... وما ادراك ما الفتوى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
علي الرز
الكتابة عن الفتاوى الدينية التي تلون المشهد العربي حاليا اشبه بالخوض في حقل الغام خصوصا اذا كان الكاتب غير ملم بالاصول والشروط ولا يملك اي قدرات تقويمية وتفسيرية، فالموضوع حساس وشائك، ودون الخوض فيه محاذير ومخاطر.
ومع ذلك، لا ضير من ان تأخذ الفتاوى مساحات من وقت العرب، فالوقت عندهم اساسا لا اعتبار له والمثل يضرب ب"التوقيت العربي" للدلالة على التأخر وعدم الانجاز في الزمن المحدد.
ولا ضير ان ينشغل الناس بالسجالات المصاحبة للفتاوى بين المشايخ انفسهم او بين الكتاب والمعلقين والاعلاميين والناشطين الاجتماعيين، فهذه السجالات تغذي الفكرة مصدر الفتوى وتعطي ابعادا جديدة لها تأييدا او رفضا، كما انها لا تخلو احيانا من اشكاليات اجتماعية كما هو الحال مع ردود الفعل التي تبعت الفتوى التي تجيز ارضاع الكبير.
حرب الفتاوى، وخصوصا تلك الغريبة، اشتعلت دائما في مضارب العرب حيث السياسة بحدود، والديموقراطية بحدود، وحرية التعبير بحدود، واصبحت مثلها مثل السجال الرياضي للتنفيس عن اختناق واحتقان في مجالات اخرى. ومثلما استغلت السلطة في اكثر من مكان المناسبات الرياضية لزيادة شعبيتها وتحسين صورتها فعلت الشيء نفسه مع قياديي مؤسسات دينية ومشايخ معروفين كانوا جاهزين لايجاد "تغطية شرعية" لحدث خارج نطاق "التغطية الشعبية"، ثم كان هؤلاء انفسهم ايضا وقودا في حرب السلطة على آخرين او حرب الآخرين عليها.
في الحرب والسلم، في المعاهدات والمواثيق، في العلاقة مع ولي الامر، في قضايا الاحزاب والديموقراطية والشورى، في العقد الاجتماعي، في الاقتصاد العادي و"الاسلامي"، في الاعلام والاعلان... دخلت المواضيع غرف الفتاوى وخرجت منها بسلام حينا وبعواصف في احيان اخرى، وما زال السجال قائما حتى الآن بين من اعتبر هزيمة 1967 "نعمة ودرسا" وبين من اعتبرها "انتصارا"، وبين من اعتبر صلح "كامب ديفيد" شبيها بصلح الحديبية ومن اعتبره استمرارا لهزيمة أحد وخيانة للمحاربين.
واذا كانت الفتاوى المصاحبة لحدث سياسي كثيرة اللغط مثلها مثل الفتاوى غير السياسية، فالمطلوب حقيقة هو رسم الحدود الواضحة بين الالزام وغير الالزام، وبين الرأي والاجتهاد وبين الفرض، وبين الجواز وعدم الجواز في حضرة الدولة الحديثة والقانون المدني والاعراف الاجتماعية والقيم والعلاقات القانونية والانسانية... وهو موضوع شائك ودقيق تعرض الخائضون فيه الى مواجهات صاروا معها هم مادة فتوى جديدة.
عموما، يترك العلم لاهله، لكن العلم لا يمنعنا من التمييز بين العالم الحقيقي وبين الغشيم المتلبس لبوس العلم او التاجر المدعي الفقه او السياسي المقنع بالدين. فهؤلاء محاورهم واحدة وهي الاكثار من المؤثرات التي تلغي قدرة التفكير الواقعي وتسفيه كل ما في الدنيا والتركيز على الماورائيات والعالم الآخر ثم ربط ذلك الالغاء العقلي بالعلاقة الحصرية بين طالب العلم ومعلمه فيسهل توجيهه في الاطار الذي يريد.
العلماء الاجلاء كثر وبصماتهم واضحة في ما يعرف بالنهضة العربية والاسلامية (كان زمان)، لكن العلماء "الاجداء" اكثر منهم بكثير وتأثيرهم اقوى.
عام 1982، وبيروت تتعرض لعشرات آلاف القذائف والصواريخ من الجيش الاسرائيلي الذي يحاصرها برا وبحرا، اعلن وقف لاطلاق النار لساعات، فخرج الناس الى الشوارع للملمة النكبات والتفقد والتبضع اذا كان متاحا، وذهب بعضهم الى مسجد كبير تعود شيخ معروف بانه من "الفقهاء الجدد" الخطابة فيه. بدأ الشيخ الحديث عن كل شيء الا الحصار الاسرائيلي والقصف والدمار والموت، تكلم عن الوضوء وحسن المعشر والعلاقات بين الناس... ثم فجأة شد انتباه الناس بالتطرق الى "الخطر الداهم" الذي يهدد اللبنانيين والعرب والمسلمين.
الخطر الداهم لم يكن الوجود الاسرائيلي الذي لم يبعد آنذاك عن المسجد نفسه سوى خمسة كيلومترات، كان هناك ما هو ادهى وامر بالنسبة اليه استدعى منه اطلاق فتوى تحريمية.
قال الشيخ ان الخطر الحقيقي هو "انهيار الامة من الداخل عبر تفريغها من قيمها وبأدوات عربية مسلمة". قال الناس ان الشيخ يعرف بالتأكيد اسماء جواسيس وسيكشفهم.
اضاف الشيخ انه سمع من الناس (كونه لا يشاهد التلفاز) ان الفنان السوري دريد لحام قال على سبيل المزاح في احد اعماله "اللي بيتزوج بيكون حمار"، والشيخ يرى ان الزواج هو تكملة نصف الدين "فكيف يجوز لانسان عربي ومسلم ان يلتف حول هذا الحق ولو من باب المزاح"، ثم افتى من على المنبر بوجوب مقاطعة هذا الفنان واعماله "درءا للمفاسد وتحصينا للوحدة المجتمعية".
عاد القصف بعد ساعتين واحتدمت المعارك وصاحب الفتوى توارى في ملجأ شأنه شأن الكثيرين بعدما ساهم في المعركة المصيرية بكشف "عدو الداخل".
لا يفتى وامثال شيخنا في المدينة التي ضربت بصمودها آنذاك اروع الملاحم... ومع ذلك فالموضوع حساس وشائك، ودون الخوض فيه محاذير ومخاطر اصعب من مخاطر مواجهة اسرائيل، خصوصا اذا كان سلاح التكفير موجود بكثافة وبترخيص من عشرات الدعاة الجدد.