دروس وعبر من تجربة صحفية ناجحة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كلمة لا بد منها
ليس من السهل على أى صحفى حر ومستقل العمل فى صحيفة حزبية مؤدلجة أوصحيفة رسمية موجهة تنطق بأسم حزب حاكم فى ظل نظام شمولى اواستبدادى، لا تنشر الا ما يوافق سياسة الحزب من أخبار مشوهة ومنحازة واحكام جاهزة وآراء مسبقة ان كانت صحيفة حزبية اوتعمل جاهدة لتبييض عمل الحكومة وتجنب كل ما يتسبب بأقلاقها أويخالف مصالحها وتلميع صورة (القائد الضرورة) ان كانت صحيفة حكومية. ومما يزيد الطين الحذر الشديد للمشرفين على الصحف الحزبية والحكومية من تناول أى نقد بناء يوجه الى الحزب اوالحكومة اوالتطرق الى موضوعات محرمة وما أكثرها فى ظل الأنظمة القمعية مثل قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان وغياب الحريات العامة وغيرها وذلك حفاظا على مناصبهم وامتيازاتهم وهم فى العادة ملكيون أكثر من الملك. والصحفى الشريف فى مثل هذه الصحف يكون امامه خياران كلاهما مر: اما ان يستسلم لمشيئة السلطة ويخسر بذلك نفسه وحرية التعبير عن آرائه ومواقفه اويترك العمل الصحفى وهومصدر رزقه الوحيد ومهنته المحببة التى كرس حياته من اجلها.
ولكن عندما يشعر النظام الحاكم بأن الأستمرار فى تكميم الأفواه وقمع المعارضة وانتشار الأستياء والتذمر بين أبناء الطبقات المسحوقة يشكل خطرا على استمراره فى الحكم يلجأ الى اعطاء هامش من حرية النقد للصحافة الحكومية ومنح امتيازات اصدار صحف جديدة (مستقلة) شكلا وممولة وموجهة من قبل الحكومة فعلا، وذلك لأمتصاص الغضب الشعبى فى الداخل وتجميل صورة النظام فى الخارج. ولدينا مثل صارح على ذلك، حبث لجأ النظام الصدامى فى أعوامه الأخيرة الى اصدار عدد من الصحف الأسبوعية التى تتطرق الى موضوعات محرمة اوتتناول بالنقد أعمال وقرارات مسؤولين حكوميين من الصف الثالث (درجة مدير عام فما دون). وهكذا كان الوضع فى روسيا فى فترة ما بعد (ذوبان الجليد) حيث اضطرت السلطة السوفيتية تحت الضغط الشعبى واشتداد عود حركة المنشقيين الى اعطاء هامش من حرية التعبير الى الصحف الثقافية على وجه الخصوص، لأن المثقفين السوفييت كانوا فى طليعة من كان يتصدى للنظام الشمولى السوفييتى. والفرق الجوهرى هنا بين الصحافة (الأهلية) الصدامية الغبية وبين الصحافة الروسية الرصينة الذكية، ان العاملين فى صحف صدام كانوا من المرتزفة الذين دجنهم النظام الفاشى، اما العاملون فى عدد من الصحف السوفيتية الواسعة الأنتشار، فقد كانوا من الكتاب والصحفيين المتعطشين الى الحرية والمتطلعين الى مستقبل افضل لشعبهم. كان هؤلاء الكتاب الروس من الذكاء بحيث يصعب وضعهم فى خانة (المعارضين) للنظام القائم ومن المهارة المهنية بحيث تعجز معها الرقابة الحكومية الصارمة عن ايجاد مآخذ على المفالات والتحقيقات المنشورة فى صحفهم. وسنتطرق فى الفقرات اللاحقة لتجربة صحفية ناجحة وفريدة، ربما لا تتكرر فى اى مكان أوزمان آخر ولكنها زاخرة بالدروس والعبر. فإلى الصحفيين العراقيين والعرب الأحرار الذين أرغمتهم الظروف على العمل فى الصحافة الحزبية والحكومية فى بلادنا أهدى هذا المقال.
صحيفة روسية أسهمت فى صنع الأحداث وتغيير الواقع
لا تكتسب الصحيفة - أى صحيفة - أهميتها ونفوذها من سعة انتشارها وحضورها فى الساحة الأعلامية فحسب، وانما أيضا وربما فى المقام الأول من مدى تأثيرها فى اتجاهات الرأى العام وتعبيرها عما يشغل اذهان القراء من قضايا تمس حياتهم ومستقبلهم ومدى اسهامها فى تغيير الواقع نحوالأفضل. وانطلاقا من هذه الحقائق، يمكننا القول ان الدور الذى صحيفة "ليتراتورنايا غازيتا" أى "الصحيفة الأدبية" الروسية فى التحولات الجذرية التى شهدها المجتمع الروسى خلال العقود الثلاثة الماضية، لا نظير له فى تأريخ الصحافة العا لمية.
تأسست " ليتراتورنايا غازيتا " فى عام 1926 كصحيفة تمثل الأدب السوفييتى الوليد، ثم اصبحت الصحيفة المركزية الناطقة بأسم " اتحاد الكتاب السوفييت " بعد تأسيس الأتحاد المذكور فى عام 1934. وقد ظلت طوال أكثر من ربع قرن محدودة التأثير والنفوذ فى ظل الرقابة الأيديولوجية المتزمتة. وبعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى الذى انعقد فى اكتوبرعام 1956 وخطاب خروشوف الشهير فى هذا المؤتمر حول الجرائم الدموية للعهد الستالينى، وفى أجواء الأنفتاح النسبى فى فترة ما عرف ب(ذوبان الجليد) حدث تحول مهم فى سياسة الجريدة وتوجهاتها وطرأ تغيير كبير فى تحريرها واخراجها. وصدر أول عدد من الصحيفة فى عهدها الجديد مع بداية عام 1957.
لقد اراد المخططون الآيديولوجيون فى قيادة الحزب آنذاك ايجاد (صمام أمان) لتصريف بخار الغليان الذى طال احتباسه ومخاطبة المثقف الذكى والمستقل التفكير الذى تنتابه الشكوك حول مصداقية الصحافة الرسمية وما تنشره حول الأنجازات المتتالية فى شتى الميادين. ولكن الواقع أرحب دائما مما يفكر فيه المخططون، فقد تحولت الصحيفة تدريجيا الى منتدى فكرى للمثقفين الروس واصبحت صفحاتها ميدانا للحوار الفكرى الخصب بين هؤلاء المثقفين وأخذت تنشر نتاجات الكتاب المستقلين فكريا الذين لم تكن السلطة تنظر اليهم بعين الأرتياح وتتناول بالنقد والتحليل ما تحجم الصحافة الرسمية عن الخوض فيه أوالتطرق اليه وتثير قضايا تتحاشاها تلك الصحافة وتنظر الى ما وراء الأفق من فوق رؤوس الرقباء الذين لم يكن يفارقهم التفاؤل الحزبى السطحى.
واستطاعت "ليتراتورنايا غازيتا " بمعالجاتها الذكية ولغتها غير المباشرة الحفاظ على خط التوازن الدقيق بين المسموح والممنوع وخاضت مغامرة معقدة وجريئة فى آن معا وانتصرت على الرقابة فى نهاية المطاف. ورغم ان (ليتراتورنايا غازيتا) ظلت صحيفة سوفيتيت تنطق بأسم اتحاد الكتاب السوفييت ولم تكن قادرة أن لا تكون كذلك وبصرف النظر عن اسمها، الا أنها أصبحت من الناحية العملية لسان حال المثقفين الروس بكل جدارة. ويمكن القول أن هذه الصحيفة هيأت الأجواء للتغييرات التى حدثت فى الأتحاد السوفييتى فى ما بعد ونعنى بذلك "البريسترويكا" وما أعقبها من تحولات جذرية والأنتقال من النظام الشمولى على النمط السوفييتى الى الرأسمالية الليبرالية.
وبعد انهيار الأتحاد السوفييتى وظهور صحف منافسة كثيرة وتردى الوضع الأقتصادى فى البلاد وانحياز " ليتراتورنايا غازيتا " الكامل الى التيار الليبرالى، تقلص توزيعها من خمسة ملايين الى اقل من ربع مليون نسخة. وكان هذا نتيجة حتمية، ليس لأن القارىء العادى لم يكن قادرا على شراء الخبز،ناهيك عن اقتناء الصحيفة، بل لأن " ليتراتورنايا غازيتا " أنساقت كثيرا وأوغلت فى التأييد المطلق للنخبة الحاكمة الجديدة التى رفعت شعارات الديمقراطية الليبرالية والأقتصاد الحر، فى وقت كان الفساد الأدارى يستشرى فى أجهزة الدولة. ويعانى فيه المواطنون من ضنك العيش نتيجة لتراجع الأنتاج الصناعى والزراعى وارتفاع أسعار السلع الضرورية والخدمات. وقد اعترف - رئيس تحرير الصحيفة - فى مقاله الأفتتاحى لمناسبة مرور ( 50 ) عاما على صدور الصحيفة بشكلها الجديد، بأن هيئة تحرير الصحيفة لم تلحظ على الفور أنحراف الليبراليين ولم تفتح صفحاتها - كما كان الأمر فى أواخر العهد السوفييتى - للآراء الأخرى ووعد بتصحيح هذا الخطأ الفادح وذلك بجعل الصحيفة مفتوحة من جديد لكل المثقفين، جامعا على صفحاتها كتابا من شتى الأتجاهات والتيارات السياسية والأيديولوجية والأدبية والفنية ومعبرة عن كل تعقيدات المرحلة الراهنة التى يمر بها المجتمع الروسى.
وأردف قائلا : ان حرية الكلمة لا تعنى، حرية فرض رأى معين على الآخرين، بل اتاحة الفرصة لكل انسان أن يعبر عن رأيه الخاص حول كل ما يجرى حوله وله مساس مباشر بحياته ومستقبله وعلى " ليتراتورنايا غازيتا " أن تكون محاورا ذكيا لكل مفكر ومثقف ومن دون هذا الحوارتظل الصحيفة مجرد أوراق ميتة لا قيمة لها على الأطلاق.
- موسكو - بغداد