها الرئيس الفرنسي الجديد، إلى "تسميم" و"تعقيم" و"تجفيف" البيئة الفرنسية، وجعلها غير صالحة، ليس فقط للنشاط العسكري لتنظيم القاعدة، أو الدعم اللوجيستي، فحسب، وإنما تجعل الأجواء الفرنسية غير صالحة، أيضا، للنشاط التبشيري الذي يقوم به هذا التنظيم في أوساط الجالية المسلمة داخل فرنسا. ولهذا، فأن القاعدة تريد أن تشل قدرة الرئيس الجديد لتمنعه من تطبيق إجراءات يفكر جديا بتنفيذها، وربما حتى قوانين جديدة ينوي تشريعها، ضد نشاط الحركات الإسلامية المتطرفة بفرنسا.
هذا في ما يخص الرئيس الفرنسي المنتخب. إما في ما يخص تهديد الشعب الفرنسي، فأننا نجده في "لغة" البيان الذي أصدرته القاعدة، وكذلك نجده في توقيت إصدار البيان.
فالبيان يخاطب، ليس الرئيس المنتخب وحده، وإنما الفرنسيين الذين انتخبوه، قائلا لهم: "إنكم وبعد أن حسمتم أمركم وأمرتم على أنفسكم الصهيوني الصليبي المتعطش لدماء وأطفال ونساء وشيوخ المسلمين"، فعليكم انتظار ما سنفعله بكم. وإذا عرفنا أن الفرنسيين سيصوتون في منتصف شهر حزيران القادم، لاختيار أعضاء البرلمان، فأن القاعدة تحذرهم من تكرار الفعلة ذاتها، واختيار أكثرية برلمانية تتألف من نفس الحزب الذي ينتمي إليه الرئيس المنتخب. بمعنى آخر، أن تنظيم القاعدة يريد، بهذا البيان /التهديد المبكر الذي أصدره، حرمان الرئيس الجديد وحزبه، من أكثرية برلمانية داعمة لقراراته التي ينوي اتخاذها لمكافحة الحركات الإرهابية.
ما الذي يتعين على الرئيس الفرنسي المنتخب أن يفعله بمواجهة تهديد القاعدة ؟
استنادا على (سوابق) تنظيم القاعدة، وقدرته على تنفيذ وعوده، فأن هذا التنظيم لا يمزح فيما يقول، وهو ينفذ ما يعد به. ولهذا، فأن الفرنسيين بدأوا يوطنون أنفسهم، منذ الآن، على أيام عصيبة، قادمة. ومن هنا نفهم تأكيد وزيرة الدفاع السابقة ووزيرة الداخلية حاليا، السيدة ميشيل أليوت ماري، بأن " خطر الإرهاب دائم (وهو) قلق كبير يمكن أن نواجهه خصوصا في المرحلة الحالية".
لكن، ماذا بوسع الفرنسيين، والرئيس الجديد أن يفعله في مواجهة تهديد القاعدة ؟
أول ما يتوجب على الرئيس نيكولا ساركوزي فعله هو، أن يلتفت صوب الجالية العربية والمسلمة في فرنسا. والأسلوب الناجع، في هذه الحال، هو أن يقدم الرئيس ساركوزي على تنفيذ سياسة إيجابية جديدة، بالكامل، إزاء الجاليات العربية والمسلمة; سياسة لا تعتمد أسلوب الخطوة خطوة، وإنما أسلوب التغيير/ الصدمة. فهو لم يعد، الآن، "المرشح" ساركوزي، وإنما أصبح ساركوزي"الرئيس" لجميع الفرنسيين. وهذه الحقيقة تقتضي نسيان ما كاله الرئيس الفرنسي المنتخب، خلال حملته الانتخابية، من انتقادات، أو شتائم ضد الشبان العرب من ساكني الضواحي (حثالات، سننظف مناطقكم منكم)، التي، ربما، اعتبرها كثير من عرب ومسلمي فرنسا شتائم موجهة ضدهم كلهم.
هذه البداية المنتظرة، أو مبادرة حسن النية، ستكون ذات تأثير كبير لو رافقتها إجراءات عملية جديدة، في مجالات مختلفة ومتعددة. وأولى هذه الإجراءات "تبريد" الجبهة الإعلامية الفرنسية. فالمعروف أن الرئيس الفرنسي الجديد يملك حظوة ونفوذا واسعين لدى المؤسسات الإعلامية الفرنسية الضخمة، المرئية والمسموعة والمكتوبة. وغالبا ما شكت الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا (وشكواها ليس دائما بدون حق) من تحيز هذه المؤسسات ضدها، ونشرها لمشاعر الكراهية المرضية، المبالغ فيها (islamophobie) ضد الإسلام والمسلمين.
وهذه المبادرة لا تؤتي ثمارها، إذا لم ترافقها خطوات مرادفة، عملية على الأرض، كأن تعمد السلطات الفرنسية إلى بعث الحياة من جديد، قولا وفعلا، في سياسة (التمييز الإيجابي Discrimination positive ): زيادة الخدمات الحكومية العامة وتحسين نوعيتها داخل المناطق المكتظة بالجاليات العربية والمسلمة ; إتاحة فرص حقيقة وواسعة، وبطريقة غير مسبوقة، أمام تلاميذ مدارس الضواحي الفقيرة للالتحاق بالمعاهد التدريسية الراقية التي ما تزال أبوابها موصدة بوجوه هولاء التلاميذ ; خلق فرص عمل، على نطاق واسع، لأبناء الضواحي الفقيرة ; اختيار مقدمي برامج إذاعية وتلفزيونية، خصوصا في القنوات العامة، من أبناء العرب والمسلمين في فرنسا ; إدخال وزراء في الحكومة الجديدة من أبناء الجالية العربية والمسلمة، ليس بشكل ديكوري، أو ذرا للرماد في عيون أبناء هذه الجالية، وإنما بطرق تشعر أبناء المهاجرين العرب والمسلمين بأن الدولة الفرنسية تعاملهم، قولا وفعلا، كمواطنين فرنسيين من الدرجة الأولى، وليس كرعايا مشكوك في ولائهم لفرنسا. وحبذا لو أسندت وزارات سيادية لأبناء الجاليات العربية والمسلمة، شأنهم شأن الوزراء الفرنسيين المنحدرين من ديانات وجاليات أجنبية. والفرنسيون من أصول عربية ومسلمة لا يعدمون وجود كفاءات باهرة، وشديدة الولاء والإخلاص لفرنسا. وحسنا فعل الرئيس الجديد عندما اختار السيدة رشيدة داتي، الفرنسية من أصل مغربي، لوزارة مهمة هي وزارة العدل.
سحب البساط من تحت أقدام الحركات الإسلامية المتطرفة
وإذا أقدمت السلطات الفرنسية على اتخاذ إجراءات كهذه، وعمقتها لاحقا، فأنها ستجد تعاونا لا حد له من الفرنسيين المنحدرين من أصول عربية ومسلمة، ومن جميع أبناء الجاليات العربية والمسلمة المقيمين داخل فرنسا. فلا أحد في هذا الكون يريد لنفسه أن يبقى مطاردا من قبل البوليس، أو متسكعا في الشوارع، أو ممتهنا لتجارة المخدرات، أو مجندا لتنفيذ عمليات تفجير انتحارية.
هناك أكثر من ثلاثة ملايين عربي ومسلم في فرنسا، والبعض يقول أن العدد يصل إلى نحو خمسة ملايين. والذين يتعاطفون، من هولاء، مع الجماعات المتطرفة والإرهابية، هم نسبة ضئيلة جدا. إما الغالبية الساحقة منهم، فهم ضد أفكار وأطروحات القاعدة. وحتى هولاء المتعاطفين مع تنظيم القاعدة فأنهم يفعلون ذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية، أكثر مما يفعلون بسبب قناعات ايدولوجية.
إن هولاء القلة المتعاطفين مع الحركات الإسلامية المتطرفة، وغالبيتهم من الشباب، إنما يفعلون ذلك احتجاجا ضد بؤسهم الاقتصادي والاجتماعي، وانتقاما لما يعتبرونه تهميشا لهم داخل المجتمع الفرنسي. وليس صحيحا أن يقال أن جميع هولاء الشباب هم، من "حثالات" المجتمع، ومن محترفي الشغب، والباحثين عن العنف المجاني بأي وسيلة. وحتى العنف الذي يمارسونه، أحيانا، ضد الممتلكات العامة والخاصة وضد مؤسسات الدولة، فهو عنف غير مبرمج، وعفوي. فهم يمارسون هذا العنف، في أحيان كثيرة ضد أنفسهم وعائلاتهم وأبناء جلدتهم. فالسيارات المحترقة التي تعرضها شاشات التلفزيونات، إنما توجد في الضواحي، أي أنها تعود لسكان الضواحي أنفسهم. والمصاعد المعطلة والنوافذ المهشمة وسرقات الحاجيات الشخصية، والاعتداء على سائقي سيارات النقل العام، هي كلها تنفذ في الضواحي ويدفع ثمنها سكان هذه الضواحي أنفسهم.
لكن، هذا العنف العشوائي، العفوي، بإمكانه أن يصبح عنفا دمويا مبرمجا، إذا وجدت جهات تستغله، وتمنحه غطاء، أو تبريرا ايدولوجيا، وإذا وجد الفتيان والشباب الذين يمارسونه، من هذه الجهات "اعترافا" بهم، وب"بطولاتهم". وقد أصبح معروفا أن بعض "أمراء" تنظيم القاعدة، الأكثر دموية، والأكثر اندفاعا هم، من الجانحين الذين تم تجنيدهم داخل السجون، أو من المهمشين اجتماعيا واقتصاديا.
تأقلم واندماج، أم انصهار وذوبان ؟
وهناك جانب يتعلق بسياسة "الاندماج". فالحديث الذي لا تكل السلطات الفرنسية عن تردداه حول ضرورة (اندماج) أبناء الجاليات العربية والمسلمة، داخل المجتمع الفرنسي، لا يتعدى عن كونه ثرثرة، لا أكثر. وإلا كيف يتم الاندماج، وهولاء المهاجرون العرب والمسلمون يعيشون داخل عمارات سكنية معزولة ومقفلة على نفسها، هي أشبة ب(المعازل) البشرية، أكثر من كونها بيئة صالحة للعيش المختلط.
والواقع، أن الاندماج الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام الفرنسية وتقول أن أبناء الجالية العربية والمسلمة يرفضونه، هو ليس، حقا اندماج (inteacute;gration)، وإنما يراد له أن يكون (انصهار) (assimilation)، أي التخلي عن الخصوصية، والذوبان داخل المجتمع الفرنسي، وهذا أمر صعب ومعقد، ولا يتم بين سنة وأخرى، إن لم يكن أمرا مستحيلا، ناهيك عن تعارضه ضد ما يسميه الفرنسيون بالتعددية والاختلاف الخلاق، وخصوصية الهوية الشخصية، والذي يفتخرون أن مجتمعهم الفرنسي له، في هذا الشأن، تقاليده الطويلة والعريقة.
لقد آن الأوان، إذا أرادت السلطات الفرنسية لسياسة الاندماج أن تنجح، أن تتوقف بعض الجهات الفرنسية، وخصوصا الوسائل الإعلامية، عن تضخيم الأمور، والمبالغة فيها، كلما تعلق الأمر بمسألة تخص أبناء الجاليات العربية والمسلمة. إن هولاء المهاجرين وصلوا إلى فرنسا، ومعهم تقاليدهم وعاداتهم الدينية والاجتماعية. وهم، خصوصا كبار السن، لا يستطيعون التخلي عن هذه العادات والتقاليد بسهولة، حتى لو عاشوا منذ عشرات السنين في المجتمع الفرنسي.
فمثلا، يعمد البعض من هولاء إلى نحر أضاحي العيد داخل منازلهم، وتقوم بعض العائلات منهم، خصوصا القادمة من أفريقيا، بختان الفتيات، أو تفرض بعض العائلات على بناتها أن يتزوجن من أقاربهن، ويرفض أهاليهن زواجهن من أوربيين. ورغم أن هذه الحالات قليلة ونادرة الحدوث، وبعضها حالات سيئة ترفضها حتى المجتمعات الأصلية التي قدم منها الوافدون، إلا أنها حالما تحدث، فأن الإعلام الفرنسي يسلط عليها الأضواء، ويبالغ في تضخيمها، بدلا من شرح الأسباب التي تقود للمارستها، حتى يبدو العرب والمسلمون، خصوصا لرجل الشارع الفرنسي، وكأنهم مجموعة من البرابرة، يسعون لتهديم المجتمع الفرنسي. وبالطبع، فأن ردود الأفعال السلبية هذه، تقود إلى ردود أفعال سلبية، هي الأخرى، لا تستفيد منها إلا الحركات الإسلامية الأصولية المتطرفة، التي تقدم نفسها وكأنها المدافع والمحامي الوحيد عن العرب والمسلمين في فرنسا، وتصور جميع الفرنسيين وكل الأوربيين وكأن همهم الوحيد هو، محاربة العرب والمسلمين، وهذا أمر لا يمت، بالطبع، للحقيقة.
إن هذه الأمور هي ما يتوجب على الرئيس الفرنسي الجديد أن يفعلها، حتى يحول الملايين من أبناء الجاليات العربية والمسلمة داخل فرنسا، إلى طاقات خلاقة، وسدا منيعا بوجه الحركات الإسلامية المتطرفة. فهولاء الملايين أعطوا، هم وإبائهم وأجدادهم، المزيد من الخدمات لفرنسا، وضحى بعض أبائهم وأجدادهم بأنفسهم، دفاعا عنها. وكثير من هولاء، خصوصا ما يسمى الجيل الثالث، الذين ولدوا ونشأوا في فرنسا، لا يعرفون لهم لغة أخرى غير الفرنسية، ولا بلدا أخرا غير فرنسا. ويذكر العالم كيف جند أبناء هذه الجاليات أنفسهم للمساعدة في إطلاق الرهائن الفرنسيين الذين تم احتجازهم داخل العراق، وكيف رفض أبناء هذه الجاليات أن تتدخل في شؤونهم الداخلية، جهات أجنبية، عندما حدثت ما سميت بقضية "الحجاب الإسلامي".هذا على صعيد التعامل الفرنسي مع الجاليات العربية والمسلمة.
