إيلاف والمهرجان السابع للفيلم العربي في روتردام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا يجد الباحث المقارن بين تغطية إيلاف للدورة السادسة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام، وتغطيتها لدورته الحالية، عنتا كبيرا في اكتشاف الفارق الشاسع بينها، ليس لأن المهرجان قد تغير في توجهه أو قيمته الفنية بين ليلة وضحاها كما قيل، إنما لأن أمزجة بعض أصدقائنا الصحفيين أو الكتاب، ممن لا يجد حرجا في ممارسة الشطط في استعمال سلطته الصحفية، تتغير دون سابق إنذار وبلا أي مبرر مقنع، على نحو لا تعلم إدارة المهرجان معه سر الغضب أو الرضا.
لقد بدا جليا أن المقالين اللذين نشرا عن حفل افتتاح المهرجان، ولم يظهر غيرهما إلى حد الآن على صفحات موقعنا المميز، كانا مزاجيان وشخصيان وبعيدان تماما عن أي مهنية، يفترض أن المشرفين على إيلاف أحرص ما يكون عليها، فقد تركا هذان المقالان، وأحدهما رأي والآخر خبر اعتمد الرأي - و يا للمفارقة-، كافة محتويات وأقسام المهرجان دون متابعة أو تعليق، ليركزا على كلمات قصيرة قابلة للتأويل، قالها رئيس المهرجان، و رؤساء المهرجانات في أوربا كما يدرك العارفون بتقاليدها، أصحاب مواقع رقابية وشرفية، إذ لا أحد على سبيل المثال يعرف أسماء رؤساء مهرجانات كان أو برلين أو فينيسيا أو بينالي السينما العربية في باريس، إنما الجميع يعرفون أسماء مدراء هذه المهرجانات، لأنهم المسؤولون التنفيذيون عنها والمشرفون الفعليون على برامجها.
ولعل حفل الافتتاح الذي قيل زورا وبهتانا أنه كاد ينهار، قد حمل في طياته أكبر رد حضاري على ما أثار اعتراض أحدهم في كلمة الأخ أبوليل، حيث عرض فيلم "آخر فيلم" للمخرج التونسي الكبير النوري بوزيد، وهو بيان ليبرالي علماني صارخ ضد خطاب الجماعات الإرهابية الظلامية التي تعيث فسادا في العراق ، وفي بلدان كثيرة عربية وغير عربية، والحال أن برمجة هذا الفيلم بالتحديد هو الأمر الذي يمثل إدارة المهرجان فعلا، ويعكس حقيقة الأفكار والرؤى التي تميز القائمين عليه.
كنت أتمنى على مسؤولي صفحة السينما في إيلاف، أن يبذلوا جهدا نقديا جادا في تقييم ما يقارب 60 فيلما من أكثر من 30 دولة جرى عرضها خلال أيام المهرجان، لا الإنصات إلى مجرد رأي شخصي، لم يكلف صاحبه عناء مشاهدة فيلم واحد من الأفلام الكثيرة الجيدة التي بذلت جهود لأجل إيصالها إلى روتردام، وعرضها على جمهور عربي وغربي، لا شك أنه محظوظ، لأن روتردام ليست المدينة الأوربية الوحيدة التي يعيش فيها عرب، ولا جاليتها العربية هي الأقدم أو الأكبر، إنما هي الصدفة والحظ، الذي كان أولى أن يحمد ويستمتع به، لا أن يذم ويشتم.
ثمة من أشار إلى أن المهرجان لم يستطع إدراك هوية ليبرالية، والحال أن المهرجان قد أثار طيلة السنوات الماضية الكثير من الجدل والاعتراض جراء توجهاته الليبرالية الخالصة، فقد كان من برامجه الخاصة ما يلي:" أفلام ضد التابو: الدين والجنس والسياسة"، "أفلام ضد الإرهاب"، "أفلام من أجل السلام"، "نساء عربيات في الواجهة"، وكل هذه البرامج وغيرها، قد أثارت حنق الجماعات الإرهابية المتطرفة على إدارة المهرجان، بلغت حد التهديد بالتصفية الجسدية.
إنه لمفارق أن تلتقي أصوات تزعم الغيرة على القيم الليبرالية والحداثية، مع أصوات التطرف والإرهاب، التي لا تريد أن يهتم عرب المهاجر بالسينما والفنون التي تفتح العقول وتنسف التابوهات، كما هو مفارق أيضا أن يعمل بعض الفاشلين من المحسوبين على الثقافة العربية في المهجر، لصالح جماعات اليمين المتطرف العنصرية، النافذة بالتحديد في مدينة روتردام، والتي ستكون في غاية السعادة لو أن المؤسسات الثقافية العربية توقفت عن أداء وظيفتها، باعتبارها تعزيزا لشعار يرفعه اليسار حول التعددية الثقافية، فالثقافة برأي اليمين الهولندي العنصري يجب أن تكون ثقافة بيضاء خالصة لا أكثر.
إن أكثر ما آلمني في ما نشر في إيلاف، هو افتئات البعض على تظاهرة ثقافية وفنية عربية مميزة، استطاعت رغم كل الصعوبات الصمود طيلة سبع سنوات متتالية، وكل العارفين بالشأن الهولندي يعرفون مدى الصعوبات التي يمكن أن تواجه المنظمين في إيجاد الدعم اللازم، خصوصا في ظل حكومة يمينية قادت البلاد طيلة الخمس سنوات الماضية، وفقا لسياسة حطمت الكثير من بنى دولة الرفاه التي عرفت بها هولندا وبعض الدول الاسكندنافية، وجعلت الأجواء معادية في غالبيتها للأجانب وللمؤسسات التي يشرف عليها أجانب، وخصوصا العرب منهم.
