البون الهائل بين العرب والديمقراطية
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
هل تمكن المشاركون الأربع مائة من الشخصيات المثقفة جدا من زرع النبتة الديمقراطية في الأرض العربية ومن إدخال الشعوب العربية التي ترزح لقرون تحت نير الطغيان إلى العصر الديمقراطي؟ ذلك هو السؤال الذي يطرح بعد متابعة المؤتمر الذي عقد بالدوحة تحت عنوان:"الديمقراطية والإصلاح السياسي" وانتهى بالاتفاق على إنشاء منظمة عربية دائمة تعنى بالشؤون الديمقراطية تسمى:" المؤسسة العربية للديمقراطية" ويرأسها ثلة من المفكرين المرموقين الذين أمطروا الساحة منذ عقود بكتابات لا بأس بها وصلت إلى حد ادعاء امتلاك البدائل والمشاريع ولكن الغريب أن المؤتمر جرى في مجال إقليمي مازال بعيدا عن القطار الديمقراطي وينتمي إلى المركبة القروسطية وتحت رعاية الريع النفطي والبترودولار الأمريكي والغربي وقد سيطرت على مداولاته
الوجوه المعتادة في الفضائيات العربية التي تجتر في نفس البضاعة وتكرر نفس المادة الإعلامية التي لا تغني ولا تسمن من جوع وتخدم أجندات محلية وعالمية غريبة عن مصالح العباد ولم نر حضورا بارزا ومؤثرا للوجوه الشابة التي عانت من الاستبداد والتهميش وقادرة على فهم طبيعة المرحلة والعمل على صنع المستقبل
بأكثر جرأة. واللافت للنظر أن الوطيس قد حمي بين الفرقاء وأن العقول لم تكن قادرة على احتمال المختلف ولم تترسخ الديمقراطية العربية حتى في المحفل الذي من
المفترض أن يعلن عن ميلادها بطريقة فوقية، فقد تبادل البعض من الدكاترة الاتهامات وكانت ردود الأفعال
اقصائية سواء تحت يافطة إدانة "الهستيريا الإيمانية" بوصفها أحد العوائق التي تمنع من انبثاق التجارب الديمقراطية أو تحت شعار مواجهة "التطرف العلماني" وبالتالي لم يكن النقاش في عرس الديمقراطية النخبوية ديمقراطيا واذا كان رب البيت (الثقفوت) بالطبل ضاربا فكيف نلوم الصبية (العامة من الناس) على الرقص.
وقد استعمنا إلى كلام جميل عن كل القيم التي ذكرها الفلاسفة منذ سقراط وأفلاطون إلى رولز وهابرماس من نوع احترام حقوق الانسان والتداول السلمي على السلطة وتقسيم السلطات واستقلاليتها عن بعضها البعض وتشجيع السلم والتسامح ونبذ العنف والحرب وتوجهت دعوات للتضامن والحوار بين الشعوب والثقافات قصد تأكيد مبادئ الصلح والعدل والاعتراف بحقوق المرأة وهذا في حد ذاته أمر مطلوب ووجيه لأننا نفتقده على أرض الواقع ولا نعثر عليه في أي دولة عربية وكل ما نراه هو المزيد من التوتر المذهبي والعنف الطائفي والتأدلج الحزبي المقيت والتقوقع الاثني فأهل اليسار يزدادون أرثوذكسية وأهل اليمين يزدادون لبرلة وأهل الوسط يزدادون محافظة وما نشاهده هو تصاعد الأصوليات وتنامي السلفيات وهرولة من جميع الأطراف أنظمة
