المعضلة التركية، الإتحاد الأوربي والتجربة اليابانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
لقد حلمت تركيا على مر السنين بأن تكون عضو في الاتحاد الأوربي، ويبدو بأن أحلامها بدأت تتلاشى رويدا رويدا. فهي دولة أسيوية-أوربية أسلامية مهمة استراتيجيا للولايات المتحدة. فالإدارة الأمريكية مهتمة ببقائها بحلف الناتو وبأن تكون عضوا بارزا في الاتحاد الأوربي. ويريدها الغرب أن تكون مثلا للدول الإسلامية المعتدلة، ليؤكد بأن النظم الديمقراطية العلمانية في الدول الإسلامية يمكن أن تكون ناجحة، كما أن جسور العمل المشترك بين الدول الإسلامية والغرب قد تكون مفيدة ومنتجة لنقل التطور التكنولوجي والعلوم المتقدمة الغربية. ويبدو بأن نجاح نيكولاس سريكوزي قد يكون عائقا جديدا للأحلام التركية والأمريكية. كما أن الخلاف الجديد حول اختيار عبد الله غول رئيسا لتركيا، قد يكون حجرة عثرة إضافية للمشاركة الأوربية.
وقد كتب بيتر بيمونت بجريدة اليابان تايمز، بتاريخ الحادي عشر من مايو 2007 يقول فيه، "في الثاني والعشرين من جولاي سيصوت الشعب التركي للانتخابات المعلنة لنزع فتيل الأزمة السياسية والدستورية التي كادت أن تربك الدولة التركية. وقد يكون الخلاف حول حجاب الرأس والمرأة التركية المعاصرة...والحقيقة بأن المواجهة خلال الأسابيع الماضية حول تعين عبد الله غول يلمس خيوط معيبة عميقة اجتماعية وسياسية...والخلاف هو صراع على السلطة السياسية وصراع طبقي بقدر ما هو عن الإسلام. وقد نتفهم هذه المواجهة بملاحظة الضواحي المتزايدة حول اسطنبول خلال الأربعين سنة الماضية. فقد توجه القرويون إلى المدينة ليقطنوا في العمارات الكبيرة. وفي هذا العمارات تعيش تركيا الجديدة والقديمة في منافسة شديدة، والممثلة للدائرة الانتخابية الجديدة لحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعروف ببرنامجه النشط للحصول على عضوية الاتحاد الأوربي وجذب الاستثمارات الأجنبية..ويشكك إحسان داغي الصحفي بجريدة زمان التركية، بأن تركيا متجه نحو التطرف الإسلامي. بل يعتقد بأن القضية الأساسية هي ظهور طبقات جديدة كانت بعيدة سابقا عن الحياة الاقتصادية والسياسية، والتي بدأت تهدد مصالح النخبة المعروفة بارتباطها بالمثاليات العلمانية..وقد أصبحت المجموعات الإسلامية جزءا من النسيج التركي السياسي والاجتماعي المعاصر، و يحاول من في السلطة إقصائهم وبقوة. وحتى ظاهرة حجاب الرأس، هي مؤشر بأن المرأة التركية من الفئات الفقيرة قد بدأت تأخذ مواقع اجتماعية وسياسية بارزة. ومن الضروري أن يعتبر ذلك انتصارا للجمهورية.
ويؤكد الاستفتاء الشعبي الذي أجرته مركز الأبحاث تيسيف هذه الحقائق. فقد كشف الاستفتاء بان 22% فقط من العينة تتصور بان العلمانية في خطر بتركيا، كما أن 8% أبدو تفضيلهم لدولة إسلامية. كما وضحت الدراسة بأنه كلما كان الشخص متعلما وثريا فكلما زاد تخوفه على خطورة الوضع على العلمانية التركية. كما أكدت الدكتورة نلوفر نارلي بأن الموضوع اكبر من قضية حجاب الرأس...وتعترف بأن هذه التغيرات هي إرهاصات اجتماعية بقدر ما هي دينية. وتؤكد الإحصائيات بأن هناك زيادة كبيرة في الطبقات الفقيرة المتوسطة في تركيا. كما بداء عدد كبير من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة بالتحرك مع عائلاتهم المحافظة والمتدينة نحو المدينة. وهؤلاء هم من أكثر المستفيدين من النمو الاقتصادي المستمر بسرعة 7% سنويا، منذ أن انتخبت الحكومة الجديدة. وقد لاحظت نارلي التغيرات في العادات الاجتماعية للنساء المتدينات. فقد كان نساء القرى الفقيرة ترتدي المعطف الطويل الذي يغطي جميع أجزاء الجسم. بينما تلاحظ الآن بأن هؤلاء النسوة يلبسون موضات مختلفة وضيقة. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل "تأسلم" المجتمع التركي، أم أن عوائل المسلمين الفقراء قد تطور وضعها الاقتصادي وبدأت تبرز وتأخذ مواقعها الاجتماعية والسياسية وتتأثر بالحداثة؟"
وهناك صراع سياسي أقتصادي أيضا في مجتمعاتنا العربية بما يتعلق بالحركات السياسية والاسلام والحداثة. فقد بدأت الفئات الفقيرة تتقدم في مواقعها الاجتماعية والاقتصادية. وبعض هذه الفئات متعلمة ومتخصصة والبعض الاخر لم تتوفر له فرصة التعليم. ومعظم هذة الفئات عاشت حياة القرية وعاداتها الاجتماعية والتزاماتها الدينية. ومع تطور المجتمعات والتوسع في المدن بدأت هجرة هذه القوى البشرية نحو المدن. والتطور الاجتماعي والتكنولوجي في المدن وسع مدارك وتفكير ومستوى الثقافة. وقد خرجت هذه الفئات من عزلة القرى وبدأت تتفهم السياسة والمفارقات الطبقية الحادة في المجتمعات. كما أن بعض الحركات السياسية أصبحت مرتبطة بواقع هؤلاء الناس الديني والاجتماعي. كما أن بعض هذه الحركات اهتمت بالاعمال الخيرية في مساعدة الفئات المحتاجة. ومن المعروف بأنها تتكلم وتفكر بنفس طريقة المجتمع وتتعايش مع معظم الفئات المجتمعية. والكثير من هذه الفئات من الطبقة البسيطة ذو الدخل المحدود، وتواجهه ضغوط حياتية صعبة. ومع التطور الديمقراطي بدأت تلعب دورا بجماهيرها الغفيرة.
ولنتدارس عزيزي القارئ التجربة التركية واليابانية فقد تستفيد منها الحركات السياسية العربية لتعمل بأنتاجية لتطوير الاقتصاد والواقع الاجتماعي وتبتعد عن الاخطاء التي عانى منها الغرب حينما توجهه الدين نحو العمل السياسي. فقد عانت اليابان عبر العصور من تداخل الدين والسياسة مما أدى لمجابهات عنيفة وحروب كثيرة بين رجال السياسة ورهبان المعابد البوذية والكنائس المسيحية. وبعد الحرب العالمية الثانية فصل الدستور الياباني الدين عن الدولة. وتوجهت البلاد نحو البناء والتصنيع. وفي عام 1956 نجح في الانتخابات البرلمانية ثلاثة من رجال المؤسسة الدينية البوذية المسماة بالسوكا جاككي. وقد قاما هؤلاء الثلاثة بتشكيل حزب الكوميتو في عام 1964. وقد نجح هذا الحزب بانتخابات عام 1967 بشكل ملفت للنظر، حيث حصل على خمسة وعشرين مقعدا في البرلمان وأصبح بين ليلة وضحاها ثالث أكبر حزب في اليابان. ومن الغريب بان هذا الحزب الديني البوذي تحالف مع الحزب الشيوعي الياباني في عام 1975 وشكل حلف سوكوي. وقد حل هذا الحزب في عام 1994 على المستوى الوطني، وامتصت جماعته ضمن حزب شنشنتو. وفي عام 1998 نشط حزب كوميتو من جديد، ودخل في عام 1999 الحكومة وتحالف مع الحزب اللبرالي الديمقراطي والحزب اللبرالي. وقد عمل هذا الحزب الديني بحكمة وحافظ على مواقعه في البرلمان والحكومة حتى اليوم. فهو الحليف القوي اليوم للحزب الديمقراطي اللبرالي الحاكم. وقد فصل هذا الحزب ارتباطة بموسسته الدينية البوذية سوكا جاككي القوية. ففصل العمل السياسي عن المؤسسة الدينية. وعمل بذكاء بالتزامه بالدستور الياباني الذي يمنع الخلط بين الدين والسياسة، كما أعطى قيادته السياسة المجال للمناورة السياسية الذكية، كما جنب المؤسسة الدينية من الانتقاد والمحاسبة السياسية.
وأما التجربة التركية فيمكن دراستها من خلال حزب العدالة والفضيلة. فمن المعروف بأن النظام التركي قد فصل في عام 1923 الدين عن السياسة حينما أصبح كمال اتاتورك رئيسا للجمهورية العلمانية الجديدة. وكان الجيش التركي مستعد بالمرصاد لاي تدخل ديني في السياسة. كما نص دستور عام 1982 في مادته 24 بأن مسألة العبادة مسألة شخصية فردية. فأستمرت الجماعات والمنظمات الدينية بعدم التمتع بأية مزايا دستورية. وقد حكم البلاد الأسلامي التوجه تورغت أوزال من عام 1983 حتى عام 1993، وقد أقتنع بأن النموذج الكمالي قد أستنفذ طاقته. وجاء بعده نجم الدين أربكان بهويته الأسلامية أيضا وحاول أن يجري بعض التغيرات في المجال الداخلي والخارجي، فلم ينجح وقد أجبر على الأستقالة بعد سنة واحدة. وقد برزت الحركة الاسلامية التركية من خلال حزب العدالة والتنمية عندما استقال المجددون الاسلاميون المعاصرون من حزب الفضيلة عام 2001، وكان شعارهم هو الاعتدال في السياسة والفكر والسلوك. وأتجه الحزب لخدمة الشعب اقتصاديا واجتماعيا بعيدا عن الفساد. وتصرف بحكمة وتجنب المجابهات. كما تعلم فلسفة الهدوء امام العواصف والعمل في صمت والتركيز على الاولويات. وأبتعد عن الأستفادة من اثارة عواطف الجماهير الدينية، وامن بصدق بالديمقراطية فعمل ضمن أسس الشفافية والحوار والتعاون. وأشتغل ضمن الفريق الواحد للتعامل مع الفقر والجهل والبطالة. وأبتعد عن مواجهة المشكلات المتعلقة بالبناء الفوقي للمجتمع. وأكد على المصالحة الاجتماعية والحوار والتعاون والابتعاد عن العنف والمجابهة.
وقد وصف الدكتور عبد الله التركماني فلسفة حزب العدالة والفضيلة بقولة، "هو أطروحة فكرية سياسية لاسلام سياسي حديث، متولدة عن حراك اجتماعي عميق وجدل ثقافي متفاعل ما بين التراث والحداثة...ويعلن التزامه الكامل بالعلمانية، ويفصل الدين عن السياسة، وذلك لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الدولة. فالخلط بين الدين والسياسة يضيرهما معا، فالمبداء الديني محصن بطبيعته من أي تغير، أما السياسة فتتغير باستمرار استجابة للواقع...فعلمانيتهم غير معادية للدين، ولكن أيضا هي علمانية مؤمنة تقر بأهمية القيم الدينية في تحقيق الرقي الاجتماعي. كما أن علمانيتهم لا تتنكر للهوية الاسلامية للمجتمع التركي، وهي تندرج ضمن مقاربات تهدف الى اعادة ترتيب العلاقة بين الدين والسياسة بعيدا عن كل اشكال التنازع أو التوظيف، ويعطون أهمية للسلوك الاخلاقي الاسلامي، ويشجعون التدين دون أن يحصروا وظيفتهم داخل هذا الأطار. ..ويطرحون ديمقراطية علمانية لا تعادي الدين بل تستوعبه....حيث اعلنوا التزامهم الكلي بقواعد التعددية السياسية...وأعلنوا على عزمهم على حماية حقوق الانسان، وعدم التدخل في الحياة الخاصة للمواطنيهم، أو التعسف بتغير نمط حياتهم عن طريق سلطة دولة...وبذلك أثبتت بأنها حركة اسلامية ناضجة قادرة على التعامل العاقل مع القوى والتجمعات الحديثة والمشكلات المركبة القومية والاقليمية والعالمية.. وانها قادرة على عقد الصفقات المفيدة للجميع، كما أنها قادرة على قيادة شعبها قيادة حكيمة بدون تطرف..وفي اتجاه الانضمام الايجابي الفعال الى المجتمع الدولي."
والسؤال عزيزي القارئ هل ستراجع الحركات السياسية العربية تاريخها وفلسفة عملها وبرامجها وأسلوب تعاملها مع التحديات المستقبلية الوطنية والاقليمية والعالمية؟ وهل ستتدارس التجربة التركية الحديثة وتحاول تجنب أخطائها والأستفادة من أيجابياتها؟
سفير مملكة البحرين باليابان