الحكمة الإلهية والذبائح اليهودية 1/2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
1- الذبائح الحيوانية
الأضاحي البشرية والحيوانية شعيرة دينية قديمة لها تاريخ طويل في حياة الشعوب. ولها في عقول أصحابها، أسبابها ومبرراتها. وقبل أن تعرف البشرية الديانات السماوية، بزمن طويل، قدمت الشعوب القديمة لآلهتها كل أنواع الذبائح. والأمثلة كثيرة، ومنها المصريون القدماء الذين كانوا يرمون سنويا عددا من أجمل فتياتهم في النيل، تقدمة لإله النيل، لدرء خطر الفيضانات التي كانت تدمر أراضيهم، وتهلك الزرع والضرع. كما كان المؤابيون الوثنيون يقدمون أولادهم ذبائح للأوثان. وتعيد التوراة أصل المؤابيين الذين كانوا على عداوة مع بني إسرائيل، إلى نسل سفاح، جمع بين لوط وابنته الكبرى التي اتفقت مع أختها الصغرى، وأسكرا أبيهما لوط ثم ضاجعاه وهو سكران ، فحملت الكبرى وأنجبت ولدا أسمته (مؤاب) وهو جد المؤابيين. وحملت الصغرى وأنجبت ولدا أسمته (بنعمي) وهو جد بني عمون أو العمونيين الذين كان بنو إسرائيل على عداوة معهم أيضا. كما كانت قريش تذبح لآلهتها بين وثني أساف ونائلة. كما أن ديانات الشرق القديم التي أخذ منها بنو إسرائيل مبدأ الذبيحة، مارست جميعها طقوس تقدمة القرابين- بنوعيها- للآلهة. (القربان= ما يُقرّب الإنسان من الإله).
أولى الديانات التي آمنت بإله واحد للكون، والمعروفة لدينا كشعب وكتاب، هي الديانة اليهودية، أو ديانة بني إسرائيل، الذين وُجدوا في التاريخ حوالي العام (1500 قبل الميلاد). ثم تلاها ديانات سماوية اعتمدت من حيث المبدأ، المفاهيم والرؤى والقصص ذاتها. وكتابهم المعروف بالتوراة، هو أول كتاب ديني- تم تداوله- يوحد الله. وهذا الكتاب الذي يروي قصة بني إسرائيل، خطّه وصاغه بشر، خلال فترات زمنية متباعدة، بدءا من عام (1100 قبل الميلاد). ويقال أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا ليس هو النسخة الأصلية للتوراة. ولكننا لا نملك نسخة أخرى نقرأ منها.
لقد تحدث كتاب التوراة عن خلق الله للكون، وعن الجنة، وآدم وحواء. أما بخصوص الذبيحة فقد اعتبر أن الذبيحة الأولى تمت في الجنة، والذبيحة الثانية تمت على الأرض. إذ ذكر كتاب التوراة أن الله حين طرد آدم وحواء من الجنة، ألبسهما ثوبا من الجلد. مما يعني أن حيوانا قد قُتل أو ذُبح، وانتُزع جلده، وإلا من أين أتى ذاك الجلد؟ ويقول بعض التوراتيين أن تلك الذبيحة قد تمت تكفيرا عن خطيئة آدم وحواء اللذين خالفا أوامر الله. ولكن لو كان الأمر كذلك، وتمَّ التكفير، أو قُبل عن خطيئتهما، فلماذا طردهما الله من جنته؟
الذبيحة الأولى إذن- حسب التوراة- قُتل أو ذُبح فيها حيوان. لكن الذبيحة الثانية التي كانت خروفا أو كبشا، وتمت على الأرض، أدت لاقتتال الأشقاء فيما بينهم. أدت لقتل إنسان بيد أخيه الإنسان، فصارت سابقة في تاريخ البشرية. إذ أصبح الكره الحسد والقتل والاقتتال صفة ملازمة لصفات أفعال الإنسان. وارتبط تاريخ أول جريمة بشرية، بتاريخ أول ذبيحة حيوانية على الأرض تقدم قربانا للرب.
تقول التوراة في كتاب التكوين: كان هابيل راعيا للغنم، وكان قايين (قابيل) مزارعا. (قايين وهابيل أبناء آدم وحواء). وقد قدم كل منهما مما لديه قربانا للرب. فقدم قابيل من ثمار الأرض ومزروعاته، وقدم هابيل من أبكار غنمه (جمع بِكر)، وسمانها (جمع سمين). فنظر الرب (الذي لا يأكل ولا يشرب) إلى هابيل وقربانه. ولم ينظر إلى قابيل، ولا إلى قربانه (ولو أنه نظر، لربما اختلفت الأمور). وليس هذا فقط، بل إن الرب لام قابيل لأنه اغتاظ من عدم نظر الرب إليه، وقال له لو أحسنت صنعا (كشقيقك) لنظرت إليك، لكنك لم تحسن صنعا. فما كان من قابيل المزارع، إلا أن قتل- غيرة وحسدا وظلما- شقيقه هابيل الراعي (بنو إسرائيل كانوا قبائل من الرعيان، وهم يدعون أنهم مظلومون). وقد يفسر هذا أو يبرر لنا، سبب العداوة التاريخية بين الرعيان والفلاحين. فالرعيان في بحث دائم عن مراعٍ خصبة جديدة لأغنامهم، والفلاحون في استصلاح دائم لأراضٍ جديدة يضيفونها لأراضيهم القديمة المزروعة. مع العلم أن المزارع داعية استقرار، يبني الأرض، ويحافظ عليها، ويرتبط بها. وبسبب العلاقة الوطيدة بين المزارع والأرض، نشأت المدن، وتطورت البشرية، وتقدمت الصناعة والتكنولوجيا التي سهّلت على الإنسان حياته. بعكس الراعي الذي ليس له أي ارتباط بالأرض، بل يستنزف خيراتها ويقضي على مزروعاتها، ويرحل عنها بحثا عن أرض جديدة يستهلكها، وتستنزفها مواشيه.
لماذا فضّل (يهوه) تقدمة هابيل الحيوانية، ولم تعجبه تقدمة قابيل النباتية؟ لماذا تعاطف (يهوه) مع الراعي ونظر إليه؟ ولام المزارع على تقدمته ولم ينظر إليه؟ كل ما يمكننا استنتاجه أن التوراة أرادت أن تقول لنا- ولعلنا أخطأنا الفهم- أن (يهوه) إله بني إسرائيل يحب الذبح والذبائح والدماء. وأنه يفضل اللحوم، على الخضار والفواكه والبقول. علما أن الله الذي نعرفه لا يأكل ولا يشرب، فليس سبحانه وتعالى إنسانا مثلنا. وإن كان قد خلق البشر على صورته ومثاله. فلماذا إذن يريد (يهوه إسرائيل) ذبيحة؟ ولماذا يُذبح هذا الحيوان أو ذاك؟ وما هي المنفعة؟ وما هي الحكمة الإلهية من ذلك؟
لقد أخذ بنو إسرائيل مبدأ الذبيحة عن ديانات الشرق القديم، وضمّنوا هذا الطقس محتوىً جديدا يناسب نظرتهم إلى العالم، ويناسب فكرتهم عن الإله. وفي سفر الأحبار بالتوراة، فصول عدة، وصفحات كثيرة، تتحدث عن أنواع وأصناف الذبائح التي يجوز للإسرائيلي، أو يتوجب عليه أن يقدمها ل(يهوه). وللذبيحة في الدين اليهودي أسباب ومعانٍ ومبررات. فهي تُقدم كوسيلة للاتحاد ب(يهوه)، وتُقدم كهبة له. كما تُقدم كوسيلة للمصالحة معه، وللتكفير عن الخطايا، ونيل المغفرة، وكذلك كتعويض عن الضرر. كما تُقدم الذبائح للشكر، أو درءا للمخاطر، أو وفاء لنذر.
يولي الدين اليهودي أهمية كبرى للمغفرة، والتقرب من الإله، بواسطة الدم. ويظنون أن (يهوه) يستقبل بترحاب كبير صاحب الذبيحة، ويقبل قربانه، إذا كانت ذبيحته مطابقة للشروط والمواصفات. ولعل القتلة الإرهابيون الذين تتأجج فيهم شهوة الذبح والدم، خير ورثة لهذه التعاليم، وهذه المفاهيم. مع فارق كبيرٍ بين هؤلاء الإرهابيين وبين أولئك الوثنيين والموحدين، فأولئك كانوا يُضحّون بأبنائهم وأحبائهم. وهؤلاء يقدمون أعداءهم قرابين.
أما المسيحية التي خرجت من قلب اليهودية، واختلفت عنها، حتى في التشريع الديني (رفضت المسيحية شرعة رجم الزانية، وشرعة العين بالعين والسن بالسن...الخ) فإنها تعاني مشكلة على المستوى النظري تتمثل في رؤيتها وعلاقتها بأسفار التوراة، وباقي أسفار العهد القديم. وبكلام أوضح تتمثل مشكلتها في عدم قدرتها على توضيح حدود هذه العلاقة ونوعيتها.
لقد تمردت المسيحية على مفهوم الذبيحة اليهودي. واتخذت لنفسها منحى آخر، فقد رأتْ أن ذبيحة كبرى حلت محل كل الذبائح، وهي الذبيحة الإلهية التي افتدت العالم وغفرت خطاياه، وتمثلت بالسيد المسيح الذي صُلب وسال دمه على الصليب. فاعتمدت في طقوسها ذبيحة أخرى من نوع آخر، وهي ذبيحة الخبز والنبيذ. ولعلهم استوحوها، أو هكذا فهموا من قول المسيح: "كلوا واشربوا فهذا هو دمي، وهذا هو جسدي". إلا أن الكثيرين من المسيحيين مازالوا حتى الآن يمارسون (سياسة) تقديم الذبائح الحيوانية، على نية درء الخطر، أو الشكر لله، أو وفاء لنذر..... يتبع مع الذبائح البشرية....