و إن الناظر في الساحة الفنية والثقافية العربية المهجرية، لا يجد في واقع الأمر الكثير من الأنشطة والفعاليات، بل إن أغلب ما ينظم هو من الحجم الصغير غير المتواصل، فإذا ما لعبت الصدفة و توفق القائمين على مؤسسة ثقافية عربية دورا في تحقق حلم صغير، اشتغلت معاول الهدم والتخريب، بدل معاول البناء والتشييد، وعوض اشتغال أصدقاء بما يعزز الساحة بالمزيد من الأنشطة، نهض هؤلاء لتثبيط الهمم وثني العزائم.
لقد عرض مهرجان الفيلم العربي في دورته السادسة فيلم "ماروك" للمخرجة ليلى مراكشي، الذي يحكي قصة حب بين شاب يهودي وفتاة مسلمة، وعلى الرغم من تهديد مدير المهرجان بالقتل إن لم يقم بإلغاء برمجة الفيلم، إلا أن المهرجان لم يتراجع. وخلال هذا العام برمجت العديد من الأفلام الهامة ذات الرؤى المشابهة، وتنافس في المسابقات الأربعة المعتمدة، أعمال سينمائية متميزة لمخرجين شباب في غالبيتهم، يقدمون للعرب والعالم صورا غير نمطية تهدم الأحكام المسبقة وتثري النقاش المرجو، أفلم يكن أجدى بمن كتب أو علق أن يزور فعاليات المهرجان ويمنح بعض وقته لمشاهدة الأفلام، بدل التوقف عند صغائر الأمور ويراقب من يثرثر في الأماكن الجانبية، وليس لإدارة المهرجان سلطة على إدخاله بالقوة إلى قاعات العروض.
صاحب الرأي الفذ قال أن نصير شمة لا يصلح أن يكون في لجنة التحكيم لمجرد أنه موسيقي، ومن قال أن الموسيقيين لا يفهمون في السينما، ثم من قال أن لجان التحكيم لا يجب أن تضم إلا سينمائيين خلصا، بل إن الناظر في تاريخ لجان تحكيم المهرجانات الكبرى، سيجد أن كثيرا منها قد ضم ساسة وكتابا روائيين وموسيقيين، حيث يفترض أن تضم لجان التحكيم مدارس وتخصصات متعددة، لأن السينما هي الحياة، وفي الحياة يوجد جميع البشر.
أحدهم أيضا، أشار إلى أنني أقحم نفسي في الديمقراطية والسينما، وأنني دخيل على كليهما، إذ أنني لست متخصصا في أي منهما، و لست أدري شخصيا أن الديمقراطية أصبحت تخصصا، وإن كانت تخصصا فأقرب الناس إليها هم خريجو القانون والسياسة، وأنا خريج قانون وسياسة، أما بالنسبة للسينما فإنني أرى أن إدارة المهرجانات السينمائية ليست تخصصا سينمائيا محضا، فقد كان أفشل الناس في إدارة المهرجانات هم الممثلون أو المخرجون عندما يولون مثل هذه المسؤولية، حيث تتطلب هذه الوظيفة جمعا بين تخصصات ومهارات مختلفة تجمع بين الإدارة والمالية والقانون إلى جانب الثقافة الفنية العامة، فقد كان المرحوم سعد الدين وهبة مثلا، أنجح كثيرا من حسين فهمي في إدارة مهرجان القاهرة، كما أن "فالو" أو "دانهامر" وغيرهما من مدراء المهرجانات الناجحين لم يكونوا من فئة المخرجين أو الممثلين أو حتى النقاد السينمائيين.
وأخيرا، فإن أشد ما أحزنني هو نكران الجميل الذين أبداه بعض الأصدقاء العراقيين إزاء كاتب هذه الكلمات، فقد أصبح بقدرة قادر مجرد أبله يقف مبتسما وراء رئيس المهرجان، غير آبه لما يصيب العراق، والحق - ولست أمن على العراق العزيز- فقد كنت واحد من قلة قليلة من المثقفين العرب، ممن كافح طيلة ما يزيد عن عشر سنوات ضد نظام الطاغية صدام حسين، لم أتردد في توقيع المقالات المعارضة بإسمي شخصي، متحديا كل المخاطر ومضحيا بكل المصالح، في حين لا يزال يوقع هؤلاء المزايدون على حب العراق، كخفافيش الظلام، بأسماء مستعارة، حتى بعد أن تحرر العراق وسقط الصنم، لكن ماذا عساي أقول وفي سيرة الحسين وأبيه عليهما السلام ما يعزي كل نفس، ويكشف بعض الانحرافات في الشخصية العراقية مثلما سطر ذلك عالم الاجتماع الفذ الدكتور علي الوردي في كتابه ذائع الصيت.
كلمة الختام لمشرفي صفحة السينما في إيلاف: إن المهنية هي سر النجاح، وإن أهم شرط للمهنية هو الموضوعية حتى مع ألد الأعداء، فما البال بتظاهرة ثقافية وفنية أزعم أنها الأقرب إلى إيلاف في مرجعيتها التنويرية والتحديثية والعقلانية، ومديرها أحد كتاب إيلاف، ليبرالي التوجه في إيلاف وفي غير إيلاف، وكذب كل من ادعى غير ذلك.
* مدير مهرجان الفيلم العربي في روتردام