كتَّاب إيلاف

ثقافة الانتقام

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


في مقدمة الترجمة العربية لكتاب " العنف والمقدس " للفيلسوف الفرنسي الأصل، الأمريكي الجنسية " رينيه جيرار " -Reneacute; Girard ( 1932 )، كتب جهاد هواش وعبدالهادي عباس : " ان الانسان لم يصنع الأسلحة في بداية حياته بقصد الدفاع عن وجوده إلا وهو يرمي للفتك بغيره، سواء أكان هذا الغير منازعا له في البقاء أو لإرواء نزعة نفسية تتملكه وتتحكم فيه ألا وهي نزعة العنف ".
مما يعني ان المجتمعات الانسانية أسيرة ثقافة الانتقام، تحركها فلسفة الضحية البديلة، حيث تطورت ثقافة الانتقام وتحولت من السلوك الديني الي السلوك الاجتماعي التي يبيحه القانون الذي هو بدوره نتاج التجربة الاجتماعية.
لقد كانت التضحية بالأشخاص أحد الطقوس الدينية البدائية لدي الشعوب القديمة. والطقوس هي العنصر الدائم "المحافظ" في كل الأديان، والطقس الديني عبارة عن مجموعة من الممارسات النمطية التي يجب على الممارس لها ألا يعدل فيها قليلاً أو كثيرًا وألا يحيد عنها قيد أنملة. فمثلا كانت التضحية البشرية في اليونان القديمة تدخل في صلب الثقافة الاجتماعية، وكانت تنظم من أجلها القصائد، منها ما جاء في أسطورة " كليتمنستر " لأوربيدس حول تضحية أيفيجيني بإبنتها لأرضاء أجاممنون، وجاء في بعض أبيات القصيدة :
"....... كي يتدارك نهب المدينة
كي يخدم بيته، ويفتدي أبناءه،
يضحي بأحدهم لينقذ الآخرين
قد يمكن الصفح عنه حينذاك
لكن كلا : ها هي هيلين فاجرة... "
ان التضحية البشرية كقربان للآلهة أنتجت الكثير من الآراء المتعارضة والمتباينة عبر العصور المختلفة، ووصلت الي حد نفي صفة المقدس عن هذا الفعل، والذي يمكن اعتباره إرهاب غير مباشرة للبشر من أجل الاستمرار في أخضاعهم للسلطة التي كانت تقوم علي ركيزتي الدين والقوة، إذ كان الحاكم قديما يأخذ إحدي صفات الإله.
غير أن التجربة الانسانية أفرزت فكرة جديدة، تمثلت في " إبدال الضحية "، أو حسب تعبير جيرار " خداع العنف "، يقول : في الأساطير الأغريقية، الأخوة هم تقريبا وعلي الدوام متعاونون، مثلما أن " المؤمنين أخوة " في كل الديانات التوحيدية أو الإبراهيمية. ومع ذلك فإنهم مدعوون " كبشر " لامحالة لممارسة العنف ضد بعضهم البعض، ولا يمكن ان يتبدد هذا العنف أبدا إلا علي ضحايا آخرين " تكون طرفا ثالثا "، يتم التضحية بهم، لأنه لا يمكن خداع العنف إلا بتقديم شئ إليه ليضعه تحت ضرسه ".
إن أبسط خصائص الجنس البشري كما قال عالم النفس الفرنسي الشهير " جاك لاكان " : هي أن البشر جنسٌ يخاف أعضاؤه بعضهم بعضا أكثر من خوفهم من بيئتهم الطبيعية، بما فيها الحيوانات المفترسة والجوع إلخ. " فالعدو في القطيع الحيواني يأتي من خارجه، أما في القطيع الإنساني فيكمن في داخله.".