القاعدة توظف نجاحها (الأسباني) فتطالب بالمزيد
إما الخطوة الإستراتيجية المرادفة لهذه الخطوات، في مواجهة تهديدات القاعدة، فتكمن في مواصلة الرئيس الفرنسي الجديد، لسياسة المواجهة والاقتحام ضد تنظيم القاعدة، وجميع الحركات الإسلامية المتطرفة. وسيجد الرئيس ساركوزي جميع الفرنسيين عونا له في سياسته هذه، بما في ذلك المعارضة الفرنسية الداخلية، وكذلك أبناء الجاليات العربية والمسلمة. وستكون هذه السياسة أكثر فعالية وتأثيرا، إذا دعا الرئيس الجديد، منذ الآن، إلى عقد مؤتمرات تشاورية موسعة، تشارك فيها كل القوى السياسية الفرنسية، في الموالاة والمعارضة، لوضع جميع هذه القوى في صورة التهديد الذي أطلقته القاعدة، وداخل صورة الإجراءات المزمع تنفيذها لمكافحة الإرهاب. ومن الضروري أن يشرك الرئيس الفرنسي، في هذه المؤتمرات واللقاءات، جميع ممثلي الجمعيات والاتحادات الإسلامية العاملة في الساحة الفرنسية، للاستئناس بآرائهم، ولطلب مشورتهم ونصائحهم، والحصول على دعمهم، خصوصا وأن الرئيس ساركوزي كان قد كون لنفسه علاقات واسعة مع ممثلي هذه الجمعيات، عندما كان وزيرا للداخلية، ومسؤولا عن الأديان في فرنسا.
وبعد ذلك، يتوجه الرئيس لجميع الفرنسيين، ليصارحهم أن أياما صعبة قد تنتظرهم، بسبب ما سيقدم عليه تنظيم القاعدة من هجمات ضد أهداف فرنسية. وقد يسقط جراء هذه الهجمات ضحايا فرنسيون، أو يتم خطف رهائن فرنسيين، أو تفجير ممثليات فرنسية في الخارج. لكن، هل يوجد بديل أخر، غير أسلوب المواجهة، وها هو تنظيم القاعدة يوصد كل الأبواب، ولا يترك غير إتباع هذا الأسلوب؟
لقد أثبتت الوقائع أن تنظيم القاعدة لا يكتفي بتنازل يقدم له، ولا بهدنة تعقد معه، ولا بمساومة تعرض عليه. فالجميع يتذكر كيف أن تنظيم القاعدة نجح في ابتزاز أسبانيا، وجعلها تجثو على ركبتيها، وتلبي مطلبه فتسحب قواتها من العراق. وها أن التنظيم يستثمر نجاحه (الأسباني)، فيطالب المجتمع الفرنسي، هذه المرة، بالتخلي عن نمط عيشه.
ومثلما ذكرنا، فأن الرئيس الفرنسي الجديد سيجد دعما واسعا لسياسته المتشددة ضد الإرهاب. فاللافت هو، أن التهديد المذكور الذي أصدره تنظيم القاعدة، لم يؤثر على قناعات ومواقف الفرنسيين، ولم يغيرها. فقد أظهر استطلاع للرأي نشرته الصحافة الفرنسية يوم الاثنين في 21 أيار / مايو، أن حزب الرئيس ساركوزي سيكتسح مقاعد البرلمان الفرنسي في الانتخابات التشريعية المزمع أجرائها في حزيران القادم. وهذه النتيجة، إذا صحت وتحققت، فأنها ستصبح سلاح أضافي سيستخدمه الرئيس الجديد، وتشجعه على المضي قدما في مواقفه المتشددة ضد الإرهاب. فالفرنسيون الذين انتخبوا ساركوزي، والذين يعدون، منذ الآن، بانتخاب أكثرية برلمانية من حزبه، يعرفون جيدا أن الرئيس الجديد مصمم على مكافحة الإرهاب، بل أن البعض منهم صوت له لهذا السبب، بالذات.
إنها معركة حقيقية، كما يبدو، وهي معركة أختارها ووقتها وأعلن عنها تنظيم القاعدة، ولم يبق غير أن يتم تحديد ساعة الصفر، حتى تبدأ.
والسؤالان الأخيران هما: من سيحدد ساعة الصفر، تنظيم القاعدة أم السلطات الفرنسية؟
وهل سيظل الرئيس الفرنسي الجديد قابعا في قصر الاليزيه، انتظارا لبدء المعركة، أم انه "سيتغدى" بتنظيم القاعدة، قبل أن "يتعشى" به التنظيم؟