متى تتخلصون من اسلوب المشاتمات؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من أجل اخلاقيات رفيعة في الكتابة العراقية ثالثا
شتم أحدهم رجلاً حكيماً فأجابه هذا: (يا ولدي, اذا رفض امرؤ قبول الهدية، فالى من تعود؟) فأجابه الرجل: (الى مهديها.) قال الحكيم: (أذن, أنا أرفض إساءتك).
مقدمة
كنت قد نشرت في الاسبوعين الماضيين موضوعات حول اخلاقيات العراقيين في الكتابة، وقدرات بعض الاخوة الكتّاب ( والمثقفين ) العراقيين في تهافت فن الكتابة وانعدام احترافهم لها ابدا .. وها انا ذا اكمل المقالتين بمقالين آخرين ثالث ورابع خصوصا ونحن نشهد اسفافا مريعا في حجم ما ينشر على الملأ من خلال المواقع الالكترونية وحتى بعض الصحف والكتابات اليومية.. ان ما ينشر اليوم من قبل بعض الكتّاب العراقيين يثير الاشمئزاز والقرف حقا، خصوصا عندما يتحّول المرء من نقد الفكرة والموضوع والرأي والموقف الى اطلاق كل البذاءات الشخصية ويفتح قاموس كل الشتائم السوقية وكأنه بذلك يشفي غليله ويطفئ احتراقاته.. ان هذه " الانماط " من البشر تريد بهذا الاسلوب ان تجعل من ذواتها ابطالا تتناقل الناس اقوالهم، في حين انهم لا يسيئون الى من يتناولونه بالذم والقدح بقدر ما يسيئون بذلك لأنفسهم حقا. انهم ليسوا من جيل الشباب فقط، بل انهم من الذين شاخوا على هذا " النمط " من الاخلاق.
تساؤلات بحاجة الى اجابات
متى يترك اغلب الكتاب والساسة العراقيين التركة الثقيلة؟ متى يؤمنون ايمانا حقيقيا باختلاف الرأي؟ متى يحاولون تأسيس اخلاقيات جديدة في التعامل الثقافي على اقل تقدير ليتركوا لغة اولاد الشوارع لاصحابها؟ متى باستطاعتهم أن يتعلموا ردود الفعل التي ينبغي ان تتسّم بالهدوء من دون اي انفعالات ذاتية؟ متى يبعدون الذات عن الموضوع؟ متى يتخلصون من احادية الرأي وكأن كل واحد منهم هو المالك للحقيقة الناصعة وكل الاخرين على ضلالة وكل ضلالة في النار؟ متى يشعر المثقف العراقي انه حامل رسالة محبة وود واخاء لا حامل صولجان ونجوم او سكين قاطع يستعرض بها العضلات؟ متى ينجح في تمثيل ارادة الجميع في ايصال رأيه او فكرته بتواضع حتى وان اختلف بها عن الاخرين؟ متى تتسّع مداركه ليكّون صاحب افق عريض من التفكير بدل اية ضحالة او هشاشة؟ متى يحترم كل ابناء وطنه ان كان مثقفا حقا ويتخلص من نزق الماضي؟ انني اعرف مثقفا عراقيا كان قبل عشرين سنة انسانا مختصا متواضعا ومؤدبا وله اخلاقه العالية.. وقد صدمت به قبل ايام في واحد من المؤتمرات كونه اصبح قائدا سياسيا ليغدو متكبّرا متعجرفا ليس له الا توزيع النصائح ويستنكف مجالسة ادباء وشعراء ومثقفين !
العراقيون.. في ما بينهم
نحن حينما نقرأ لأي عراقي بعض حقائق وشواهد لا يأتيها الغبار ابدا تجده ينزعج بل ويبدي من سيئاته ما يشاء وسلاحه القذف والشتائم.. انه يرى في ابن وطنه الغريب الحقيقي عنه قد يمقته وقد يتعالى عليه وقد يوشي به وقد يستهلكه وقد يتشاءم منه ووصل الامر حد الخوف منه او الارتعاب حتى من لقياه والتعرف به، وكل الحق كان معه لأن اي عراقي كان معرضا للملاحقة والمساءلة او حد قهره ومحقه من الوجود! وعليه تجده امام الغريب ذليلا منكسرا، كما تجده يلحق هذا وذاك كي يجد بغيته عنده.. نراه يواجهنا في مناصبه ووظائفه وعلاقاته وكتاباته بالجديد والغريب الذي تستحدثه انطباعات،وتفرزها تراكمات من الامراض ونفعل ما تفعله بقية الشعوب.. أي نقرأ من المألوف إلى الغريب ولا نقرأ من الغريب الى المألوف. الالفة بين الناس المتكافئين من العراقيين موجودة وقد تصل حد العشق ولكن يا ويلها ان انقطعت وما اسرعها ان تنقطع، فان انقطعت فسيرى الانسان ما لا يسره ابدا! تجده صاحبك يبرّك ويؤاخيك وما ان اختلف فكريا او سياسيا عنك حتى قلب لك ظهر المجن 180 درجة عليك ليقوم يشتمك ويسّبك ويستخدم كل ادوات التجريح ضدك ولا يتواني ان يستخدم كل وسائل التشهير ضدك، بل ويستخدم كل الطعن ليطعنك طعنا مبرحا !
شتم الآلهة والعبيد معا
قلت في مقال منشور لي منذ سنين: " نعم، انك تقف عند صحون يجتمع فيها عدد من نساك ومتبتلين وبكائين ومتصوفة وفي الطرف الاخر تستمع الى اقذع انواع الشتائم والسباب بحق كل الالهة ! انه العراقي، مهما كانت طبيعته وعجينته فهو لا يعطي ثقته للاخر بسرعة،.... ويستلزم منّا ان لا تعتب على العراقيين فقط كونهم يعتمدون اسلوب التجريح والقاء السباب والشتائم في ما بينهم، اذ ان الثقافة العربية تزدحم بهذا النمط من الكتابات ولكن بدرجة أو اخرى من التفاوت.. وان الادب العربي يزدحم هو الاخر بمثل هذا النوع من الهجاء والكلام المقذع والاساليب البذيئة والاهانات المتعمدة.. فهل من سبيل للخروج عن هكذا اطوار من ردود الفعل التي تعبّر عن سايكلوجيات غاية في التعقيد والجنوح.
انني بقدر ما انتقد الكلام السليط والتعابير الجارحة التي يستخدمها العامة في كل مكان من دون اي اصول ولا اي قيم او اخلاق.. فانني لا يمكنني ان اتخّيل مثقفا عالي المستوى يهوي بسرعة من عليائه ليطلق السباب والشتائم بحق آخرين من الالهة الى العبيد وكأنه شقي من الاشقياء !
لم لا يدركوا اسلوب النقد؟
ان الملاحظات القوية اللاذعة شيئ والكلام السوقي المبتذل شيئ آخر.!! ان توجيه الطعون والتصويبات شيئ وان توجيه اللكمات والصفعات شئ آخر !! وربما كان المتلقي مستعدا لتلقي كل ذلك وربما كان المتلقي غير مستعد ابدا لذلك.. ومن أسوأ الطباع ان تفقد حسن التعبير لتتكلم بمنتهى الفظاظة عن امر عام.. ربما كان موضوع الذات لا يحتمل التأخير او الصبر، كونه يتعّلق بالكرامة الشخصية، ولكن اختلاق الاسباب لامر عام، فلا يمكن ان يعامل الاخرون بسبب معاملة سوقية.. ومهما القي من التهم الجاهزة، فالمتهم برئ دوما حتى تثبت ادانته.. فان كان الشتامون على صواب، فليثبتوا لكل العالم التهمة بشكل واضح وعرض كل الشواهد والقرائن والوثائق.. ان مصيبة العراقيين والمثقفين في مقدمتهم انهم تربوا منذ خمسين سنة على ثقافة اتهام الخصم من قبل ثقافات الاحزاب المؤدلجة وثقافة الدعايات السمجة التي كان يرتل مضامينها الاعلام الرسمي في الاذاعات.. كان ولم يزل العديد من ابرز الكتّاب والمثقفين والساسة العراقيين ان اختلف معك خلافا سياسيا او فكريا، فكأن ابواب جهنم قد فتحت عليك وبسرعة يتم اتهامك بالعمالة والتآمر والخيانة.. وبسرعة يطالب بالقصاص منه حتى الموت ! اي ثقافة هذه التي يحملها مثل هذا النفر الذي يدرك انه يخاصم، ولكن لا يدرك ما الالية الذكية في المواجهة؟؟ اي اخلاقيات هذه التي يدعّيها مّمن يستخدم ارق التعابير وانبل الالفاظ.. وبسرعة ينقلب انقلابا فّظا فيقوم بسحق كل ادواته مستخدما اوسخ التعابير؟
اقلب الصفحات، فاذا التهم واسوأ انواع التوصيفات قد ملئت كل العالم لأناس ليس لهم الا التاريخ النظيف والعمل الجاد.. لا ادري كيف يمكن لمثقف عراقي وصفوه بالموسوعي ولكنهم لم يجدوا تهمة ملائمة تليق به ليصفوا مقالاته تخدم امريكا من دون ان يدركوا ولو لمرة واحدة ان اعماله وخطابه ومواقفه تقول بعكس ذلك ! ان ازمة الاخلاق في الكتابة العراقية تتعاظم يوما بعد آخر بفعل حدة الانقسامات ليس السياسية وحدها، بل الاجتماعية والثقافية والامراض النفسية.
www.sayyaraljamil.com
للمقال صلة