لذا فإن الضحية البديلة أو المقبلة حسب "جيرار" لابد وأن تأتي من الخارج، من خارج الجماعة الواحدة والقبيلة الواحدة، من المقدس غير المتميز، وهي غريبة عن الجماعة إلى درجةٍ لايجوز فيها أن تكون أضحية على الفور. وحتي تصبحَ قابلةً لتمثيل الضحية الأصلية، لابد من حصولها على ماينقصها، وهو الحصول على إنتماءٍ ما إلى هذه الجماعة أو القبيلة، بمعني أن تصبح "داخل" المجموعة أولا دون أن تزول عنها تماماً صفتها الخارجية، لأن كونها من الخارج هو الذي يؤهلها كشيء قدسي لأن تقومَ بهذا الدور.
إن نظرية " جيرار " ترتكز على حدث رئيسي وهو : أن الرغبات الإنسانية هي رغبات تخضع لقانون المحاكاة، أي أنها رغبات محاكاتية، أو بمعنى آخر أنها رغبات تتجه نحو موضوعات يرغب فيها الناس الآخرون أيضا. وكلما كانت رغبة الآخرين قوية وشديدة كانت رغبتي أنا أيضا قوية وشديدة. وفي خضم هذا التنازع فإن رغبة الآخر في الشيء أهم بالنسبة لي من الموضوع المرغوب فيه نفسه : وعندئذ يصبح التنافس صراعا شخصيا وتتنامى احتمالات اندلاع عنف مفتوح. إن الصراع الإنساني هو بالأساس نتاج للتنافس.
لدى الحيوانات نجد أن الصراع الناتج عن التنافس، كالتنافس الجنسي مثلا، تجد حلها، على وجه العموم، عن طريق فرض علاقات القوة والسيطرة: فالحيوان الأضعف يخضع للحيوان الأقوى، وينتج عن ذلك استتباب نظام تراتبي مستقر إلى حد ما. أما لدى الإنسان فالأمر لا يسير بالطريقة نفسها: ذلك أن الناس لا يخضعون تلقائيا. بل يقومون بأعمال عنف لا تنتهي داخل النوع. وهكذا يمارسون الانتقام المؤجل ويجعلون منه، عبر التقليد والمحاكاة، قضية الجماعة.
إن العنف الإنساني عنف معدي: فهو ينتشر في الجماعة من فرد إلي فرد، وهذا ما يسميه "أزمة المحاكاة" والتي يمكن أن تؤدي إلى قيام مذابح جماعية. وإذا ما نظرنا إلى هذه المسألة من منظور نظرية التقدم و التطور الحضاري، فإنها لن تبدو سمة حضارية بالمرة، لكن الواقع أبلغ من أية نظرية، ويكفي أن نسترجع المجازر والإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة و بوروندي، مرورا بما يحدث في العراق ودارفور اليوم.... والبقية تأتي.
وهناك من يفترض أن العديد من المجموعات الإنسانية البدائية ربما تكون قد اختفت فقط نتيجة للعنف الممارس بين بني البشر. وربما كانت استمرارية الجنس البشري وبقاءه مهددين لو لم تكن هناك ميكانيزمات وآليات لإيقاف دورة الانتقام أو الأزمة العنفية.
وهذه الآلية التي يتناولها جيرار بالتفصيل في كتابه "العنف والمقدس" هي آلية القتل المؤسسي التي أكتشف الناس من خلالها الدواء المؤقت، لأزمة المحاكاة: وذلك بنقل العداء إلى ضحية واحدة وحيدة، حاملة لكل الرغبات المتنافسة، التي أصبحت موضع كراهية جماعية؟. إن الفدية المضحى بها تضفي عليها صبغة العدو من طرف الجماعة كلها، وبذلك يتم إيقاف الصراعات بين الطوائف. وكل أساطير المجتمعات القديمة تضم مراحل من هذا النوع. وهو يضع آلية التضحية والفداء هذه كأصل ومصدر لكل الطقوس، والتي يعتبر مثالها المتطور والواضح هو طقس كبش الفداء الذي يصفه العهد الجديد في المسيحية، وكذا طقس الفارماكوس في بلاد اليونان القديمة: عندما تحل المصائب بمدينة ما، تتم التضحية بإنسان أو بحيوان محتفظ به لهذا الغرض.
إن هذه العادات الطقوسية، هي نموذج ومثال لكل طقوس التضحية والفداء. ومنذ ذلك الوقت ما فتئ الإنسان يقلد ويحاكي بوعي وتصميم فعل القتل الجماعي الذي كان في البداية تلقائيا وأصبح يتجلى بالتدرج في مؤسسات: إذ يتم اختيار ضحية ما، ويضحى بها في طقس فداء جماعي.
إن العادات الطقوسية هي تكرار رمزي، بدرجة ما، لعملية القتل المؤسسي، وهي ذات أصل وظيفي، إنها تمثلات وتمثيلات لأحداث مؤسسة، وماتزال إلي اليوم بعض الجماعات تؤول هذه الظاهرة على أنها بمثابة تجلٍ للآلهة.
وفعل التضحية بذبيحة هو آلية وميكانيزم للاحتفاظ والاختزان عند جيرار : فكلما مارس مجتمع ما فعل التضحية بكبش فداء تناقص مستوى العنف فيه. لذلك يتعين الاعتقاد في نجاعة التضحية بكبش فداء.
وهي آلية تشمل الإنسانية كلها، نحن جميعا نحمل في ذواتنا هذا النوع من رد الفعل الانعكاسي الذي يقوم على ركل كلب بضربة قدم أو على توجيه ضربة يد إلى ركن الطاولة عندما نكون في حالة غضب. وهذه الضربة تجعلنا نهدأ ونسكن. ونحن، عند قيامنا بهذا النوع من رد الفعل، نعرف أنه لا معنى له، ولكن هذا على أية حال أحسن من أن نعتدي علي الآخرين، لمجرد أن ننفس غضبنا.
إن طقوس التضحية والفداء هي امتداد وتطوير جماعي لرد الفعل التلقائي هذا. والأضحية لا يتم اختيارها هكذا بشكل عشوائي وتلقائي: فالتضحية بالحيوان لا توجد إلا في المجتمعات التي مارست ترويض الحيوان وتمرست عليه. وعلى وجه العموم لا تتم التضحية إلا بالحيوانات التي هي قريبة من الناس، والتي تنتمي أو تعود ملكيتها إليهم، لأنها هي البديل الرمزي عن الأضحية البشرية.
وهذه الأضحية البشرية تعني، في المجتمعات التي مارست هذا النوع من التضحية، الرمز البديل عن الشر الذي هو حاضر في كل فرد من أفراد الجماعة. وهذا هو السبب في أن الأضحية التي تذبح وتقدم قربانا في عملية التضحية يبدأ أولاً بإدماجها في الجماعة التي ستضحي بها وستقتلها." وبذلك يمكن أن نتابع هذا الخيط الرفيع الذي يعود من الفعل البسيط التلقائي ضربة اليد إلى الطقوس الاحتفالية للتضحية، مرورا بفعل الانتقام. وقواعد الانتقام في المجتمعات القديمة يمكن أن تكون مماثلة لقواعد التضحية: ففي الغالب لا يتم اختيار الأضحية بدلالة مدى كونها مدانة أو متهمة، بل غالبا ما يتم اختيار المتهم الضعيف الذي لا حماية ولا سند اجتماعي له.
إن فكرة الضحية لم تختف في الواقع، من أفقنا المؤسسى، ويبدو أن النظام القضائي اليوم هو أكثر عقلانية قياسا إلى المجتمعات القديمة، وإلى الأشكال والطقوس القديمة للانتقام، وطقوس التضحية بكبش فداء: فالنظام القضائي العصري مهووس بالبحث عن المذنب الحقيقي وإدانته، ولا يتوجه نحو البحث عن أي ضحية بديل.
ومع ذلك فإن أحكام القضاء اليوم ماتزال تحمل سمة البحث عن ضحية، وذلك من حيث أن العدالة هي في حاجة ماسة إلى مذنب أو متهم مهما كان الأمر. ان عقوبة الأعدام اليوم هي التعبير الواضح علي نتاج التراكم التاريخي لثقافة الانتقام المتأصلة في سلوك الإنسان.

أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف