كتَّاب إيلاف

العولمة وفعالية صناعة المعنى

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تجلت سياقات التكوين في ظاهرة العولمة في أعقاب التحولات الكبرى التي شهدها العالم، خلال عقد التسعينات، حيث الارتباط الوثيق في التداول بين النظام العالمي الجديد على صعيد العلاقات الدولية، وحالة الخوض المكثف للمصطلح، والذي راح ينشر بتفاصيله وعناصره على المجمل من العلاقات والرؤى والتصورات، التي تفرض بحضورها على المجتمع البشري. وبالقدر الذي تتصدر الواجهة الاقتصادية على مكون التوجهات والتطلعات، فإن حالة التماهي راحت تفرض بحضورها على المجمل من القطاعات والحقول السياسية منها والثقافية.العولمة بزحفها وطريقة تسللها في المجمل من التفاصيل، باتت اليوم تفصح عن أهمية تحديد الموقف منها باعتبار حالة الالتباس في الرهانات، فما بين الحوار والصدام الحضاري، تتجلى أهمية الموقف التاريخي من التداعيات الكبرى التي يعيشها العالم، والتي راحت تنزع نحو التقسيم بين الرفض والإدانة، أو حالة الاندراج في التفاصيل التي تفرضها فعالياتها انطلاقا من دعوى التفاعل والتلاقح والانفتاح على العالم.
العولمة بوصفها تفاعلا تاريخيا يحمل سياقاته وتحدياته ورهاناته، فإن المؤثرات الصادرة عنها تبقى في أشد حالات الوثوق، فهي ليست بالطارئة أو الوقتية، بقدر ما تقوم على حالة من التفعيل النازع نحو الحضور والتغيير، استنادا إلى هيكل عملاق من النشاط التجاري الهائل والمهيمن، والنازع نحو السيطرة على معدلات حركة التجارة والتمويل العالمي، وتركيز سلطة وسطوة الشركات العابرة للقومية، وحالة الانجاز السريع والملفت، المستند إلى الثورة المعلوماتية والاتصالية، وتداعيات علوم السبرناتيك ( السيطرة والتحكم).

الانتشار والتوسع
الهيمنة والقوة التي تبدى عليها الغرب، أتاحت له أن يندرج في حضورية التفعيل تلك التي تجلت عناصرها في تدبيج هذا المصطلح الذي راح يثير المزيد من الأسئلة المتداخلة، بين العالمية والعولمة، فيما تكشف القدرة على المبادرة، عبر التحقق من وسائل السيطرة العالية على جهاز الإعلام، وحالة التفعيل والتطوير من خلال البحث عن آلية جديدة تنزع نحو نبذ الأداء الإعلامي السابق، والنزوع نحو تجديد روح الميديا الناهضة، والتي حولت العالم إلى صورة منقولة عن طريق البث الحي، حتى برزت للعيان الشبكات التلفزيونية التي راحت تنقل الأحداث الكبرى للعالم عبر توصيفي، (( live - exclusive))، فيما كان التطلع نحو الاستثمار الأقصى لهذه الأداة في سبيل نشر قيم العالم الغربي في صراعه السابق خلال الحرب الباردة، لا سيما وأن الميديا وبمجمل تفاصيلها كانت السباقة للحضور، من خلال تقديم قيم الغرب ورؤاه ورموزه، عن طريق الجهاز السينمائي الهوليودي، أو الشبكات الإخبارية أو مؤسسات الإعلام العملاقة إن كان على صعيد الصحف أم الإعلانات، حتى كان التبشير بقيم الحرية وحقوق الإنسان. والواقع أن البريق الذي رافق صورة الغرب اللامع والزاهي كان مترافقا بل وتلازما، مع المجمل من حالة النمو الهائل للنجاحات التي راحت تحرزها الشركات العابرة للقومية، الممثل الرئيس لصورة الغرب، بإزاء حالة التداعي والتراجع التي راحت تعاني منه الاقتصاديات القومية.


الاختراق والعواقب
لا يمكن التغافل عن الدور الواسع والكبير الذي تحظى به وسائل الاتصال الحديثة في تفعيل مجال العولمة، حتى بات العالم اليوم يعيش لحظة التوحيد في الذوق والتواصل، بل أن حالة التأثير على الصعيد الثقافي راحت تبرز آثاره في نطاق الاستهلاك المباشر على صعيد وسائل الترفيه، انطلاقا من محاولة الإمساك بالرموز الموجهة، تلك التي تستهدف عنصر الشباب، وتوجيه جرعات مكثفة من الوجبات الإعلانية و الدعائية، فيما لم يسلم قطاع الطفولة من حالة التوجيه، باعتبار محاولة السعي للسيطرة على قطاع سوق الترفيه، وتوجيهه بل وتنميطه، وهكذا باتت رموز من نوع (( باربي)) تتصدر واجهة المتاجر، مستهدفة الأطفال الإناث، هذا الرغم من أن هذه اللعبة كان قد تم الترويج لها منذ أواخر النصف الثاني من القرن العشرين، لكن طريقة التداول والعرض والاستهلاك المفرط والتقديم لها، راحت تبرز بأسلوب مغاير وموجه أوسع، قوامه محاولة السيطرة على السوق العالمي لألعاب الأطفال، ولم يفت على المؤسسة التجارية أن تسعى وبكل ما أوتيت من قوة، نحو استعادة رموز سابقة، تم استخدامها خلال أزمات كبرى في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، ولكن لا ضير من توسيع وتهجير المزيد من المعاني، في سبيل بث المزيد من الرسائل الدعائية، لتتصدر واجهات متاجر الأطفال في العالم، زخما هائلا من الدمى والتي أضحت بمثابة الأيقونات المقدسة للأطفال مثل؛ (( السوبر مان، البات مان، والكثير من الألعاب)) والتي راح يتم تقديمها في طريقة تتابعية قوامها الموسمية، لتثير في قطاع الطفولة، شهوة الاستهلاك.، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتم تحميل هذه الألعاب المزيد من القيم والرسائل الثقافية المشفرة، والتي يكون المسعى فيها نحو ترسيخ مضامين التمثلات والروابط التي تندغم و المعطى الثقافي لرؤى وتداولات الخطاب العولمي. فالرابط المني الذي يجمع أفراد من ثقافات مختلفة، راح يتم تسويقه في رموز الأهم فيها يكون لاهثا نحو الانسجام ومحتوى التصنيع السينمائي الضخم، والذي تشرف عليه المؤسسة الهوليودية، إنه البحث عن التناغم والانسجام والتكامل، في صناعة عملاقة يتم توصيفها بـ (( الترفيه- Entertainment ))، تلك التي يتم فيها توزيع و تقاسم المهام بنظام ملفت، حيث تحويل المحيط Periphery إلى محطة إنتاج ومشغل واسع للمواد المستهلكة، فيما تبقى دول المركز Center تحظى بقوة المبادرة وإنتاج مضامين القيم. والملاحظ اليوم راح يرصد مصدر الموديل الثقافي الذي يتم تصدره للتدوال عبر زخم إعلاني مصدره الغرب، فيما يتم تصنيع الرموز والألعاب والإشارات والملحقات في دول العمالة الرخيصة، حتى راح المستهلك يلحظ عبارة ( Made in China) وبإفراط ملفت أو في البعض من الحالات المكسيك أو تايوان.

تسليع الثقافة
التطلع الاستهلاكي الذي يطغى على المجمل من الفعاليات التي تنشدها العولمة، تجعل من موجهاتها، تقوم على أصل المفاضلة المستندة إلى طريقة التسويق من خلال معيار السوق، إذ كل شيء يقوم على منطقه وتجلياته، ومن هذا كان الترصد الدقيق لحالة الثقافة، ذلك الحقل الأساس والرئيس والذي تتمايز فيه مجمل الأنشطة البشرية، باعتبار التفاعلات والمواضعات العقلية.حتى كانت المقارنة المباشرة بين الثقافة التأملية بنخبويتها ومحدودية تداولها، مع الاعتراف العميق بأهميتها، والثقافة الشعبية حيث المسعى نحو تدجين المعنى، وإغراق الثقافة في دائرة من المتواليات الاستهلاكية. إنه التشويش والتناقض الذي يغشى المعنى. فيما يتم توظيف التطور الروحي والفكري ضمن سياق وطريق حياة معينة.انطلاقا من حفز معطيات التحريك والدلالة الكامنة فيه. الأمر هنا لا ينطوي على رفض للثقافة الرفيعة، بدليل أن الغرب ما انفك يقدم خيرة العقول الفكرية والفلسفية، مستندا في ذلك إلى العناية الفائقة والقصوى بالجامعات، والاهتمام بالأسماء الفكرية البارزة، لكن حالة التبادل المباشر تكشف عن ممارسة لا تخف فيها الممارسة الأيديولوجية، باعتبار ما يعتور طريقة توجيه النص والممارسة الثقافية في طريقة تفاعلها مع الواقع.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الثقافة الاستهلاكية، إنما تقوم على حالة من التماهي مع الرغبات التي تستوي القطاع الأغلب من الجماهير، باعتبار التبسيط الذي تشتمل عليه فعالية الترفيه، تلك المرتبطة بفعاليات رياضية أو موسيقية، ومن هذا فإن الفارق والمحصلة الكمية تتبدى واضحة، لتشير إلى الحجم الهائل في المداخيل، فيما تبقى التوصيفات المتعلقة بالدونية والضآلة والتراجع، مجرد أحكام قيمية صادرة بالعادة عن فئة محدودة. العولمة برصيدها المستند إلى حظوة المبادرة والقدرة على الانجاز، لا يغيب عنها أن تتوجه نحو تسليع الثقافة وتوسيع مجال الاستهلاك فيها، باعتبار ما تتمثله من وظيفة اجتماعية، يتم من خلالها تعزيز مجال الفاصل الطبقي استنادا إلى عامل الذوق، ذي المرجعية الأيديولوجية.

تجهيز الوعي
طبيعة التركيز على النشاط الاقتصادي تجعل من العولمة وقد تمثلت فيها حالة الارتباط الوثيق، بما يفرضه المركز المتقدم على حساب الهامش، ومن هنا فإن تركيز التبعية يقود إلى حالة من الخمود الثقافي، باعتبار الخضوع لسلطة العولمة بوصفها قوة خارجية، مما يتيح الفرصة للقوى المحافظة من أخذ زمام المبادرة باعتبار الدفاع عن القيم والمكونات الأصيلة للمجتمع. هذا بحساب قوة الحضور للرأسمالية التجارية الساعية نحو تثبيت حضورها من خلال تقديم منطقها وسياقاتها، على المجمل من العلاقات، حتى لتتبدى الصورة في تقديم نموذج الرفاهية بوصفه الغاية الأسمى، في الوقت الذي يتاح لصورة المستثمر أن تكون هي الأهم والأكثر حضورا، على حساب مجمل النماذج السائدة.
التمركز الذي يخوض فيه الرأسمال يجعل من المكونات المحلية وقد صارت مجرد صورة هشة وتكميلية لحاجات المركز الصناعي المتقدم، ولاتقف الحالة عند مجال التفاعل الاقتصادي، بقدر ما يتم زحف المضامين والقيم المتسربة عن الحقول الأخرى، لا سيما في الحقل الثقافي. بل أن التداخل في الحقول يجعل من العولمة وقد قيض لها من الحضور في الحقول المختلفة وبطريقة، يعسر تحديد حركتها، فالأمر منوط بالقوى المنتجة وليس بالعلاقات، وعليه فإن الالتباس في الوعي سيكون بمثابة السمة الطاغية على المجمل من هذه الفعالية. انطلاقا من الاعتماد على مكونات الثورة المعلوماتية، تلك التي تستند في علاقاتها على القوة الرمزية، والتي لا تنفك عن الحضور في الثقافة.وإذا كان العالم عيش حالة صراع الأقطاب والمصالح والرؤى والاتجاهات الأيديولوجية، فإن الحال مع العولمة يقوم على تقديم القيم باعتبارها وصفة المنتصر، الساعي إلى الدمقرطة والحرية وحقوق الإنسان.

إشارات وإحالات:

1Pierre Bourdieu, Distinction ;A Social Critique of the judgment of Taste ,translated by Richard Nice .Cambridge Harvard University 1984,P5
Antony McGrew and paul Lewis, Global .2 Politics ,Oxford ,Cambridge, Blackwell Publishers 1992,p21.
3. جيمس روزناو، ديناميكية العولمة، قراءات استراتيجية، مركز الدراسات بالأهرام، القاهرة 1997.ص 32.
4. أسامة الخولي ((محرر))، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 1998، ص 282.
5. سيار الجميل، العولمة الجديدة و المجال الحيوي للشرق الأوسط؛ مفاهيم عصر قادم، الدار الأهلية ، بيروت 1997.، ص 54.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف