تحولات عميقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في العام 1993 أصدر الاتحاد الأوروبي كتابا يحمل عنوان " نمو وتنافسية "، يحدد قواعد اللعبة الاقتصادية والاجتماعية، أما الكتاب الثاني المعنون " تعليم وتعلم " سنة 1995 فأشار إلي بروز مجتمع " معرفي " تقوم بنيته حول رهانات كبري هي العولمة والتسارع الكبير الذي تشهده الفتوحات العلمية والتقنية.
والملاحظة الأولية في هذين الكتابين كانت تتعلق بالمعرفة ذاتها، وهي أن ما ينتج اليوم من معارف يتجاوز بكثير ما يستطيع الفرد استيعابه. وهي ظاهرة حديثة نسبيا في تاريخ البشرية، وإن كانت تطورت بسرعة جعلت الوعي بآثارها يبدو وكأنه يجئ متثاقلا متأخر.
لذا ففي العام 1994 تبنت نخبة من الفلاسفة والعلماء والأدباء والفنانين في العالم، في مقدمتهم أدونيس، ميثاقًا جديدا بعنوان " اجتياز المناهجية "، يعتبراليوم المكافئ الفكري والروحي لإعلان حقوق الإنسان والمواطن في عصر الثورة الفرنسية 1789، الهدف منه إعطاء توجه مشترك للمناهج والمعارف، وتمركزها حول حاجات الإنسان وتطلعاته، عن طريق ابتكار وتطوير رؤية جديدة للواقع ستصبح قاعدة للعمل الإنساني، في سبيل التحول التدريجي نحو أنموذج جديد - Paradigm ينطوي على مفاهيم وقيم جديدة.
وتتلخص هذه المفاهيم في التحول عن العقلانية المفرطة إلى الحدس والكشف، عن التحليل إلى التركيب، عن الاختزال إلى التكامل، عن التفكير الخطي إلى التفكير اللولبي، عن الإمعان في التخصص إلى اجتياز المناهجية، وعن مراكمة المعلومات إلى المعرفة كوظيفة وجودية.
وليس القصد استبدال مفهوم جديد بمفهوم قديم، بقدر ما هو التحول عن التشديد المفرط على أحد المفهومين إلى توازن أعظم بينهما. إذ أن التنامي غير المسبوق للمعارف في عصرنا يمنح شرعية لمسألة تطويع العقول لهذه المعارف. كما ان التناغم بين العقول وبين المعارف يفترض سلفًا أن تكون هذه المعارف معقولة وقابلة للفهم.
ان البشرية - حسب تعبير بسراب نيكولسكو - مرغمة على تشييد "جسدها الخاص" من أجل استعادة التناغم المفقود بين العقل الإنساني وتكامل المعرفة ووحدتها. وهي محاولة لمواكبة الثقافة الإنسانية الكوكبية - Globalization الصاعدة، في جوهرها، من خلال إيجاد "معابر" بين مختلف مناهج المعرفة الإنسانية، وصولاً إلى معرفة كلية تتعدى المناهج وتشملها جميعًا، وبذلك تسهم في فتح آفاق جديدة للوعي.
وأحد جوانب الأزمة الراهنة للمعرفة من وجهة نظر هذه النخبة، هو أننا مازلنا نقر ونعمل مفاهيم وقيم أنموذج - Paradigm (قديم) لم يعد صالحًا للتعامل مع قضايا وإشكاليات عالمنا المعاصر الذي يتميز بالترابط والتعقيد والتشبيك. أننا نعيش أزمة تنطوي على مفارقة - Paradox هي: التباعد المتزايد بين نضج العقلية الإنسانية التي تتعامل مع الواقع ومشكلاته، والكتلة المعرفية المتراكمة التي تطورت بسرعة مذهلة في الربع الأخير من القرن العشرين.
ولعل أهم من عبر عن ذلك في المجال الاقتصادي هو "جورج سوروس" - Soros في كتابه : "حول العولمة" عام 2002، وهو ينتقد العولمة ليس من أجل القضاء عليها أو محاربتها، وإنما من أجل تحسينها وتطويرها. وأهمية نقده أنه يتحدث من داخل العولمة الرأسمالية وليس من خارجها، إذ أنه أحد أكبر المستفيدين منها. فضلاً عن أنه الشخصية النموذجية للعولمة، وهو ثمرة هوياته المتعددة: يهودي من أصل مجري يحمل الجنسية الأمريكية ورجل مالي ومحسن منهمك في تمويل بلدان الشرق.
ففي مقدمته التي تحمل عنوان "نواقص العولمة الرأسمالية" يعرف العولمة بقوله: "أقصد بها بكل بساطة السماح للرأسمال بالتنقل بشكل حر بين بلدان العالم، ثم التزايد المستمر لهيمنة الأسواق المصرفية العالمية والشركات المتعدية للجنسيات على الاقتصادات القومية للدول"
هذا التعريف لا ينفي - على حد قوله - بأن العولمة الرأسمالية مجحفة أو ظالمة أو غير متوازنة. وسبب ذلك يعود إلى أن "تطور مؤسساتنا الدولية لم يعد يتناسب من حيث الإيقاع والسرعة مع تطور الأسواق المصرفية العالمية. يضاف إلى ذلك أن التدابير السياسية التي اتخذناها كانت بطيئة ومتخلفة عن السرعة التي تمت بها العولمة الاقتصادية. بمعنى آخر فإن العولمة السياسية لم تتحقق حتى الآن لكي تتساوق مع العولمة الاقتصادية التي قطعت شوطًا كبيرًا في التحقق."
على أن أهم ما يطرحه كتاب سوروس، قوله: لقد لاحظت مؤخرًا حصول تحالف غير مألوف بين أصولي السوق الحرة في جهة أقصى اليمين والمنظمات المضادة للعولمة في أقصى اليسار. هناك تحالف موضوعي غريب الشكل بين هاتين الجهتين العدوتين، وهو تحالف يهدف إلى تدمير المؤسسات الدولية التي نملكها حاليًا.
ومن ثم لابد من تشكيل تحالف آخر يعمل من أجل إصلاح المؤسسات المصرفية والاقتصادية الدولية وتقويتها لا تدميرها. والسعي الي إنشاء مؤسسات جديدة إلي جانب صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي. وإذا نجحنا في إصلاح هذه المؤسسات القديمة وتغيير أساليب عملها وإنشاء مؤسسات جديدة إلى جانبها، فإن العولمة الرأسمالية سوف تصبح أكثر توازنًا وأقل ظلمًا... فما الذي تحقق بعد خمس سنوات من كتاب سوروس ؟.
أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com
بريمين - المانيا