ثقافة الحَجب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحجب في لسان العرب, هو المنعُ ومنه اشتُق الحجاب أي الساتر الذي يمنع ما وراءه. أما في إصطلاح الدين الإسلامي وشرعه، فهو يعني منع الشخص عن ميراثه، إما كله وإما بعضه بوجود شخص آخر.
وحجب الشيء يعني ستره. ويقال حجب بينهما حجباً أي حال. وحجب فلاناً أي منعه من الدخول والميراث(المعجم الوسيط: مادة حَجَبَ).
و"المحجوبون" في سياق النص القرآني، هم "الممنوعون" عن رؤية الله تعالى في الآخرة: " إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ"(المطففين15:83).
واسم الفاعل من هذه المادة(حَجَبَ)، هو الحاجب، أي الذي يمنع الناس من الدخول إلى الرؤساء بدون إذنٍ، أو من يمنع الآخرين من الإرث. أما اسم المفعول منها، فهو المحجوب، أي الممنوع من الدخول أو الممنوع من الإرث.
وعليه فإن المقصود من "ثقافة الحجب" ههنا، هو "ثقافة المنع" بكل حولياتها ومشتقاتها الممنوعات، المحجَبات: أي ثقافة "ممنوع الدخول"، "ممنوع الخروج"، "ممنوع العبور"، "ممنوع الصرف"، "ممنوع التعريف"، "ممنوع التعبير"، "ممنوع الكلام"، "ممنوع الكتابة والقراءة"، "ممنوع النشر"، "ممنوع السؤال"، "ممنوع البحث عن الله وكلامه"، "ممنوع فحص الدين وإعادة قراءته"، "ممنوع مغادرة الماضي"، "ممنوع الإقامة في المستقبل والقادم من دينه ودنياه"...الخ.
في ظل ثقافة الحرية(حرية "الأنا والهوَ"، أو حرية "الذات والآخر")، التي تعيشها الأمم "المفتوحة"، في الغرب المفتوح، بمجتمعاته المفتوحة، ذات السنن والقوانين المفتوحة، والأخذ والرد المفتوحين، ليس ل"الحاجب والمحجوب" ولسليلي "ثقافة الحجب" وتوابعها، بما لها من إرثٍ ثقيلٍ، في شرقنا "الديني" بامتيازٍ ثقيل، أيّ محل من الإعراب. ف"الحجب" باعتباره "منعاً"، أو"سلباً"، أو "خطفاً ثقيلاً" للحرية وأخواتها وبالتالي "سطواً مبيناً" على أحوالها، هو خارج الإعراب، في ثقافة الغرب التي فصلت "عقل الكنيسة" عن "عقل الدولة"، و"عقل السماء" عن "عقل الأرض"، و"عقل الله" عن "عقل الإنسان".
فالغرب قد فصَلَ منذ أكثر من ثلاثة قرونٍ ونصف، حدود الأرض عن حدود السماء، وحدود ثقافة الإنسان عن حدود ثقافة الله، وما لأهل الأرض وماعليهم عن ما لأهل السماء وما عليهم.
فهو، منذ حوالي 359 سنةٍ، قال كلمته الفصل: "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". أي قرر علمَنَة ممتلكات الكنيسة أو "ممتلكات الرّب". وقد تم استخدام مصطلح العَلمانية (ٍSekularismus/Secularism) لأول مرةٍ، مع بداية توقيع الصلح الشهير/صلح وستفاليا(في ألمانيا الحالية) عام 1648م، الذي طوت أوروبا بإعلانه، صفحة "الدولة الغيبية"، وحروبها الدينية الطاحنة، والتي كانت آخرها وأشهرها "حرب الثلاثين عاماً
(1618ـ1648) بين البروتستانت والرومان الكاثوليك في الولايات الألمانية، لتذهب الصراعات الدينية مع توقيع تلك الإتفاقية من دون رجعة، ولتبدأ معها مرحلة التأسيس ل"العقل الوضعي"، و"الدولة الوضعية"، أي الدولة القومية الحديثة أو الدولة العلمانية التي تحكمها السلطة المدنية بدلاً من السلطة الدينية التي حكمها الإمبراطور، قروناً طويلة، كممثلٍ للرب على الأرض، في "دولة الكنيسة" أو "دولة الرب"، بإوروبا الدينية السابقة.