ومعارضة إلى حل الخلافات عن طريق الحسم العسكري والعنف المسلح وكل طرف يرى في ذلك عملا مشروعا ويخون ويكفر الطرف الآخر والوضعية تزداد تعقيدا والأجنبي يزداد تدخلا في شؤون الأهلي ونسق التبعية للغرب يتضخم ودور السفارات والمخابرات الأجنبية يتضاعف وأهل مكة في غفلة من أمرهم فهم كغثاء السيل أو أعجاز نخل خاوية تحسبهم وقوفا صامدين ولكن هاماتهم تنكسر عند أول عاصفة فيكثر النحيب والتذمر والتهويل
والتبرير باللجوء إلى فرضية العقاب الإلهي أو الانتقام التاريخي أو الثأر
الحضاري.إن الورقات التي قدمت تضمنت مجموعة من الأفكار الجيدة أهمها أن "الديمقراطية لا تتعارض مع مبادئ الأديان السمحة" وأن الانفراد بالسلطة وبالتالي التوريث هو من الممارسات اللاديمقراطية وأن مؤسسات المجتمع المدني هي التي ينبغي أن تشرف على سير العملية الانتخابية ولكن المشاركون لم يبينوا لنا علل تعثر بناء علاقة ديمقراطية بين الأديان وفشل جهود التقريب أو الحوار بينها ولم يقولوا لنا لماذا تحول البعض منها إلى إيديولوجيات شوفينية تصدر الموت والخراب للعالم وتؤمن بالملة المختارة والقومية الناجية وتعتقد أن الهلاك سيصيب بقية الملل والقوميات،كما أنهم لم يذكروا لنا أسباب فشل التجارب الديمقراطية في حضارة اقرأ وحالة الرضا المرضي بالاستبداد والخضوع الطوعي للأنظمة الرجعية الفاقدة للمشروعية التي نجدها متغلغلة في وجدان الشعوب العربية ولم يحللوا الشروط التي جعلت المجاهرة بالحق من خلال الرفض العلني والمعارضة السلمية تذبل في عقول المواطنين وتنتفي من الحناجر،زد على ذلك أنهم سلموا بأن المجتمع المدني موجود
في الوطن العربي وأنه قادر على منافسة الدولة ليلعب دورا هاما في ترسيخ الثقافة
الديمقراطية بينما هذا التسليم هو مجرد تخمين لأن المجتمع السياسي منذ ظهور دولة ما بعد الاستعمار قد
ابتلع المجتمع المدني وحاصر المجال العام المجال الخاص وروضه بطريقة لينة وأخضعه لمشيئته، كما أن مؤسسات المجتمع المدني مخترقة وضعيفة وظلت نخبوية ولا تطرح القضايا الحقيقية للناس بل تهتم بمشاكل راهنة تطرح في الدول المتقدمة ويقع إسقاطها بطريقة تعسفية على المجتمعات على حساب إهمال القضايا المستجدة والمركزية.
بعض الملاحظات النقدية ضرورية هنا لفهم ما حدث في الدوحة،الأولى هي أن هذا
المؤتمر هو خطوة في الطريق الصحيح خاصة إذا ما وجدت توصياته إصغاء وترجمة عملية
من قبل الأنظمة العربية الحاكمة وتفهما والتزاما من الأحزاب المعارضة
والتنظيمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني لكن الحضور الغربي الواضح للعيان
والمؤثر يجعل البعض يظن أن المؤتمر مرتهن لأجندة معولمة وعندئذ تعود مقولة
الاستقواء بالأجنبي صالحة للتحليل في حين أن الإصلاح الديمقراطي الحقيقي لا يفرض من الخارج ولخدمة مشاريع التوسع الكلياني بل يأتي من الداخل ونتيجة تطور طبيعي وحاجة حضارية.
الملاحظة الثانية أن العقول المشاركة رغم قيمتها على المستوى الأكاديمي الجامعي والزخم الفكري الذي أنتجته فشلت نظريا وعمليا في زرع نبتة الديمقراطية في الوطن العربي فهي فشلت على الصعيد الحزبي وليس لها أي انجازات تنظيمية هيكلية تذكر وغير قادرة على التجييش والتعبئة ولا تتمتع بمصداقية الشارع العربي ولا تصنع الرأي العام السياسي ولا تتحكم فيه بل كانت ولا تزال قريبة من دوائر الحكم وتتمعش من بعض الفتات الذي يعطى لها أما على المستوى النظري فهي قد عجزت منذ تشكلها والى حد الآن عن استئصال نزعة التسلط والتمركز والاستبداد من قلب النظرية ومن بنية العقل لأنها ظلت تزعم الحقيقة وسقطت في فخ الايدولوجيا ولم تغادر أرض اليقين الوثني، فالمفكر العلماني ازداد لبرالية والإسلامي ازداد سلفية والقومي ازداد ناصرية والشيوعي ازداد ماركسية والجميع يحركهم الحنين البدائي وحب العودة إلى النص المؤسس للخلاص من بؤس الواقع وزيف الفكر المتأمل فيه، وما نستخلصه من هذا الفشل هو ضرورة الالتفات إلى العقول الشابة المكتوية
بنار العولمة والتي جربت مرارة الهزيمة ومرت عليها جميع النكسات والنكبات ولم
تزدها الأيام سوى إصراراوإيمانا على مواصلة الصمود، لذلك لابد من المراهنة على الطبقة الناشئة، فهي
الأقدر على التفكير في المستقبل بطريقة ناجعة وهي الأكثر تحفزا على صنعه ويكفينا تعويلا على العقول المعممة المتسترة وراء البدلات الأنيقة.
يمكن في مستوى ثالث أن نعرج على مقولة "الهستيريا الإيمانية" والتي قوبلت بهوس إقصائي بغيض يتنافى مع العقلية الديمقراطية والحوار العقلاني الذي يحترم الرأي الآخر ويؤمن بحق الاختلاف وينبغي أن نعترف أن العرب إلى حد الآن لم يتجاوزوا مرحلة القرون الوسطى التي تميزت بالشروح والتفاسير لأمهات الكتب الأصولية وتأليف الموسوعات وأنهم عجزوا عن القيام بإصلاح ديني حقيقي رغم علمهم أن حالهم لن يصلح إلا بنقد المقدس لأن "نقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد" سواء في السياسة أو في المجتمع أو في الاقتصاد ولكن ينبغي كذلك أن نشير ضد زعماء التقدم البهرج إلى أن نقد المقدس لا ينبغي أن يتحول إلى تطرف علماني مضاد يتقنع بثوب الشيوعية ويشكك في صدقية العقيدة دون مبرر، فالدين في عرف المفكر الماركسي
الايطالي أنطونيو غرامشي يظل جزء من الثقافة الوطنية ويمكن أن يلعب دورا إيديولوجيا ثوريا في بناء الديمقراطية والتنمية.
الملاحظة النقدية الرابعة تتعلق بالجواب عن السؤال الذي طرح في البداية وهو العلاقة بين العرب والديمقراطية فربما عاد الجميع من المؤتمر ممنيا النفس بالانتصار على قلاع الاستبداد وبزرع نبتة الديمقراطية ولكن الجميع نسوا أن هذا الانتصار كان في لحظة لازمانية أشبه باليوطوبيا أو بأحلام اليقظة في فندق ضخم في إمارة يحكمها نظام ملكي توريثي ليس لها أي وزن استراتيجي في المجال الجيوسياسي الذي تنتمي إليه بالمقارنة مع الدول الأكثر ثقل وهي مصر والسعودية والعراق وسوريا ،كما أن هذه النبتة التي يخيل للثقفوت العربي المنتعش من
الهرولة نحو إسرائيل والأمركة العسكرية للمنطقة العربية أنها زرعت بطريقة ثابتة قد لا تقدر على أن تكبر وتصير شجرة تحت تأثير الزلازل والعواصف وموجات التصحر الوجودي التي تحملها رياح العولمة بمسميات وعلل شتى مرة للحرب على الإرهاب ومرة أخرى للمحافظة على حقوق الانسان من انتهاكات الأنظمة الشمولية ومرة ثالثة لنشر الثقافة الديمقراطية، بينما مصطلح الديمقراطية ظل في الفلسفة الغربية نفسها مصطلحا غائما وضبابيا يشبه إلى حد كبير حصان طروادة الذي يحمل وصفات سحرية لجميع ما تتمناه الشعوب وتحلم
به.
في هذا السياق يقول عبد الرحمان الكواكبي في كتابه: طبائع الاستبداد ومقارعة الاستعباد:" إن الاستبداد السياسي هو صفة الحكومة المطلقة العنان...التي تتصرف بشؤون الرعية كما تشاء...لم تطبق تصرفها على شريعة أو على أمثلة تقليدية أو على إرادة الأمة".ما يحز في نفوسنا أن جميع شعوب العالم اختارت نهجها في الديمقراطية ونجحت إلى حد ما في ذلك فالصين اختارت الديمقراطية الاجتماعية وطبقت اقتصاد السوق واليابان ربطت بين المحافظة على التقاليد الموروثة والنهج الليبرالي الاقتصادي ودول أمريكا اللاتينية نراها تميل نحو الديمقراطية الاجتماعية المنتمية للثقافة اليسارية مع بعض التحرر السياسي المشوب بالحذر من التوسع الأمريكي في المنطقة
في حين تعيش الدول الأوربية انفتاحا وديمقراطية سياسية وتداول سلمي على السلطة بينما الدول العربية تفتح مجالها الحيوي لكل من هب ودب وتخضع نفسها دون مراقبة ومحاسبة لمن يريد أن يجرب ويختبر كالجثة الهامدة المعروضة على طاولة التشريح، فمراكز الدراسات إلى جانب الأنظمة الرسمية يوجد من يسمعها في المنطقة العربية ويطبق فرضياتها ويفعل محاولاتها البحثية ويحفظها عن ظهر قلب وكأننا قصر لا نقدر
أن نفكر بأنفسنا وليس لنا عقول تبحث وتعتبر وتنظر.إن الديمقراطية المنشودة في الوطن العربي هي المقامة على إرادة الأمة وهي التي تراعي مصالحها العامة وتحافظ على المقاصد والكليات الكبرى من حفظ العرض والدين والنفس والمال والأرض وتجمع بين العروبة السردية الجديدة المنصهرة في الإسلام السياسي التقدمي والمستنيرة بقيم اليسار الاشتراكي الإنسانية ومهما حاولت المؤسسة التي وقع تأسيسها وتفعيلها (المؤسسة العربية للديمقراطية) فإنها تظل
بعيدة المنال عنها لأنها مؤسسة فوقية نخبوية نشأت بين لأحضان الأنظمة الفاسدة وغير قادرة على إيجاد الأرضية النظرية المشتركة بين أجنحة الأمة الأربعة(الليبرالية والقومية والإسلامية والماركسية) ولم تقم إلى حد الآن بمراجعات فكرية جذرية تسمح بالتلاقي والتصافي،فهذه الديمقراطية الحقة تصنعها العقول الشابة المشردة التي ملت من القعود والتواكل والانتظار ورفضت الذل والعار ونهضت من أجل المقاومة والتحرير، تصنعها بسواعدها وبمدخرات تراثها ورموز حضارتها وتوصيات أنبيائها ومرشديها ولا تصنعها الدبابة الغربية ولا الطفرة النفطية ولا مرتادي الصالونات والعلب الليلية في الفنادق الفاخرة،إنها ديمقراطية المنبوذين الجياع الذين يسكون الأرياف والجبال والمخيمات ومدن الصفيح وأحياء القصدير والذين يتخذون من قبور الموتى وهداياها مسكنا ورغيفا لهم ،إنها ديمقراطية تشاركية اندماجية ترفض الموت والفناء وتتشبث بالحياة والبقاء وتكفر بالإقصاء والتهميش والتمييز وتؤمن بالمساواة في السلطة والمعرفة والمنفعة بعد أن تغلبت عليها الحرية والعدالة
لأنه لا قيمة لحرية ولعدالة دون مساواة لكن كيف تحقق ديمقراطية العرب المنشودة المساواة للناس في ظل لامساواة اجتماعية وعدم تكافئ طبيعي وعدم توازن دولي؟
ومن يردم الفجوة الرقمية الهائلة التي تفصل العرب عن الحالة الديمقراطية؟ ألا ينبغي يقع ضخ الأموال العربية الضخمة على نشر الثقافة الديمقراطية عوض استثمارها في الفضائيات التي تروج لفن سقط المتاع والثقافة الاعتقادية المحافظة؟
* كاتب فلسفي
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف