كتَّاب إيلاف

المسيحية وعلم السياسة (5): بين مملكتين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لقد قدم علم السياسة تفسيرات متعددة لفهم السياسة منذ العصور القديمة وحتى الآن،أو ما يمكن أن نسميه نماذج التفسير و الفهم للسياسة.هذه النماذج تقسم منهجيا إلى ثلاثة: تفسير القدماء ( خاصة الفلاسفة اليونان)، ثم التفسير والفهم (المسيحي) و أخيرا التفسير الحديث. ربما يكون هذا المنهج في التقسيم عرضة للنقد وهذا حق الجميع دون أدنى شك، ولكن عدم التطرق للتفسير من قبل ( الكنيسة الشرقية) أو رأي الأديان الأخرى في منطقتنا أو بمعنى أخر استبعادها عن منهج فهم السياسة، هذا يعود إلى رؤية أولية نستطيع القول من خلالها أن هؤلاء لم يدخلوا سوق إنتاج المفاهيم السياسية بصفتهم منتجين،و إنما لهذه الدقيقة هم من المستهلكين لهذه المفاهيم،الشروح و التفسيرات. أو بمعنى آخر أيضا، الإسلام كان هو الحل منذ ألف سنة، ومازال في نظر المسلمين هو الحل بعد انقضاء الألف سنة رغم أن كل شيء قد تغير حتى الله ( بمعنى النظرة إليه وفهمه) وفي قوانينه الاقتصادية والاجتماعية والإنسان في اختراعه لأديان ومعتقدات جديدة (سياسية وحتى عقائدية).
كنا قد تحدثنا في نهاية الجزء الرابع من " المسيحية وعلم السياسة" عد طرح قضايا تتعلق بالحرية الدينية و أن الكنيسة أصبحت جزءا من الثقافة الحديثة، ثم أن الكنيسة لم تعد ذاك الموروث التاريخي الذي يشكل عبئا على المؤمنين أو غير المؤمنين بالمسيحية. تبقى الإجابة على السؤال الذي طرح سابقا : إذا انطلقنا من الخطاب "السياسي" للكنيسة، إلى أين يقودنا المذهب السياسي لهذه الكنيسة وخاصة " الرومانية" منها ؟
ثلاث أطروحات يمكن مناقشتها ضمن هذا الإطار:
أولا ـ النظام السياسي و النظام الروحي يجب ألا نخلط بينهما و ألا نفصلهما:
من جانب، و بالتطابق مع الحكمة الإنجيلية، مجال السلطة السياسية و مجال السلطة الروحية هما مجالان مختلفان. يوجد زوايا متعددة يمكن النظر منها للقدر الإنساني، كما كتب سان توماس، مع كل واحد الوسائل و الغايات الخاصة به. الدولة لها قوانينها، الكنيسة لديها قوانينها أيضا. لكل مهنته. " في الميدان الخاص بهما، المجتمع السياسي والكنيسة هما مستقلان الواحد عن الآخر" ( Gaudium et spes, 76.3 ). ومن جانب آخر، الرسالة الدينية للكنيسة لا تتحدد بقطاع واحد خارج الوجود الإنساني، إنها تضم كل الإنسان. المسيحي يبقى دائما مسيحي، يجب ألا يعيش بشكل مزدوج أو بنسختين، بمعنى أن يكون مؤمنا يوم الأحد، وإنسان من غير عقيدة بقية أيام الأسبوع. ضمن هذا المعنى،الكنيسة عليها عمل الكثير حتى تكّون أو " تنفخ" روحا مسيحية في كل مجالات العمل الإنساني، أيضا ضمن هذا المعنى لا يمكنها أن تبقى غير مختلفة عن النظام السياسي و الاجتماعي حتى ولو أن هذا الأخير يتفق أو لا مع متطلبات الشخص أو الأشخاص." إنه غير مقبول،ويخالف الإنجيل، الإدعاء بتحديد الدين ضمن الفضاء الخاص بالشخص. إنه سيكون من التناقض أن ننسى بعده السياسي و الاجتماعي". ( جان بول II ، مدريد، 13 حزيران 1993).
كيف يمكن الذهاب مع هاتين الرؤيتين؟ نموذج المصالحة أو التصالح يمكن، كما يظهر، أن يكتب كالتالي: لا يوجد مشروع سياسي مسيحي أو برنامج سياسي مسيحي، ولكن يوجد مبادئ سياسية مسيحية. الكنيسة ليس لديها حلول مجسدة واقعة أو تقنيات سياسية لتقدمها، " إنها لا تقترح أنظمة أو برامج سياسية واقتصادية، أنها لا تظهر كمرجع عند هؤلاء أو الآخرين، شريطة أن تكون الكرامة الإنسانية واجبة الاحترام و على أن يكون لهذه الكرامة و الشرف الإنساني الفضاء و المتسع الضروري لتكملة مهمتهما داخل هذا العالم".( جان بول II،
Sollicitudo rie socioalis،1987 ، 41). موضوع المذهب أو النظرية الاجتماعية للكنيسة لا يكون من أجل تعريف نموذج سياسي/اجتماعي،أو" طريق ثالث" بين الرأسمالية الليبرالية و الجماعية الماركسية collectivisme marxiste ، ولكن هو تثبيت لمبادئ و توجهات، مؤسسة على الوحي Reacute;veacute;lation وعلى القانون الطبيعي.
ضمن هذا المعنى أو الاتجاه، لا يوجد " سياسة مسيحية"، ولكن يوجد " متطلبات مسيحية في السياسة". مع ممارسة و تطبيق الحل، الأفضل سيكون " تعاون صحيّ وسليم " بين الكنيسة والدولة، آخذين بالاعتبار بعض الظروف. ( Gaudium et spes, 76.3 ).

ثانيا ـ السياسة هي " فن نبيل":
السياسة هي فن لأنها في نفس الوقت مخصصة لغايات جوهرية و تابعة لظروف زمنية و مكانية. ولكن ما هي هذه الغايات؟ وفية لتقليدها و بشكل خاص لسان توماس، الكنيسة تذكر بشكل دائم بثلاثة مبادئ أساسية:
1 ـ السلطة السياسية هي خدمة، موجه إلى للخير المشترك وبشكل قاطع إلى خير الأشخاص.السياسة ليس شيء آلي ميكانيكي، لا تختزل إلى تقنيات، إنها فعالية أخلاقية تأخذ على عاتقها ظروف الحياة المشتركة و العمل، مستندة إلى الحرية و جوهر ومعنى المسؤولية، وضمن معنى الكمال الإنساني. المرجع هو خير موضوعي، إنه الإنسان الكامل، وليس جزء من الإنسان. حيث أن الإنسان البدائي حصل عليه.
2 ـ النظام السياسي يجب أن يحترم بل يرتقي ويرتفع بالبعد " التجمعي" للحياة الإنسانية. مجتمع منظم جيدا ليس تراكم agreacute;gat من الأفراد المعزولين تحت سلطة الدولة. بل يضم مستوى وسطي " وساطة"، إنه تجمعات مشاركة كل وفق مقياس معين. هذه " الأجسام الوساطة " لها أشكال مختلفة: العائلات "وهي الخلايا الأولى و الحيوية للمجتمع"، البلديات، الجمعيات و المنظمات، النقابات..الخ على أن تكون جميعها من تجمعات مختلفة من الأشخاص، هذه التجمعات تهدف لتحقيق فضيلة الاتصال و الارتباط الاجتماعي القوي وفي نفس الوقت تسمح لكل فرد بأخذ جزء ناشط وفعال من الحياة المشتركة. داخل الدولة، " الأجسام الواسطة" و الأشخاص، توزيع المهارات و الكفاءات يجب أن يخضع لمبدأ التناوب الذي وضعه Pie XI في عام 1931،بشكل دائم يتم تكراره : سلطة القرار يجب أن تمارس على أكبر قدر ممكن من قبل الناس. خير الإنسان يتطلب أن يكون هذا الإنسان لديه مسؤولياته، و أن يكون فاعلا مسؤولا، وليس موضوع أو شيئا سلبيا.
3 ـ الثابت في كرامة الإنسان لديه بعد سياسي/اجتماعي. تنظيم المجتمع يجب بطريقة لا تقلب العلاقات و الوسائل في النهاية: حيث أن الدول وجدت من أجل الإنسان و ليس الإنسان موجود من أجل الدولة، الملكية وجدت أيضا من أجل الإنسان وليس العكس،العمل أو الاستهلاك هما في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمتهما، العلوم التقنية و التكنولوجيا هي منظمة و موجهة لخير الإنسان وليس العكس. الكنيسة تنبذ كل التفسيرات التي تُخضع الوجود الإنساني لمتطلبات جزئية أو إخضاعية كما في اتجاه eacute;conomisme أو technicisme. الاتجاه أو المذهب الاجتماعي للكنيسة ولد مع Rerum Navarum ( 1891) حيث Leacute;on XIII تحدث عن الظرف القائم للتكتلات العمالية. اليوم، القائمون على العقيدة يلتزمون أو يرتبطون قبل كل شيء باللامساواة التي توجد في هذا العالم. " القضية الاجتماعية هي اليوم عالمية" ( Paul VI ،Populorum Progressio ،1967، المدخل). الكنيسة تدعو إلى تطور وتنمية جوهرية و التي لا تفصل الاقتصاد عن الإنسانية و أن تحقق متطلبات و حقوق جميع الأشخاص. أن يكون لديك و أن تملك هذا شيء مهم ولكن على أن يكون ذلك في خدمة الكائن الإنساني.
بناءا على هذه المبادئ، الكنيسة تطلق العديد من التقييمات و الأحكام فيما يتعلق بالأنظمة لكنها لم تقف أبدا لصالح هذا أو ذاك الشكل من الحكم. في مواجهة الديمقراطية الليبرالية، الكنيسة تبين في نفس الوقت انتقادات و تقييمات لصالح هذه الديمقراطية. يجب التمييز هنا: القائم على العقيدة" يقدر" النظام الديمقراطي كضامن لمشاركة المواطنين في اختياراتهم السياسية، حيث يظهر مثل الليبراليين دعاة حقوق الإنسان، لكن أيضا يطعن في ديمقراطية مطلقة و كل ليبرالية راديكالية : إرادة الشعب لا تعود لها الشرعية الوحيدة في القرار، أيضا إرادة الفرد ليست الوحيدة التي تبرر مسيرة الحياة. المعيار الأساسي هو احترام الخير المنشد أو المقصود. الإرادة الإنسانية ليست صاحبة سيادة، العقل الإنساني ليس هو مقياس و قاعدة الأشياء. هنا يكون دائما "حجر عثرة" pierre drsquo;achoppement بين الفكر الكاثوليكي و الفكر الحديث ( على الأقل في صيغته النقية الخالصة ).
الكنيسة تطرح العديد من المبادئ و التوجهات. تدعو أولئك الذين يمارسون مهنة السياسة و الذين اختاروها إلى هذه المبادئ. و المهم أولا، هي المعطيات الأخلاقية: أن لا يكون الشعب كتلة من البشر، أن يكون رجال السياسة أصحاب ثقة ويسعون نحو الكمال، أن يكون قلقهم الأول هو الخير المشترك. و المهم ثانيا، الأهلية و الجدارة أو العلم و المعرفة بالحكم وظروفه و حالاته الخاصة أي بمعنى آخر " الانتباه و الحذر". المسيحيون مدعوون لإعطاء القدوة و المثال. بما أنهم مواطنون، عليهم التصرف ليس باسم الكنيسة أو بإقحامها ولكن باسمهم الخاص ( في الفعل المجسد و الواقع، التعددية السياسية هي شرعية). بشكل آخر للقول، الكنيسة تنسب إليها التمييز أو التفريق الذي قام به Jacques Maritain بين " التصرف كمسيحي" و " التصرف بالمسيحية". استلهام المسيحية يجب أن يكون حاضرا بشكل دائم ولكن لا يوجد برنامج سياسي مسيحي.


ثالثا ـ السياسة لديها حدودها لكن التاريخ مفتوح للفضيلة والعفو.
الذي نستطيع أن نتأمله من السياسة هو بالطبيعة موجود لكنه لم يتحقق. نظام السياسة لن يكون لديه نهائيا قيما مطلقة، الرجاء أو الأمل المسيحي هو في جانب آخر أو أبعد من السياسة، بل أبعد من الزمن.ضمن نظامها الخاص، السياسة نذرت نفسها لعدم الكمال. إذا وجدت " بنىً للخطيئة " ، لا يوجد أنظمة سماوية.( جان بولII). في نهاية المطاف، كل شيء يعتمد على الإنسان و الإنسان منقسم في داخله لأن طبيعته مجروحة بالخطيئة. الشر داخل الإنسان، " الصراع ضد قوى الظلام والجهل تمر خلال كل التاريخ عبر الإنسان" وهذا سيستمر إلى نهاية الأزمان" أما المدينة الكاملة ليست من هذا العالم.
من جانب آخر وبشكل غير مرئي، الفضيلة موضوعة في التنفيذ داخل التاريخ و " المملكة" Royaume بالحرف الكبير، هي مسبقا موجودة فوق هذه الأرض. المدينتان مختلطتان بشكل خفي أو غامض في هذا العالم. لهذا السبب، إذا كان من الواجب التمييز بعناية التقدم الإنساني نحو أو بتدرج باتجاه " حكم المسيح"، هذا التقدم هو مع ذلك مرتبط في جزء منه مع " المملكة " ضمن مقياس حيث " يأنس" humanise الحياة المشتركة للبشر. ( Gaudium et spes, 39.2). هذه " الخميرة " الإنجيلية تقرب الإنسان من الله (ونعتقد أن جميع الأديان تحتاج لهذه الخميرة)، إنها تقرب أيضا البشر من بعضهم أو فيما بينهم.
كذلك الكنيسة الكاثوليكية تجهد لتمسك بطرفي السلسلة، و أن تقدم ما عليها في المدينتين. إنها تعلم في نفس الوقت عدم كفاية العالم وعظمة الخلق، أسبقية الروحي و استقلالية السياسة، السير الغامض للتاريخ المقدس و فضائل النظام الطبيعي، ثم ضرورة وجود السلطة. المذهب الكاثوليكي يتناقض مع كل راديكالية أو مع كل طوباوية سياسية، إنه راديكالي في دعوته للأشخاص، إنه يقول بحكمة القانون الطبيعي. البعدان لا يتعارضان، الفضيلة والنعمة تعلي و ترفع الطبيعة، لكن تنظيمهما هو في حالة تجاذب وتقلب بين القطبين. أو ( بشكل مبسط) : الذي يجسده سان أوغستان و الذي تجسد من خلال سان توماس. التوتر بين المدينتين هو موضوع تعايش أو جوهر مشترك في الفكر الكاثوليكي.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف