الرافضون للاسلام.. هم الرافضون للاصلاح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الرافضون لافكار التحديث والتطوير والاصلاح في عصرنا الراهن، وكذلك على امتداد قرون مضت من الزمن، هم ذات الرافضين بصورةٍ او بأخرى لافكار رسالة الاسلام في مراحلها الاولى. ورأوا فيها انقلاباً فكرياً واجتماعياً يضرّ بمصالحهم وبمكانتهم الدينية المتمثلة وقتئذٍ بحماية الاوثان والاشراف على مواسم التجارة والحج.
وجدت زعامة قريش وممن معهم من مالكي الاراضي وكبار التجار والمرابين التهديد الاخطر كامن في الدعوة الاسلامية لانها تسعى الى تغيير خارطة الواقع بشكلٍ كامل. بينما وجدت طبقة الفقراء والمستضعفين والعبيد والمضطهدين في الاسلام تعبيراً عن تطلّعاتهم المقموعة وحلمهم الانساني بالعدل والمساواة والحريّة. ورأى الرسول ومعه نفر قليل من المؤمنين بدعوته ان عليهم التبشير برسالتهم لما فيها من ادوار تطويرية لواقع المجتمع العربي وللمجتمعات كافة، وذلك بنشر قيم انسانية وفكرية واجتماعية جديدة. فحارب الاسلام مفهوم الاله الذي كان سائداً في المجتمع، وكل مفاهيمهم عن القانون والعدل وسواها. فدعى الى تحطيم اصنام قريش، وحارب الذين يكدسون الاموال والذين يرابون ويضطهدون ويحتكرون ويصادرون اموال وحقوق اليتامى والمساكين. وهنا كان رد زعماء قريش وممن معهم من الاثرياء عنيفاً وصارماً. لان هذه الدعوة الجديدة تعني الغاء الوعي السائد في الكعبة او استبداله بوعي جديد، اخطر ما فيه انه يشطب صفتها التجارية التي بدورها ستشطب زعامة قريش ورجالها اقتصادياً وسياسياً. بمعنىٍ ما، وجدوا الخطر في التوجّه الانساني والاخلاقي في الرسالة الجديدة. وفي فترة صراع دامت اكثر من عشرة اعوام من بدء الدعوة، بدأت تتشكل ملامح طبقية جديدة في المجتمع، بين فئاتٍ فقيرةٍ معدمةٍ مضطهدة في العموم وبين فئاتٍ ثريّةٍ من كبار التجار والمرابين وسواهم.
استمر الصراع بعنف ووحشية حتى هجرة الرسول من مكة الى المدينة. اي من مدينة تجارية الى مدينة زراعية تخلو من الزعامات الاقتصادية او الدينية او السياسية، طموحاً لانشاء حاضنة مستقرة لفكرة الاسلام. فحدث ان بايعت قبائل الاوس والخزرج الرسول بدعوته، ثم انتشرت الدعوات والنداءات الى الهجرة الكبرى الى المدينة.
طبيعة التحوّل واصل الخلاف
الهجرة قد حسمت الصراع تاريخياً بين مكة والمدينة، بين زعامات قريش وشكل المجتمع الجديد الاسلامي. وبعد الكثير من الكثير من الغزوات والمعارك بين اعداء الاسلام في مكة والانصار والمهاجرين في المدينة استتبّ الامر لصالح المسلمين، ودخلت جيوشهم مكة من دون حربٍ او قتال، بعد دعوة للتفاوض حول هذا الدخول، ومن ثم قبولهم بالدعوة الاسلامية بعد ثمانية اعوامٍ من الهجرة. ان زعامة قريش ادركت بعد اعوام الاقتتال خطورة نمو الآلية التجارية الجديدة في المدينة، ومن التفاف العامة حول دعوة الاسلام، وسرعان ماادركت ايضا اهمية علاقة التجاري بالديني، ورأت في تفاوضها لدخول الاسلام ضماناً لمستقبل زعامتها ومكانتها التجارية والدينية في ذات الان.
في المدينة خطى المجتمع خطواتٍ في مرحلة تنظيمه وتطوره، من البدائية والمشاعية الى كيان انساني واحد ينبذ الاستغلال والعصبية القبلية واشكال الاضطهاد. واصبحت تشريعات الاسلام واحكامه العامة هي القوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية وطبيعة العلاقات الاقتصادية واطر تنظيمها الحقوقي. وبات هو الكلمة والسلطة العليا في المجتمع، واُعتبر ذلك تشريعياً الهياً بواسطة الوحي ومن ثم التبليغ النبوي عبر الرسول، موثقاَ بآيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية
فهل يمكن اعتبار دولة المدينة التي انشأها المسلمون الاوائل دولةً بمعنى مقومات الدولة المتعارف عليها بين الامم ؟
ولماذا حافظ ولاة الامر وفقهاؤهم من السلفيين على هذا الشكل من ال lt; دولة gt; واعتبروها التشريع النهائي المطلق لحياة العرب والمسلمين على وجه البسيطة، ووقفوا بعنف ضد كل دعوات الاصلاح والتحديث والتطوير على مر العصور ؟؟؟
لايمكن نقد هذه الظاهرة المتجذرة في عمق الوعي العربي الاسلامي دون تشخيص ودراسة عوامل بنيتها القبلية والدينية والاجتماعية والاقتصادية تاريخياً. ومنه نشير الى ان خصوصية lt; دولة gt; المدينة التي لم تكن اكثر من انشاء او محاولة انشاء نواتات اولية لمجتمع مدني جديد يسعى الى صهره في اُطر اسلامية عامة، تفك اسره من اغلال قيم مالك الارض والمال والقبلية والعبودية الى حرية قيم المساواة والعدالة والتشريعات الاسلامية التي تتمثلها كل الامة.
الاسلام حصر اشكالية الحوار الفكري بمسألة المعرفة بالقرآن والحديث واشترط الايمان بعقائدية الدعوة وشرعيتها، لان الله مصدرها الوحيد وان الرسول لم يكن الا مبلغاً لاغير. هذه الشرطية بمعنى ما تدعو الى القبول التام من دون حوار. فالحوار يتضمن الاسئلة والاسئلة تنبع من مصادر الشك في الوعي، بينما الايمان لايتطلب سوى القبول التام من دون كل هذه الشكوك والاسئلة. ويؤكد اغلب المفسرين ورواة الحديث ان موضوع الحوار والجدل قد حُسم في خطبة الرسول في حجة الوداع، كما جاء في الآية الثالثة من سورة المائدة lt;lt; اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا gt;gt;. في هذه الصورة المكتملة النهائية، الغير قابلة للتغيير، تنحصر كل امور العقائد والشرائع، منتهية برسالة الاسلام وخاتم الانبياء، وما على الناس سوى الايمان، ويحق للمجتهد في سعيه نيل الأجر والثواب في فهم هذه النصوص، ولكن ليس بالاعتماد على تحليله العقلي الذاتي، انما باعتماد مارواه رواة الحديث عن الرسول. وقد سُمي هذا الاستنتاج لاحقاً ب lt; السنة gt;. وهو الذي تلقفته واحتوته زعامة قريش السلبقة lt; سلالة بني عثملن فيما بعد gt;، ولكن باسم حماة الدين وحراسة قيم وشرائع السلف هذه المرة، لتستثمر الكعبة كمركز عالمي تجاري ديني فكري ثقافي بدلاً من كونه كما كان قبل الاسلام عربياً فقط. هذا الاختزال هو الذي اقصى بعد وفاة الرسول كل الدعوات الاصلاحية المغايرة، واقصى العديد من احاديث الرسول التي لاتتوافق مع توجهات الذين نصّبوا انفسهم ولاةً على الامر الواقع، وحرّاساً أبديين لرسالة السماء. وقد انتجوا من تحت عباءاتهم علماء ومفكرين وفقهاء يتصدّون بالحجة الراسخة لكل رأيٍ مغايرٍ وقراءةٍ مختلفة. واصبح كل داعية الى حوار فلسفي متعمق في النصوص الدينية هو داعية للخروج عن دين الاسلام، ودعوته تلك هي دعوة الى الكفر والزندقة يستحق عليها اشد القصاص.
في المسار التاريخي لايمكن لحركة الاصلاح والتحديث ان تتوقف، فجرى تسليط الضوء على النصوص التي تمجد قدرة العقل عند الانسان وتحثه على ان يكون هو صورة الله على الارض. والله هنا هو الحق والعدل والنور والايمان، وتأمّل كل هذا ياتي بالتحليل العقلي وبالارادة. هذه الارادة تعني الاعتراف بقدرة وامكانية الانسان على استنباط البدائل الفكرية والفلسفية الملائمة لبنية المجتمع التي تتغير على الدوام.
حاصر الفقهاء الاوائل هذه الارادة وحددوها بصفة ووظيفة خارجية تكمن في تمييز التفاصيل واعادة ربطها بالقديم.وقالوا ان الفلاسفة اما دهريون وهم زنادقة او طبيعيون وهم زنادقة ايضاً رغم ايمانهم بالله وصفاته كما يقول الغزالي. او الهيون كسقراط وافلاطون وارسطو، فهم كفرة يجب قتالهم وقتل من يسير على نهجهم كابن سينا والفارابي وسواهم.
من المؤسف ان هذا النهج التأثيمي مازال سائداً، وباتت آراء الفقهاء السلفية قوانين سارية المفعول بحق اصحاب الاراء المغايرة حتى الان، وبحق كل من يحاول استحداث اية بدائل فكرية.
فيصبح ليس غريباً فيما بعد lt; في القرن الثامن gt; ان يشتم ابن تيمية مثلاً عالم نحو كبير مثل سيبويه، وان يهاجم المتصوفة ويكفرهم، وهو من كفّر المعتزلة والشيعة، وكل من تبنّى نهج التأويل في قراءة النصوص الاسلامية. واعتبرماعند رواة الحديث من العلم والمعرفة واليقين ماليس عند أئمة الفلاسفة والمتكلمين امثال واصل بن عطاء والشافعي والرازي وحتى الغزالي لانهم lt; كما يقول gt; اذا كشفت عنهم وجدتهم من اجهل الناس lt; كما اوردها صالح الورداني في مدافع الفقهاء عن الفتاوى الحموية ص 92- 95 gt;. اي انه لم يشا ان ياخذ حتى بدورهم في الفرز والتمحيص في ذلك الكم الهائل من الروايات المنسوبة الى الرسول، والتي قد تضرّ برسالة الاسلام اولاً.
هذا الاتجاه هو الذي حصر المعرفة بحدود ضيّقة لاتحتمل الجدل ولا العلم ولا الحوار. عكس ماورد في الآيات التي تحث على الحكمة والعدل والتقوى وتؤمن بطاقة الانسان الادراكية على استنباط الافكار والمفاهيم الجديدة وتدعو الى الجدل lt;lt; وجادلهم بالتي هي احسن gt;gt; لاستنتاج ونشر قيم العدل كما في قوله lt;lt; ان الله يأمر بالعدل والاحسان gt;gt;، وعن الحكمة وجدوى الحكماء lt;lt; يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أُوتى خيراً كثيرأ gt;gt;.ومع هذا حصر السلفيون هذه الدعوات في تمييز الحلال والحلال فقط، اما ان سعى اصحابها الى مناقشة امور العقيدة والتشريع فهم زنادقة ملحدين ومبتدعة، يبطنون الباطل. وفي وشاية مشابهة لمثل هذا الكلام في زمن الرسول عن رجلٍ قيل عنه انه باطن للنفاق.. عقّب الرسول باستهجان عن مثل هذه التهمة بقوله : lt;lt; هلاّ شققت عن قلبه gt;gt;.
ان عملية الربط القسري للتفاصيل الكثيرة في الموروث الاسلامي بالمصدر الالهي، قد ختم بتحريم الجدل في المسائل العقائدية والتشريعية، واحال كل مايحدث على الارض الى قضاء الله وقدره. لكن وظيفة العقل في القرآن وفي احاديث الرسول مكّنت علماء الكلام والفلاسفة عبر تفاعلهم مع الحضارات الاخرى من صياغة المحاور الرئيسة في الحياة الفكرية العربية الاسلامية رغم اختلاف مستويات تاثيرها في مسيرة التاريخ. وكان هذا جلياً بعد انشاء الفرق الاسلامية عقب وفاة الرسول، وظهور ازمة الخلافة الى السطح، واعلان منهاج السنّة قانوناً واساساً في حياة المسلمين بعد تولّي الخليفة الاول.