كتَّاب إيلاف

قداستي وقداسة البابا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما تقوم الدولة بتهميش الأقباط والضغط عليهم، بالتنسيق المباشر أو غير المباشر مع تيار الإخوان المحظور اسماً، والمفوض فعلاً ليعيث بالوطن فساداً كما يشاء، يكون من غير المتوقع من الأقباط أن يلقوا بأنفسهم في البحر الأبيض أو الأحمر، وإنما سينسحبون إلى داخل الكنيسة، يتحصنون بين جدرانها العتيقة طلباً للحماية والأمان، لتكون الدولة هي المسئول الأول، وإن لم يكن الوحيد، عما يحدث بعد ذلك من تداعيات سلبية، تطول بآثارها ليس الأقباط فقط، وإنما سائر الجسد المصري الواحد، وتكون ما تناقشه السطور التالية جزءاً من كل يصعب الإحاطة به دفعة واحدة.
يبدو وكأن الخلاف بين شخصي المتواضع وبين قداسة البابا شنوده الثالث هو على حيازة لقب صاحب القداسة، فالبابا شنوده الثالث (نظير جيد سابقاً) يرى أنه صاحب القداسة الأوحد، ولتأكيد هذا الادعاء وترسيخه في أذهان الملايين من رعاياه، تضيف الكنيسة لاسمه فوق لقب القداسة ألقاباً أخرى فخمة وعظيمة، يسمعها مثلي ويتحسر على قلة حظه من الدنيا وربما من الآخرة أيضاً، فهو البابا المعظم، أب الآباء وراعي الرعاة، ورئيس أساقفة المدينة العظمى الإسكندرية والكرازة المرقسية والخمس مدن الغربية وسائر أفريقيا وبلاد المهجر، وفي معية قداسة البابا أو في بلاطه المقدس قافلة من أصحاب النيافة الأساقفة والمطارنة، ورغم جهلي بالأصل اللغوي لكلمة "نيافة" هذه، إلا أنها تشير إلى درجة من القداسة أقل من التي للبابا، وأعلى من درجة القداسة التي تمنح لجيش جرار من الكهنة، بناء على لقب آخر هو قدس أبونا، وأبقى أنا وأمثالي من الرعايا بلا ألقاب وبلا قداسة ولو من الدرجة العاشرة، فكل المتاح أمامنا هو التمسح بقداسة المقدسين، نمارس السجود أمامهم تحت تسمية رشيقة مقدسة هي "مطانيات"، ونقبل أياديهم تلمساً لما تيسر من البركة، ونجلس أمامهم صاغرين صامتين، نختزن كل ما تقوله شفاههم المقدسة من كلمات وتعاليم، ليس باعتبارها كلمات ووجهة نظر بشر مثلنا، ولكن باعتبارها كلمات الله التي يضعها على ألسنة مختاريه المقدسين، ويأبى أن يضعها على فم أمثالي من فئة الرعايا عديمي الألقاب المقدسة، إلا إذا كانت من قبيل الترديد الببغائي لما يتفوه به قداسة المقدسون.
هذا الحشد من الألقاب - وما يترتب عليه في الواقع العملي، من توجيه لأسلوب وشكل العلاقة بين الشعب القبطي وقياداته الدينية - لفت نظري منذ الصغر، لكنني في مرحلة لاحقة من عمري فسرته بأنه تكريم ليس لأشخاص الكهنة، وإنما لروح الله وللدين ذاته، وارتحت جزئياً لهذا التبرير، وبقيت ملحوظة أخرى تؤرقني، فالسيد المسيح -الذي نؤمن كمسيحيين أنه الله- لا نسبق اسمه إلا بلقب "سيد"، وهو اللقب الذي صار متاحاً لنا جميعاً بعد انقلاب يوليو 1952، الذي ألغى جميع الألقاب، فيما عدا ألقاب أصحاب القداسة المتحصنين بجدران الكنيسة العتيدة والعتيقة.
أعتقد شخصياً كمسيحي أن لقب السيد المسيح كاف جداً، فهو الذي قال" "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" مت 11 : 29، لكن السؤال المزعج هو: إذا كنا نحن الرعايا قد تعلمنا من السيد المسيح حسب الوصية، واكتفينا بلقب سيد، أو حتى بدونه، فلماذا لم يتعلم قادتنا الدينيين التواضع ذاته، رغم أنهم أولى بمحاكاة السيد المسيح واتباع وصاياه؟
لماذا يصرون على عزف أناشيد التواضع، ليشنفوا بها آذاننا نحن المؤمنين الصاغرين الجالسين أمامهم كجثث هامدة، دون أن يفكروا لحظة واحدة في تطبيقها على أنفسهم؟
النقطة المفصلية في هذا اللغز القبطي الأرثوذكسي بامتياز هو ملحوظة أخرى، تبدو للوهلة الأولى هامشية، وإن كنت أراها حاسمة في تفسير مهزلة الألقاب هذه، فقد درج الأقباط في أحاديثهم أن يذكروا اسم المسيح أو يسوع مجرداً من أي لقب، لكن لا يحدث أبداً أن يأتي على لسان أحدهم اسم شنوده أو بيشوي مثلاً دون ألقاب، والأدهى من ذلك أن صلوات الكنيسة ذاتها غالباً ما تذكر اسم المسيح ويسوع مجرداً دون ألقاب، لكنها أبداً لا تذكر أسماء البطاركة والأساقفة دون ألقاب التفخيم والتعظيم!!
بالطبع لا ننتقد صلوات الكنيسة لذكر اسم المسيح دون ألقاب، لأن التخفف من الألقاب يرجع بالأساس إلى أن السيد المسيح قد أسقط الحاجز المتوسط بيننا وبين الله، وهو من قال: " لا أعود أسميكم عبيداً لان العبد لا يعلم ما يعمل سيده.لكني قد سميتكم أحباء " يو 15 : 15، لكن الأمر المستهجن هو تخصيص الألقاب للكهنة، الذين ما هم إلا خدام المسيح وخدام الشعب، وهم الذين علمهم الرب ممثلين في تلاميذه أن يتواضعوا إلى درجة غسل أرجل بعضهم البعض، وليس السجود (المطانيات)، وهي حكمة فرغتها الكنيسة من مضمونها، وحولتها إلى طقس لتقديس المياه لمغفرة الخطايا، ليحملها الناس في زجاجات إلى بيوتهم للتبرك بها، وهو ما لا اعتراض لنا عليه، وينحصر الاعتراض في تلاشي المضمون الأساسي لما علمه الرب للتلاميذ ولنا جميعاً!!
المسألة فعلاً أخطر مما تبدو للوهلة الأولى، فالحالة ذات عناصر متعددة متكاملة، أولها تعاظم ألقاب القادة الدينيين مقابل بساطة أو انعدام ألقاب السيد المسيح، وثانيها طريقة تعامل الأقباط مع أشخاص الكهنة بمختلف رتبهم، من سجود وتقبيل أياد، ثالثها ما نسجله -ولا ينكره إلا المكابرين- من انصراف الأقباط الأرثوذكس عن دراسة الكتاب المقدس باعتباره كلمة الله، والاكتفاء بالاستماع إلى أقوال الكهنة وتعاليمهم، واستقبالها على أنها كلمات الله ذاتها، وليست مجرد فهم وتفسير بشري لكلمة الله، الرابعة النظر إلى الكهنة كما لو كانوا معصومين من الخطأ، والنظر إلى من يتجرأ على نقدهم كأنه خارج على الدين، وكأنه (حاشا) يهاجم السيد المسيح ذاته، وتجد من يذكره بأنه صعب عليه أن يرفس مناخس، إشارة إلى وحي الرب لشاول الطرسوسي حين كان يحارب الكنيسة قبل إيمانه، خامسة الأثافي توسع الأقباط في العصر الحالي في مساحة سر الاعتراف بدرجة مزعجة لكل صاحب ضمير، ولكل حريص على حاضر الأقباط ومستقبلهم، فعلاقة الأقباط لم تعد تواصلاً مع "فاحص القلوب والكلى الله البار" مز 7 : 9، وإنما مع الكهنة الذين صاروا يحددون للقبطي كل صغيرة وكبيرة في حياته، بما فيها خصوصيات الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة، رغم أن سر الاعتراف في مفهومه الأرثوذكسي السليم هو مجرد اعتراف الفرد بالخطايا التي لا يستطيع الفكاك منها أمام الله، وإقراره بها أمام الكاهن، ليطلب له الحل من رباطات خطاياه من الله، حسب السلطان الذي منحه الرب لتلاميذه، وانتقل إلى الكهنة حسب العقيدة الأرثوذكسية التي نؤمن بها جميعاً، أما ما يحدث حالياً في سر الاعتراف فلا علاقة له بذلك السر الكنسي الأرثوذكسي، الذي تسلمته الكنيسة من الآباء!!
النقاط الخمس السابقة معاً تشير إلى أمر واحد، هو أن الأقباط قد تحولوا من عبادة الإله الواحد، إلى عبادة رجال الدين من الإكليروس باختلاف رتبهم، سواء الأحياء منهم، أو من انتقلوا إلى السماء، ومازلنا نشرب مزيج الماء وتراب قبورهم لنوال البركة والشفاء، وسائر قائمة التبرك والمعجزات التي لا ينضب معينها، والتي تفرغ الكهنة للترويج لها، جلباً للأموال والسلطان، ولو على حساب تغييب وتدمير العقل القبطي والمصري بعامة، حقاً انطبق علينا قول الكتاب المقدس: " لأن شعبي عمل شرين.تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً آباراً مشققة لا تضبط ماء" أر 2 : 13 !!
ترجع هذه الحالة المأساوية للأقباط الأرثوذكس إلى أمرين تحالفا معاً حلفاً غير مقدس، أولهما وأساس البلاء هو حالة الكسل أو العجز العقلي والسلبية وانعدام الثقة بالنفس، التي تسود الشعب المصري بعامة، وفي القلب منه الأقباط الأرثوذكس، وثانيها استمراء القادة الدينيين لحب العظمة والمال والسلطان، فانتفخوا (ليس جميعهم) بكبرياء تتعاظم مع الوقت، فيما يرتلون بلا ملل أناشيد التواضع.
يتبقى في هذه المداخلة بضع سطور أتحدث فيها عن نفسي، عن قداستي الشخصية المهدرة، فأنا أزعم بل أجزم أنني المقدس الوحيد في هذا الكون، فأنا بكل فخر وبدون تواضع زائف "إنسان"، والإنسان هو درة هذا الوجود وتاج خليقة الله، من أجلي خلق الله الكون وكل ما فيه، ومن أجلي أرسل الرسل والأنبياء، وأخيراً وفي ملء الزمان "أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" يو 3 : 16، ألا يكفي كل هذا لأكون أنا المقدس الحقيقي والأصيل، وليس المقدس بالادعاء؟!!
أنا صاحب قداسة نعم وبالتأكيد، لكن لأنني إنسان ولست إلهاً فأنا معرض للخطأ، كما أنا قادر على الصواب، وروح الله يرشدنا بالعقل الذي أوعه فينا إلى الصواب، لكن كل منا يستجيب بقدر إمكانياته وإرادته، فلا مهرب لنا من إنسانيتنا القابلة للخطأ والزلل، مهما مُسحنا كهنة أو أساقفة أو بطاركة، فالإنسان يبقى إنسان، وإلا لما قال الكتاب: " لأن الصدّيق يسقط سبع مرات ويقوم.أما الأشرار فيعثرون بالشر" أم 24 : 16، وقال: "حينئذ تقدم إليه بطرس وقال يا رب كم مرة يخطئ إلى أخي وأنا اغفر له.هل إلى سبع مرات. قال له يسوع لا أقول لك إلى سبع مرات بل إلي سبعين مرة سبع مرات" مت 18 : 21-22، هذه هي الطبيعة البشرية، فلماذا يصر الأقباط على وضع رؤسائهم الدينيين فوق مستوى البشر؟
قصدت بكلماتي هذه أن تكون صرخة ونداء، إلى كنيستي القبطية شعباً وقيادة، نداء للعودة إلى جذورنا القبطية الأرثوذكسية الآبائية الأصيلة فيما يتعلق بعقائدنا الإيمانية، وإلى العلاقات المسيحية الصحيحة بين الأبناء والآباء، والتي صارت الآن بين سادة وعبيد، أو بين آلهة وعبَّادهم.
نتعشم أن يكون ثمة آذان لتسمع، وعقول لتفهم، وضمائر لتستيقظ قبل فوات الأوان، وقبل أن ننزلق إلى كارثة، إن لم نكن فعلاً بين أحضانها.
kamghobrial@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف