دبلوماسية الألفية الثالثة والتجربة اليابانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي باليابان
بدأت الحضارة المعاصرة قبل حوالي خمسمائة عام، و ترافقت مع تطورات اقتصادية وصناعية واجتماعية وسياسية كبيرة. واعتمدت هذه الحضارة الجديدة على الواقعية وروح الحداثة العلمية، فالفكرة المادية الجديدة تحتاج للدراسة والإثبات العلمي، مختلفة بذلك عن علوم الأخلاقيات والدين. وأصبح أبطال هذه الحضارة أصحاب الأختراعات وعقولهم المبدعة، ولم يعد لرجال الروحانيات مواقع هامة. وبداء يختفي التناغم بين الإنسان العصري والطبيعة، وأصبح هذا الأنسان متسلط على الطبيعة والبيئة وربما أخيه الإنسان الأضعف. كما تخلخل الرباط المجتمعي وبداء الإنسان المعاصر يفقد تدريجيا إنسانيته الطبيعية. وقد أدى هذا الوضع الجديد لبروز نظرية الواقعية السياسية.
وقد رافقت الحضارة المعاصرة التكنولوجية الحديثة والثراء، ومع ذلك أستمر المجتمع الإنساني يعاني من الفقر والعبودية والتفرقة العنصرية والاستعمار والعنف والإرهاب. وأصبحت الحروب الطاحنة المحلية والعالمية، والحرب الباردة، وعنف الإرهاب خطرا عالميا قضى على الأمن والأمان. وخلف ستار هذا العنف المدمر، استمرت الحرب بين واقعية السياسة البرغماتية، والنظريات الأخلاقية للسياسة المثالية. فبينما حاول البرغماتيون أن يطبقوا السياسة من خلال الحقائق الحياتية الواقعية، توجه مؤمني السياسة المثالية وبأفكارهم الحالمة بعملهم لقلب الواقع والثورة ضده، لتنفيذ أفكارهم بحذافيرها بعيدا عن تحديات الواقع السياسي والاجتماعي. وقد مر تاريخ الدبلوماسية العالمية بنفس هذه التحديات.
وقد انتشرت الدبلوماسية الواقعية، الريل بوليتيك، المتشبثة بالواقعية مع الأيمان بالقومية والوطنية الشوفينية، والمعتمدة على الأهداف، بدون الاعتبار للمثاليات والأخلاقيات. كما اعتمدت على العنف والابتزاز السياسي والحرمان الاقتصادي للوصول إلى أهدافها بأية وسيلة.
لقد أستعمل الكاتب والسياسي الألماني لودويغ أوغست فان روكووا في القرن التاسع عشر، ولأول مرة تعبير السياسة الواقعية ريل بوليتيك. وكما استفاد منها الأمير كليمنز مترينيش، وزير الخارجية النمساوي في عام 1809، لإيجاد التوازن لقوى الدول الأوروبية والعمل على نشر السلام في هذه الدول. وقد كتب بعد المعاناة من رجالات الثورة الفرنسية فقال، "في اعتقادي بأن كلمة الحرية ليست نقطة مغادرة، بل هي الهدف النهائي، والنظام مع الانضباط هو الذي يوجد الحرية الحقيقية...وبدون انضباط، فاللجوء للحرية سيؤدي إلى الاستبداد." وبعدما هزمت أوربا نابليون بونابرت ، تقدم الأمير بمفهوم "كونسرت أوربا" ويعني ذلك خلق تناغم وتوازن بين العمل الأوربي كما تتناغم الحان أداء الأدوات الموسيقية المختلفة لتقديم سيمفونية ممتعة، لإيجاد صيغة أوربية موحدة لخلق توازن قوى للوقاية من الحرب وغرس جذور السلام. وقد استغل هذه الفكرة بسمارك، قائد بروسيا، لتوحيد ألمانيا بطريقته الخاصة. كما استفاذ الرئيس رتشارد نكسون من نظرية هنري كيسنجر في الواقعية الدبلوماسية ليطور العلاقات بين بلده الرأسمالية مع الصين الشيوعية. فبينما يستعمل رجال الدبلوماسية الواقعية دبلوماسية الريل بوليتيك الواقعية لتحقيق أهدافهم السياسية والدبلوماسية، نجد رجال الدبلوماسية الإيديولوجية والمثالية، يلتزمون بقواعد صارمة لتحقيق أهداف أيديولوجية مقررة مسبقا.
وقد علق الزعيم الروحي للهند مها تما غاندي على ما عاشه من دبلوماسية الواقعية االريل بوليتيك بقوله، "العين بالعين أدى لأن يصبح العالم أعمى." كما علق أيلي ويزل الحائزة على جائزة النوبل للسلام، والناجي من المحرقة النازية ، حينما سأل من هو أكثر شخصية حزينة في الكتاب المقدس، قال بأنه الخالق جل شأنه بسب أسى الدمار الذي حصل في هذا العالم نتيجة الحروب التي جرت بين البشر باستغلال أسم الدين.
لقد علقت وزيرة الخارجية بعهد الرئيس الأمريكي كلينتون، السيدة مادلين اوليبرايت، في كتابها الجديد، جبار الجبابرة، بوصف القرن العشرين بأنه، " أكثر القرون دموية في تاريخ الإنسانية." ومن الواضح بأن الدبلوماسية الواقعية لم تساعد في خلق رفاهية وسلام عالمي. فقد أستعمل بسمارك البروسي هذه الدبلوماسية بطريقته الخاصة لتوحيد ألمانيا ولكنه في الحقيقة زرع بذور دمارها في الحربين العالميتين. وقد علق صديقه وخليفته، فون رون، على الدبلوماسية الواقعية لبسمارك بقوله، بأن لا أحد يأكل من شجرة اللاأخلاقيات بدون حصانة. وقد عانى العالم من نتائج دبلوماسية الريل بوليتيك الواقعية، بحروب متكررة وعولمة الفقر والعنف والإرهاب وهدر الترليونات من الدولارات. وقد أكدت السيدة البرايت بالحاجة لمبادئ أساسية في الدبلوماسية العالمية وهي دبلوماسية الاقناع لا دبلوماسية التهديد، لتستطيع الوصول للنتائج التي تهدف اليها. كما يجب أن نفهم ونستوعب كيف يتصرف الآعداء ولماذا. وأكدت على ضرورة دمج الدبلوماسية الواقعية مع المثالية وتتوسطها الأخلاقيات.
لقد كانت من نتائج الدبلوماسية الواقعية اليابانية مأساة هزيمة الحرب العالمية الثانية، والدمار المرعب الذي سببته القنبلتين النوويتين على مدينتي هوريشيما ونكزاكي. وقد استفاد الشعب الياباني من هذه التجربة، وتوجهه للبناء والتنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي والاجتماعي. كما أصر الشعب الياباني على دبلوماسية السلام والتناغم في العمل مع شعوب العالم المختلفة ومع الطبيعة والبيئة. ومنذ بداء السبعينات فصلت السياسة الخارجية اليابانية بين الاقتصاد والسياسة في علاقاتها الدولية. فركزت على التعاون الاقتصادي مع معظم دول العالم بدون النظر لعقائدها أو سياساتها الخاصة. وقد نجحت لبناء جسور ثقة مع الكثير من الدول الغربية والأسيوية والإفريقية. وتوجهت الدبلوماسية اليابانية مؤخرا نحو التعامل مع تحديات العولمة الجديدة، كما أنها تتهيئ بمواردها البشرية والاقتصادية الغنية لتلعب دورا قياديا في المجتمع الدولي.
ومع بداية الالفية الثالثة خسرت الشيوعية مواقعها الرائدة، كما تعاني الدول الاشتراكية من بطئ في النمو الاقتصادي مع زيادة القوى البشرية العاملة الغيرة منافسه عالميا، بينما برزت الرأسمالية لتقود العالم نحو اقتصاد السوق والعولمة. ويناقش علماء الاقتصاد تطوير الرأسمالية لتكون مسئولة اجتماعيا، بإيجاد الضوابط لتنظيم قوانين اقتصاد سوق العولمة، والوقاية من الفقر والعوز للفئات التي تتأخر في المنافسة. وقد أكد السيد شنزو أبييه، رئيس الوزراء الياباني، في كتابة، اليابان البلد الجميلة، أهمية اقتصاد السوق، والرأسمالية الملتزمة اجتماعيا. كما أدخل مفهوم الفرصة الثانية لمن يتأخرون في المنافسة في اقتصاد السوق بتهيئتهم بالتعليم والتدريب من جديد، ليحاولوا مرة أخرى لينضموا لمنافسة اقتصاد السوق.
وقد تقدمت الحكومة اليابانية الجديدة بمفهوم السياسة الخارجية بالقيم العالمية. وقد عبر وزير الخارجية الياباني السيد تارو أسو في شهر نوفمبر من عام 2006 عن ذلك، بأنه قد قررت اليابان أن تلتزم بالدبلوماسية الموجهة بالقيم الإنسانية. وتؤكد هذه الدبلوماسية بأن اليابان ستعمل في شراكه مع الدول للوصول معا للرفاهية والحرية. ويشمل أساسيات هذه الشراكة تطوير الديمقراطية، والحرية، ومبادئ حقوق الإنسان، وتطوير وتطبيق القانون، وتطوير وتنظيم اقتصاد السوق. وتدل جميع هذه الظواهر بإن يابان المستقبل ستكون اليابان المسئولة أخلاقيا في عالمنا الجديد. ومن الواضح بأن الشعب الياباني يريد أن ينقل المزيج من خبرته وحكمته بعد الحرب، مع ثقافته وقيمه الاجتماعية، نحو السلام العالمي، ومع التناغم بين الإنسان والطبيعة، لنشر السعادة والرفاهية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. وستلعب هذه الحكمة اليابانية دورا هاما للعمل على خلق عالم بدون فقر أو إرهاب، كما ستنفتح أسواق جديدة كبيرة للمنتجات اليابانية المتطورة والمتقنة تكنولوجيا. وبذلك تهيئ اليابان شعبها ليلعب دورا قياديا في عالم العولمة الجديد.
والسؤال عزيزي القارئ هل ستعمل دول العالم واليابان لولادة دبلوماسية الألفية الثالثة؟ الدبلوماسية التي تؤمن وتعمل لنظام عالمي أساسه مجتمع دولي متناغم ومتفتح، يؤكد العدالة والمساواة بين أفراد جميع الدول، والديمقراطية المنخلقة من ثقافة الشعوب وقيمها الخاصة، والتجارة الحرة، وبقوانين دولية مطبقة على الجميع بمساواة، مع توفر قوة عالمية رادعة، ومحكومة بأمم متحدة قوية؟
سفير مملكة البحرين باليابان