المسيحية وعلم السياسة (6):انعتاق الإرادة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من يقرأ الفلسفة السياسية الحديثة يرى أنها ليست متجانسة. مع ذلك نحن نصنف مجموعة من علماء السياسة أو المفكرين في مجالاتها و كأنهم في خانة أو مجموعة واحدة، كما هو الحال مع كارل ماركس،مونتسيكيو،ميكيافليي...، علما أن بينهم تناقضات كثيرة، إذا ما هو سبب هذا التصنيف ؟
في النظرة أو الوهلة الأولى، وحدة الفلسفة السياسية الحديثة تعود لنفس الرفض: الحداثة ترفض تقاليد الماضي وكأنها شؤم أو غير واقعية. أكثر عمقا، هذا الرفض يستند على أشياء مشتركة نستطيع أن ندعوها روح الحداثة و التي تعمل في اتجاه : انعتاق الإرادة. فكرة الانعتاق يمكن أن يكون مفكر فيها بشكل معتدل أو آخر متطرف. تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة يظهر بشكل واسع و كأنها تعميق للإرادة الانعتاقية هذه. في مجريات هذا التاريخ، الحالة الجديدة تعود أو تخص العقل. هذه الحالة تتميز بعدة عناوين أو أشكال. أولا، الروح الحديثة تؤكد استقلال العقل في معنى واحد أكثر راديكالية من الفلسفة الكلاسيكية أو بالأحرى من الفلسفة الكلاسيكيةـ المسيحية. استقلالية العقل الحديث لا تعني فقط رفض مبدأ السلطة ( و بالتالي رفض السلطة السياسية و الدينية )، إنها تعني أيضا رفض مبدأ الغائية. الإنسان ليس نهائيا جزءا من نظام يتجاوزه( الكون عند اليونان) Cosmos، الخلق وفق لمسيحية Creacute;ation، ليس موجها أو منظما نهائيا إلى نهاية هي في طبيعته، إنه إنسان مستقل. إن تعرج الروح الحديثة يقود الاقتراح التالي: الإنسان هو سيد، إنه سيد العقل، الضمير و الإدراك. التقليد يجب أن يكون إذا مطعون فيه لأنه يضع الفرد في حالة من التبعية، إنه يمنعه من بلوغ رشده.
هذا العقل المستقل بشكل كبير وجذري هو، ثانيا، فاتح أو غاز. العقل عند القدماء و عند المسيحيين كان هدفه الحياة الشخصية: العقل يجب أن يسمح لكل منا بالسيطرة على أهوائه و أن يقود حياته بالتطابق مع طبيعته كحيوان عاقل. العقل الحديث يغير الاتجاه: إنه يرتبط بالعالم الخارجي و يمتد لتغيير ظروف الإنسان. أنه متقد بواسطة روح التحرر و الانطلاق و التي تهدف في نفس الوقت السيطرة على الطبيعة اليونانية و على العلم و التقنية، ثم السيطرة على المجتمع عبر تنظيمه بشكل عقلاني. مغامرة كبيرة وجديدة تفتح، إنها المغامرة الخارجية، التي تبدل أو تغير المغامرة الداخلية. العالم منظم، إنه قابل للتطويع أكثر مما اعتقدنا في السابق، وحرية الإرادة الإنسانية أصبحت أكثر كبرا. " العالم الطبيعي هو للاقتحام" يقول باكون وديكارت،" الإنسان يجب أن يصبح سيدا و مالكا"، أما ماركس فيدعو لولادة عالم جديد. تحت شكل أقل أو أكثر راديكالية أو أقل أو أكثر اعتدالا، الروح الحديثة تمتد لإعادة التفكير في العالم من أجل تغييره. يتبع ذلك أن الفارق التقليدي بين النظرية و التطبيق سيصبح أقل بروزا و تضعف معالمه. المعرفة هي سلطة، إنها تعد بعصر جديد لظروف الإنسان.
ثالثا، هذا الاتجاه الجديد للعقل يعني ما يلي: من جانب العقل الحديث هو فاتح أو غاز،ومن جانب آخر هو عقل خادم. العقل يعطي القدرة على تغيير الأشياء الخارجية، إنه يمتد حتى يترك إدارة الأشياء الداخلية. بشكل آخر للقول، يوضع في خدمة حرية أكثر فأكثر ليس لها حدود، إنه يترك المجال أمام الرغبات الإنسانية. الروح الحديثة فرغت بشكل متدرج فكرة الطبيعة الإنسانية من كل جوهر و نختم الفكرة بالقول: الطبيعة هي حرية نقية صافية، تُبنى داخل و بواسطة التاريخ أو تُبنى كما يراها كل فرد ويفهمها. تحت شكلها النقي الخالص أو شكله الراديكالي، الفكر الحديث يعتبر الإنسان كخالق لنفسه. بمعنى آخر الإرادة تمحي الطبيعة. العقل يبادر بالفعل، إنه بذلك يشكل أداة و يدير الوسائل وفق القوة أو الاستطاعة الإنسانية، استطاعة يجب أن تستخدم من أجل إعادة الحياة أكثر مدة أو طولا، و أكثر راحة، أكثر غنى ممكن، أو استطاعة وقوة يبحث عنها بحد ذاتها.