أما في الشرق المحكوم بالحُجُب، فالأمر مختلفٌ تماماً، حيث الحَجب على امتداد ثقافته، قائمٌ على قدمٍ وساق، فهناك الدين الحاجب والدين المحجوب، والسماء الحاجبة والسماء المحجوبة، والعقل الحاجب والعقل المحجوب، والكتاب الحاجب والكتاب المحجوب، والدولة الحاجبة والدولة المحجوبة، والقوم الحاجب والقوم المحجوب، والحق الحاجب والحق المحجوب...الخ.
لا شك أن للضرورة أحكامها، كما أن للقاعدة استثناءاتها، ولكن المأساوي في حالة شرقنا الغارق في شئون ممالك السماء، وأخبار جند السماء وأحزابه، وانتصارات السماء، وجنان السماء، والنوم في أحضان جواري السماء، هو أن الأحكام في "ضرورات الشرق" الحاضرة دائماً وأبداً، تعني(أو هكذا يجب أن تعني) أن نعيش ونموت بالضرورة، و نقود وننقاد بالضرورة، ونأمر ونؤتمَر بالضرورة، ونعبد ونُستعبَد بالضرورة، وندين ونتدين بالضرورة، ونحكم ونُحكم بالضرورة، هذا فضلاً عن أن "الشرق الإستثناء" هو أكبر وأكثر بكثير من "الشرق القاعدة".
والحال، فإن الشرق لا يسأل ولا يُسأل، لأن السؤال محجوب.
وهو لا يشك ولا يُشَك به، لأن العقل محجوب.
وتاريخه لا يقرأ ولا يُقرَأ، لأن القراءة محجوبة.
وكتبه لا تحرِر ولا تُحرَر، لأن الحرية محجوبة.
وثقافته لا تحاوِر ولا تُحاوَر، لأن الحوار محجوب.
وقديمه مقدسٌ يعلو ولا يُعلى عليه، لأن القادم محجوب.
وتشريعاته السماوية تحكِم ولاتُحكَم، لأن القانون الوضعي محجوب.
و"رجاله قوامون على نسائه" ولا يُقام عليهم، لأن النساء (ناقصات العقل والدين) محجوبات.
ثقافتنا، إذن، نحن سليلو الشرق، حُجاباً ومحجوبين، تُسمى بكل شيء، ولكنها تتجنب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
ثقافتنا، يُفكَر بها ولكنها لا تفكِر.
هي كُتِبت و وتُستكتَب، ولكنها لا تكتب.
هي ثقافةٌ نحملها، ولكنها لا تحملنا.
هي ثقافةٌ تبنّتنا دون أن تبنينا.
هي ثقافةٌ قرّأتنا ودخلتنا كما تشاء، كي لا نقرأها ولا ندخلها كما نشاء.
هي تُعاش وتعتاش ولكنها لا تعيش.
هي الشرقية "المؤمنة"، لا تعيش العقل، وإنما تعتاش من الألف إلى الياء، على نتائجه(نتائج "العقل الكافر" في ثقافات الآخرين، حصراً) وتتوسل لماديات "شيطانه"، فتركب سياراته، وتطير في طائراته، وتنعم بتقنياته، وتسعى لجناته...
هي ثقافةٌ تعتاش على العقل ولا تعيش به وفيه.
هي تسعى بكل جهدها للهروب من العقل والخروج من وضعياته، كي تصنع "مافوق العقل"، من غيبياتٍ، وروحانياتٍ، وماوراء وضعياتٍ، وقصصٍ للحاجوج والماجوج.
هي ثقافةٌ علّمتنا في الآن عينه؛ أن نريدها ولا نريدها؛ أن نكونها ولا نكونها؛ أن نصلي لها ولا نصلي لها، أن نعبدها ولا نعبدها...الخ.
وعليه نحن الشرقيون "الثقافيون"، تعلّمنا كيف أن نكون ذواتنا وأن لا نكونها في الآن نفسه. نحن أتقننا كيف أن نكون الشرق وضده؛ وأن نكون ذواتنا وضدها.
فنحن نتضامن مع دم شيخ "الحقيقة الغائبة" فرج فودة مثلاً، في ذات الوقت الذي نغيب ونغيِّب الآخرين في ذات الحقيقة، وذات الغياب.
ثقافتنا، هي ثقافة الغيب والغياب والتغييب.
ثقافتنا، هي ثقافة الحجب والحجاب والتحجيب.
حقيقتنا غائبة، ثقافتنا غائبة، تواريخنا غائبة، جغرافياتنا غائبة، شرقنا غائب، ونحن به وفيه لغائبون أو مغيّبون.
إنا للشرق، وإنا فيه لحاجبون أو محجوبون.