الإسلاميون التوانسة ما بعد حركة النهضة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
استشهد الدكتور محمد الهاشمي الحامدي، الوجه الإعلامي التونسي المعروف، في سياق مواجهة فكرية وسياسية مفتوحة مندلعة بينه وبين قيادة حركة النهضة المهجرية، بمقولة للعلامة "ابن خلدون"، أرى أنها الأصدق إلى يوم الناس هذا في تحليل حالة "الحركات الإسلامية"، وخصوصا النزعة الغوغائية والشعبوية المتأصلة فيها، والتي تحول بينها وبين الاندماج في سياق سياسي حداثي ومعاصر وديمقراطي.
يقول العلامة ابن خلدون:" إن كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله، فيكثر أتباعهم والمتلثلثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك. وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه. قال صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه. وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه. وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء. لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم. فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب، وكان فيه محقا، قصر به الإنفراد عن العصبية فطاح في هوة الهلاك. وأما إن كان من المتلبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك، لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين. ولا يشك في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة". (ابن خلدون، المقدمة، الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم. بيروت: دار القلم، الطبعة الخامسة، 1984. ص (159-160).
إن مشكلة كثير من إسلاميي حركة النهضة التونسية، خصوصا أولئك الذين لجأوا إلى الغرب، بعد معركة ضارية مع نظام بلادهم، أنهم لم ينظروا إلى صراعهم هذا من منظور التاريخ العربي الإسلامي، الذي أوجد قواعد وأحكاما ما تزال صالحة في فهم حالتهم الراهنة، ومن ذلك أن خروج جماعات من أمثالهم على حكام دولتهم، ليس أمرا جديدا طارئا، بل كان حالة متكررة طيلة القرون الفائتة، مثلما أشار إبن خلدون، وأن القاعدة الأساسية في تدبير هذا الأمر، هو لمنطق "المغالبة" لا "المصالحة"، وإلا ما جعل الماوردي صاحب كتاب "الأحكام السلطانية"، وأول الفقهاء السياسيين للدولة الإسلامية، من "الغلبة والقهر" مصدرا من مصادر الشرعية الدينية، التي بها ينال أمير المؤمنين وحاكم المسلمين رضا الله وبيعة الناس.
إسلاميو النهضة التونسية، وإسلاميون في عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، ليسوا إذا غرباء عن تاريخ الصراعات السياسية بين الحكام وبعض الجماعات الدينية المارقة، وهم في هذا الشأن أقرب إلى أن يكونوا "خوارج" أو "قرامطة" أو "فواطم" أو "زنج" أو غيرهم من الفرق والملل والنحل، التي عبأها قادتها اعتمادا على مبدأ الحسبة في "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لكن نهايتها غالبا ما كانت كارثية على نفسها وأتباعها وبلادها، لما اتسمت به السيرة عادة من اختلاف السلوك عن الشعار، وفساد الوسيلة قياسا بصدق المبدأ، و طبع الغوغاء والدهماء المهدم الفتان، الذي يعدم كل ثقة في قادة تملكهم الحقد وتلبس بهم الشيطان من مدخل الحق وأعمى وهم الاعتقاد في صواب رأيهم بصيرتهم.
إن القاعدة التي حكمت الصلة بين الدولة التونسية والحركة الإسلامية، هي قاعدة المغالبة وفقا لمنطوق التاريخ العربي الإسلامي، و ليس للديمقراطية التي يمكن أن يتحجج بها المهزومون ساعة الهزيمة، أي علاقة بالموضوع، فهي لم تكن مشروعا لأي من الطرفين ساعة اندلاع المواجهة وحتى انتهائها، ولقد انتهت المغالبة بتشتيت الإسلاميين وتشريدهم و إنهاء حركتهم، وكان على قادتهم أن يعترفوا بالهزيمة وأن يطووا صفحة من تاريخهم، غير أن طبع عقيدتهم الغوغائي حال دون ذلك، من باب المكابرة و المعاندة، فعمدوا إلى منطق زرع الأوهام واستنجدوا بخطاب القدر، وكلاهما لا يعدو أن يكون إلا هدرا للوقت ومزيدا من تضييع مصالح أتباعهم المساكين، الذين كانوا وقود معركة مغالبة لم يستشاروا فيها، و دون وعي من غالبيتهم أو مصلحة.
لقد نصحت الدكتور الحامدي بأن لا يبدد وقته وجهده في إقناع جماعات ختم الله على قلوب رؤوسها، فأصبحت عوالم الوهم الافتراضية عندها حياة، تستعيض بها عن الحياة الحقيقية التي كرست حكم من غلبهم وشتت شملهم، خصوصا وأن التاريخ حافل بأمثلة مئات الآلاف من الخوارج في كل عصر إسلامي، شردتهم معاركهم مع الأمراء إلى أطراف البلاد والصحارى، وقضوا نحبهم على أمل انتصار لم يتحقق، ومغفرة وثواب من الله، لا يعلم أحد ما إذا كان سيتقرر باعتباره شأن أخرويا، وأحسب -ولا أرجو-، أن آلافا من إسلاميي حركة النهضة، سيقضون وعيالهم في المنافي والسجون، يكابرون في الاعتراف بالهزيمة، ويرون في أي مراجعة جذرية لواقعهم نوعا من هذا الاعتراف وتنازلا غير مبرر عن نصر سيتحقق يوما، ولن يتم.
والرأي عندي، أن على المعنيين بالإصلاح السياسي والتحديث الاجتماعي في تونس، أن ينأوا بأنفسهم عن معركة المغالبة هذه، فقد عرفت الدولة التونسية كيف تتعامل مع الجماعات الدينية المارقة عليها، وهي الأقدر على التعامل معها في الحاضر والمستقبل، وما يجب تركيز الإصلاحيين التونسيين عليه، هو السعي إلى الاندماج في السياق الشرعي المتاح، والعمل على المساهمة في تطوير البنى السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية التي أقيمت عليها الدولة الوطنية التونسية الحديثة، إذ لا مانع من تتزامن مواجهتان في وقت واحد، واحدة محكومة بقاعدة "المغالبة" حيث تواجه الدولة الجماعات الدينية الغوغائية، و أخرى محكومة بقاعدة الحداثة حيث يتطلع الإصلاحيون إلى توجيه النسق السياسي إلى مزيد من الشفافية والديمقراطية والعصرنة.
وإن ما يتمناه الكاتب من الدولة التونسية، أن تلعب دورا فاعلا في إعادة بناء الحالة الإسلامية على نحو يخدم مصالح البلاد العليا، ويشجع كل من لديه استعداد لمراجعة موقفه والعودة إلى مجتمعه "مسلما" مسالما لا "إسلاميا" متطرفا حقودا، لتحقيق هذه المراجعة على أرض الواقع، فليس أكثر ما يفيد قادة الغلو والحقد و التطرف داخل الجماعات الدينية، من غلو وحقد وتطرف يمارسه بعض المحسوبين على لدولة.
كاتب تونسي