بالمقارنة مع الكلاسيكيين، الحديثون يطلبون في نفس الوقت أقل أو أكثر من العقل: من جانب هم يرتقون به و من جانب آخر ينزلون به.في النتيجة،النتائج هي معكوسة: من الآن فصاعدا يوجد مجتمع أو نظام اجتماعي وفق العقل ولكن لا يوجد حياة وفق العقل.
السياسة بذلك تغير من طبيعتها. الثورة الحديثة تعني أن السياسة تتجاوز السلطة السماوية و السلطات اللاهوتية. بعمق أكثر، المشروع الحديث يعني أن السياسة تتوقف عن أن تكون فنا لتصبح بذلك تقنية أو تكنيكا. التعريف النهائي للسياسة يترك المكان لتعريف أداتي Instrumentale. موضوع السياسة وفق التقاليد كان العمل من العيش الجيد للإنسان، موضوع السياسة وفق الفلسفة الحديثة هو التنظيم و بشكل عقلاني للعالم الاجتماعي في خدمة الانعتاق الإنساني. بالنسبة للكلاسيكيين، السياسة تبقى بشكل ضروري بجانب العقل، وعند الحديثين، المشكلة السياسية لديها حل عقلي. هذا الحل هو مؤسساتي. الفلسفة الحديثة لا ترتبط نهائيا بفضائل الفاعلين، إنها تعتمد على فضائل النظام.
الفلسفة السياسية أيضا تغير من طبيعتها ومن خلال إستراتيجية. الفلسفة لا تفعل سوى توضيح السياسة، لديها دعوة للحكم. إرادة عقلنة السياسة بشكل كبير تبرر سياسة جديدة للفلسفة: الكتابات الحديثة لديها،بشكل عام، طابع نضالي. التحليلات هي أيضا برامج أو بيانات. اللغة المزدوجة التي يستخدمها الحديثون بشكل مستمر ليس لديها نهائيا نفس المعنى كما عند " اليونان". إنها لا تهدف لوقاية و صيانة الرأي و الفلسفة، بل تهدف لفتح الآفاق أمام الرأي و لنشر الفلسفة. اللغة المزدوجة هي باطنية eacute;soteacute;rique من أجل الدوران على الرقابة و النقد، وهي ظاهرية exoteacute;rique من أجل الإقناع من غير تصادم. فالمشاريع الكبرى تحتاج مناورات كبرى.
في التفاصيل بشكل مؤكد الأشياء أكثر تعقيدا بكثير. في البداية تاريخ الفكر ليس تماما هو مستقيم. فكرة التجذير radicalisation المتدرج للفكر الحديث لم يتم استغراقها إلا تحت مجموعة تحفظات ( ميكيافلي هو أكثر راديكالية من مونتسكيو). فيما بعد الفلسفة السياسية الحديثة ستقسم في تيارات مختلفة. إما، نبسطها مجددا فنقول: من جانب الليبراليين ( بالمعنى الواسع) من أجل انعتاق الأفراد أو حريتهم المستقلة تمر عبر الوضع في التنفيذ تقنيات تحافظ على الحرية؛ من جانب آخر الانعتاق من التاريخ السماوي الإلهي حتى يكون انعتاق الإنسانية داخل و بواسطة التاريخ، والسياسة ستزود بالتقنيات من أجل التحرر. إنهما وجها الحداثة. في الأصل، يوجد الثورة الأخلاقية مصنوعة بكل معرفة بالوقائع بواسطة الرائدين الكبيرين للفلسفة السياسية الحديثة: ( نيكولاس ميكيافلي) و ( توماس هوبز).
كتاب"الأمير" الذي وضعه ميكيافلي ( 1513) ينتمي إلى شكل أدبي تقليدي : " مرايا الأمراء". هذا الكتاب يأخذ مكانه في سلسلة طويلة ضمن المؤلفات حول فن الحكم. ولكن إذا كانت القربة "الزجاجة" قديمة فإن النبيذ هو جديد. الذي يطوره ميكيافلي ( 1469 ـ 1527)، من غير أن يرفع نبرة الصوت، هي مجموعة من الوصايا والتي بما أنها وصايا للحكم : " لأن البشر إما أن يدمروا بعضهم وإما أن يتلاطفوا "، لأنهم يذهبون إلى الثأر لأقل الأسباب ( الفصل الثالث)، " إنه من المؤكد أن يخافوك الناس أكثر مما يحبوك" (الفصل السابع عشر)، " يجب أن يكون الأمير متصنعا بشكل كبير ومنافقا أيضا" ( الفصل الثامن عشر). في النتيجة بماذا ينصح ميكيافلي؟
إنه ينصح الملك بأن يأخذ بوسائل الطاغية. تحت ريشته، وفي جميع الأحوال في كتاب "الأمير"، التمييز القديم يُمحى لأن عالم الأخلاق أو عالم ميكيافلي هو نقيض للعالم الأخلاقي لأفلاطون،أرسطو و سان توماس. العلاقات بين السياسة، الخير والشر تغيرت في معناها، كما تغيرت في معنى الكلمات المتعلقة "بالفضيلة" و "الحكمة". التعليم الواضح والمعلن عند ميكيافلي هو تهذيب الأخلاق وفق الضرورة : الشر هو ضروري في السياسة و هذه الضرورة مبررة.
ميكيافلي هو مفكر جرئ،حاذق و أيضا لغزي مبهم. كيف نشرح أخطاءه الظاهرة و الواضحة جدا، وتناقضاته أيضا التي نجدها في نصوصه؟ كيف ينصح "الأمير"، حيث يأخذ وجهة نظر الملكية ـ الطاغية؟ ما هي آخر كلمة لرجل باعترافه الخاص مارس الفن الذي أوصى به الأمير وهو " النفاق و التصنع": " منذ بعض الوقت لا أقول نهائيا ما أفكر وأعتقد به، و لا أعتقد نهائيا بما أقول" ( رسالة كتبت في 17 أيار 1521 إلى Guichardin)؟ جرأة ميكيافلي تذهب،كما يظهر، أبعد من تعليمه المبين: المشروع الميكيافلي هو مشروع لقلب وتدمير العالم الكلاسيكي ـ المسيحي، لا يهدف فقط إلى تقويض الدور السياسي للكنيسة، إنه يهدف لتغيير وبشكل جذري التعاليم التي تدير وتحكم البشر. هذا الذي يظهر أو يقدم كمستشار للأمير هو في الواقع المُعلّم الخفي للأمراء الجدد. إنه المربي أو المنشئ لفضاء جديد لرجال السياسة. ميكيافلي يهدف " لحكومة غير مباشرة" للبشر كما يرى ( Harvey Mansfield) من خلال تدخل عدد قليل من أولئك الذي لديهم القدرة على متابعة تعاليمه حتى النهاية. البشر العاديون غير قادرين لسماعه بشكل حقيقي أو حتى أن يأخذوا بشكل جدي ما يقوله بوضوح. هؤلاء هم الجبناء،إنهم لا يتجرؤوا، إنهم لا يفهموا هؤلاء الذين يتجرؤون. إنهم مدعوون ليكونوا مخدوعين. في الفصل الخامس عشر من "الأمير"، ميكيافلي يبين بشكل دائم الجديد في خطوته: " لكن قصدي هو كتابة شيئا مفيدا لمن يسمعه. كثيرون تخيلوا جمهوريات و ملكيات لم تتم نهائيا رؤيتها أو معرفتها بشكل حقيقي. في الواقع،هناك بعد كبير بين الشكل الذي نعيش والشكل الذي يجب أن نعيش". ميكيافلي يعارض " الأشياء التي تخيلناها" و " الأشياء التي تبدو حقيقية"، بمعنى آخر تحليل الفلسفة الكلاسيكية و الفلسفة الكلاسيكيةـ المسيحية. فكر أفلاطون و من جاء بعده هو غير واقعي، إنه أسس على فكرة خاطئة بشكل كبير: الإنسان منظم و مرتب بواسطة دعوته إلى الحياة وفق الفضيلة. في الواقع،البشر هم كليا شيء مختلف. إنهم أشرار و محرومون من النهايات الطبيعية. ينبغي إذا إعادة التفكير في موضوع السياسة منطلقين من أهداف تكون بشكل حقيقي متابعة و ملاحقة من قبل الإنسان. ميكيافلي يقلص أو يخفض بعزم و ترو قواعد الفعل السياسي. النظام الأفضل عند الكلاسيكيين هو وهم. النجاح العملي يفرض أن نأخذه" بالحقيقة الفعلية للأشياء".
ما هي إذا أهداف السياسة كما يقدمها أو يراها ميكيافلي خاصة في كتابه " الأمير" ؟ وهل هي في خدمة الأمير ـ الطاغية ؟ وهل حقيقة ميكيافلي لم يقل كلمة واحدة خلال خمسة وعشرين فصلا من الكتاب عن الخير العام في تمييزه عن خير الملك ؟ هذا ما نتابعه في الجزء القادم من المسيحية و علم السياسة.