تجاهل عربي واسلامي لمحنة المسيحيين المشرقيين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الكثير من المسيحيين المشرقيين يجدون اليوم في الهجرة خلاصاً سريعاً من المآسي والمحن التي يتعرضون لها من حين لآخر في أوطانهم على أيدي الأغلبيات المسلمة،حتى بدأ يتلاش ويندثر الوجود المسيحي من مناطق واسعة كانت يوماً مركز الثقل المسيحي في الشرق.هذا وقد هبطت نسبة المسيحيين في عموم الشرق الأوسط الى نحو 5% من نسبة السكان،معظمهم في مصر و بلاد الشام.في فلسطين،مهد المسيحية، هم اقل من 3%.هذه النسبة هي في تناقص مستمر مع استمرار هجرة المسيحيين وتركهم لأوطانهم بسبب تدهور الأوضاع الأمنية وتصاعد موجة العنف واستهدافهم من قبل تنظيمات اسلامية متشددة. حتى لبنان المتميز بنظامه السياسي وتركيبته الاجتماعية، الذي شكل عامل دعم معنوي واستقرار نفسي مهم وكبير ليس لمسيحيي لبنان فحسب وإنما لمسيحيي الشرق الأوسط عامة، تزعزع الوجود المسيحي فيه بعد الحرب الأهلية 1975 التي أفرزت واقعاً سياسياً واجتماعياً جديداً في غير صالح المسيحيين اللبنانيين.في مصر ارتفعت في الآونة الأخيرة وتيرة اعتداءات الإسلاميين على الأقباط في ظل انحياز واضح للسلطات الأمنية والقضائية الى جانب المعتدين من الإسلاميين المتطرفين.وفي العراق، في الثاني من حزيران الحالي اقدم مسلحون مسلمون على قتل الأب رغيد عزيز كني وثلاثة من الشمامسة اثناء خروجهم من الكنيسة في مدينة الموصل. ويعد هذا العمل حلقة في سلسلة من الاعمال الاجرامية التي استهدفت المسيحيين في الموصل. ففي شهر تشرين الاول من العام الماضي تم اختطاف وذبح الأب بولص اسكندر وفي تشرين الثاني من العام نفسه تم قتل الأب منذر السقا رئيس الطائفة البروتستانتية في الموصل بالاضافة الى قتل وذبح العديدة من مسيحيي المدينة. يقول العديد من العراقيين المسيحيين الفارين الى سوريا، التقيناهم:أنهم هربوا من الخطف والموت وطردوا من بيوتهم من قبل مجموعات اسلامية متطرفة تستغل ظروف الاحتلال وغياب الدولة وانفجار الأوضاع الأمنية في اجبارهم على دخول الإسلام أو دفع الجزية وإما القتل، أضاف هؤلاء: أن غالبية الكنائس ببغداد أغلقت.وتقدر المرجعيات المسيحية أن نصف سكان بغداد من المسيحيين،كان يبلغ تعدادهم نحو نصف مليون قبل عام 2003،إما فروا أو قتلوا.وتخشى هذه المرجعيات أن يكون لدى بعض الأطراف في الحكومة العراقية، دوراً خفياً فيما يحصل للمسيحيين العراقيين وتفاهم مع الإرهابيين لطرد هذه الشريحة العراقية الأصيلة والوطنية التي لم تنخرط في الصراعات الداخلية العراقية.وقد وجه بطاركة الكنائس المسيحية في العراق نداءات الى الحكومة العراقية ناشدوها لحماية وإنقاذ المسيحيين من الهجمات الإرهابية التي يتعرضون لها في بغداد ومناطق اخرى من العراق من خلال تكثيف جهودها لفرض الأمن والقانون. وقد اتهم البطاركة العراقيين في بياناتهم ما يسمى بـ(الدولة الاسلامية في العراق) التي دعت اليها مجموعة تنظيمات اسلامية مسلحة ترتبط بتنظيم القاعدة وحملوا هذه المجموعات مسؤولية اعمال الابتزاز والعنف والخطف التي تطال المسيحيين.واللافت في هذه القضية هو التزام الزعامات والمرجعيات الإسلامية في العراق وخارج العراق الصمت والسكوت عن القتل الممارس بحق المسيحيين العراقيين باسم (الإسلام).في حين أن معظم هذه المرجعيات كانت قد انتفضت وأثارت الشارع الإسلامي احتجاجاً على بضع كلمات اقتبسها البابا (بنديكتيوس السادس عشر) من نص قديم بشأن نشر الإسلام بالقوة.ما يحصل للمسيحيين العراقيين، فضلاً عن الخوف من تكرار المشهد العراقي الأليم في دول أخرى تختزن الكثير من عناصر الانفجار وارتفاع دعوات اقامة الحكم الإسلامي فيها، أعاد طرح قضية المسيحيين في الشرق العربي الإسلامي من جديد بعد عقود طويلة من الأمن و الاستقرار النسبي الذي نعموا به في ظل الحكم الوطني.فمع هذا التدهور الكبير في الأوضاع الأمنية لم تعد قضية المسيحيين المشرقيين كما كان ينظر اليها في الماضي على أنها قضية سياسية قانونية مرتبطة بمسألة الديمقراطية والحريات وحقوق المواطنة، وإنما أضحت قضية تمس وجود وبقاء هذه الشريحة الأساسية والأصيلة في أوطانها،التي بات وضعها اشبه بجزر صغيرة في وسط بحر اسلامي هائج من غير تحصين وطني أو ذاتي.
بلا ريب،أن خلو الشرق من المسيحيين، بما يشكلونه من حالة حضارية ومدنية، سيترك مضاعفات سلبية وخطيرة على البيئة الثقافية والاجتماعية للمجتمعات العربية والإسلامية.إذ أن هجرتهم ستوفر أرضية خصبة لنمو الأفكار المتطرفة وتكاثر التيارات المتشددة. كما أن هجرة المسيحيين ستعزز من التهم والشكوك الموجهة للمسلمين بعدم قدرتهم على تقبل الآخر والعيش معه. فضلاً عن أنها تعني انسداد أفق الحوار المسيحي الاسلامي وفقدان هذا الحوار الكثير من مبرراته واسباب استمراره. وأيضاً هي استنزاف قسم مهم من الطاقات الوطنية الخلاقة وتوقف استثمارات المسيحيين في المنطقة وخسارة لملايين الدولارات المحولة سنوياً.أما بقاء المسيحيين وتمسك العرب والمسلمين بهم هو تمسكهم بخيار الديمقراطية والعيش المشترك وبمشروع الدولة العصرية(الدولة المدنية) ورفضهم للدولة الدينية (الدولة العنصرية).وبقاء المسيحيين في الشرق العربي الإسلامي هو بالمحصلة قوة ودعم لقضايا العرب والمسلمين بما للمسيحيين من صلات وعلاقات تاريخية متميزة مع الغرب.
يبدو أن(المؤتمر القومي العربي) استشعر المضاعفات السلبية لهجرة المسيحيين بعد أن بلغت مستويات خطيرة لها.ففي مؤتمره الثامن عشر المنعقد في البحرين في نيسان الماضي، وجه نداءً يحث فيه جميع الفعاليات الثقافية والسياسية والاجتماعية في الوطن العربي لبذل الجهود الممكنة للتصدي لهذه الظاهرة ويحذر من تأثيرها على الثقافة الوطنية العربية الإسلامية التي يشكل المسيحيون أحد عناصرها الأساسية.أنها المرة الأولى التي يتوقف القوميون العرب عند هذه الظاهرة.لا شك، أنها خطوة إيجابية وإن جاءت متأخرة، لكنها خطوة ناقصة وضعيفة من القوميين العرب، ذلك بإغفالهم الأسباب الجوهرية لهجرة المسيحيين وتحميل المسؤولية للخارج المتآمر. جاء في نداءهم :((الهجرة الواسعة للمسيحيين العرب لم تكن بمعزل عن مخطط خارجي مرسوم لتفريغ المجتمعات العربية من إحدى مكوناتها الثقافية الأساسية، وإظهار الصراع بين العرب والغرب على أنه صراع بين مسلمين ومسيحيين)).إذ كان الأولى أن يطالب المؤتمرون حكومات بلدانهم بتحمل مسؤولياتها تجاه هذه الشريحة الوطنية والقيام بخطوات عملية من شأنها تعزيز الوجود المسيحي في الشرق وتحد من هجرة المسيحيين.لكن يبدو أن رؤية القوميين العرب لقضية الهجرة المسيحية بقيت اسيرة موقفهم الايديولوجي والسياسي التقليدي من الغرب الأمريكي الأوربي.كما أن تجاهل الأسباب الحقيقة لهجرة المسيحيين المشرقيين يخفي خلفه الرغبة بعدم احراج الحكومات والأنظمة العربية والإسلامية التي ما زال يتسم موقفها بالتعتيم والصمت التام حيال محنة المسيحيين.يتجلى هذا الموقف العربي والإسلامي الرسمي في تجاهل جميع القمم العربية والإسلامية قضية المسيحيين.إذ لا توصيات ولا قرارات تخص هجرة المسيحيين المشرقيين وقضيتهم.بالطبع هذا يثير الشكوك في موقف القادة والزعماء العرب والمسلمين من مسالة بقاء المسيحيين بينهم و في مجتمعاتهم.
أخيراً:
إن بقاء المسيحيين في دول المشرق العربي الإسلامي مرهون بجملة من الشروط والعوامل، أولها: وجود رغبة اسلامية فعلية وارادة اسلامية حقيقة ببقاء المسيحيين في الشرق والقبول بهم كشركاء حقيقيين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة والواجبات الوطنية دون انتقاص. ثانيها: إنهاء نظرة التشكيك بهوية وانتماء وولاء المسيحيين المشرقيين والنظر اليهم كشعب أصيل ومكون اساسي في مجتمعات الشرق وليس كشعب دخيل غريب، أو هم من بقايا الحروب الصليبية كما تزعم وتذهب بعض التيارات الإسلامية.ثالثها: وضع برامج تثقيفية تربوية وتعليمية وطنية شاملة تنشر ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية واعتماد مناهج تعمل على تغيير نظرة الإنسان المسلم الى الانسان المسيحي، من نظرة غريب الى نظرة شريك في الدنيا والآخرة، نظرة تنطلق من أن أحداً لم يختار دينه وإنما هكذا وجد نفسه.رابعاً: قيام دولة عصرية يفصل فيها الدين عن السياسة، وتقوم على مبدأ حقوق المواطنة يسودها القانون وتحقق العدل والمساواة بين المواطنين دون تمييز أو تفضيل.
سوري آشوري.. مهتم بحقوق الأقليات
shosin@scs-net.org