كم هو هش جسد هذا الديكتاتور
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لستُ بصدد تقديم محاكاة لما فعله دوركايم في " تقسيم العمل " في 1893م، ولا لبيان ماركس - إنجلز، 1848م. فقط أود أن أشير إلى معنى وحيد وهو استحالة أن يتحوّل المجتمع، أو ينتقل من منطقة إلى أخرى، دون أن يكون هذا التحوّل شاملاً، غير جزئي. فالحداثات هي معادلات مترابطة يفضي كل منها إلى الآخر، ولا يمكن تصوّر سيادة شكل من الأشكال الحداثيّة، الاقتصاديّة مثلاً، دون أن يكون مجاوراً لـ / ومسبوقاً بحداثة سياسية، بما تحمله الحداثة السياسية من قيم ديموقراطية عند مستوى الحريّات والمؤسساتية والتبادل السلمي للسلطة. وطبيعي أن تتقاطع الحداثة السياسية مع الحداثة الاقتصادية عند مستويين اثنين : الحريّات والمؤسساتية، و أن تتأثر الحداثة الاقتصادية بالمستوى السياسي الثالث : التبادل السلمي للسلطة. وهو ما سيعني، ببساطة، عدم إمكانية وجود حداثة اقتصادية دون أن يسبقها تحديث سياسي، يفضي إليها كما تقول القيم الديموقراطيّة. إلى المعنى نفسه أشار الاقتصادي الهندي أمارتيا صن في كتابه الذي لخّص عنوانه المعادلة برمّتها بذكاء محض : التنمية حريّة، بالمعنى الواسع والليبرالي لمفهوم الحرّية. وعند هذه النقطة من النقاش ينكشف مصطلح " الإصلاح السياسي" وتتبدّى ضحالته وانعدام قدرته على الإيحاء أو تقديم معنى حقيقي. فالاجتماع البشري يتغيّر بصورة شاملة بإيحاءٍ من تغير أدوات إنتاجه واستهلاكه، ووعيه الجمعي. ومن المنطقي، إذا ما قبلنا وصف عملية التحوّل بالإصلاح، أن نستعد لقبول مصطلحات جديدة مثل الإصلاح الثقافي والإصلاح الاجتماعي والإصلاح الأخلاقي والإصلاح النفسي، وهو ما سبدو غير منطقي وغير دال.. إذ ما يحدث هو أن يعالج المجتمعُ مكوناته الداخلية بشكل هادئ وسلس في عملية تكيّف جديدة مع الأسئلة والتحدّيات الناشئة بفعل التطوّر والنشوء بدرجة تسمح له بالانتقال والتسلّق المتماسك إلى الأعلى. وهي معالجات لا تقف عند مستوى معيّن أو تنحصر في شكل معيّن من أشكال التحوّل.
وفي الإطار ذاته، لا يمكن تصوّر مجتمع يعيش حداثة اقتصادية عاليّة بينما تسكن هذه الحداثة في فضاء من القدامة السياسية العارِمة، وتتجاوران معاً. بالتأكيد، فهنالك أشكالٌ مائزة في عقل القارئ تؤيد وجود مثل هذا النوع من التعايش بين القدامة السياسية والحداثة الاقتصادية، وترجّح إمكانية حدوث هذا اللون من التجاور، كما هو الحال في كثير من دول آسيا، وعديد من الدول الديكتاتورية التي يتمتع فيها الفرد بدخل معقول ويتجاوز ناتجها القومي رقماً عالياً وتحظى بترتيب سفلي في قائمة الدول مسيسة الحاجة إلى الحريّات. وهو ترجيح لا يأخذ في اعتبارِه طبيعة التحوّل الاجتماعي وعلاقاته بالزمن من حيث قدرة شكل معين من أشكال الحداثة، الاقتصادية على سبيل المثال، على الصمود بمفرده دون أن تسنده حداثات أخرى، سياسية وثقافية. إن تجربة النمور الأسيوية، ثم زلزالها الاقتصادي، كانت ردّا عمليّاً على حالة الفوضى التي عاشتها هذه المجتمعات. حيثُ أريد لها أن تعيش الحداثة العرجاء، بصورة تجعل من الممكن وجود 83 مليون عامل أندونيسي يتقاضى الفرد منهم أقل من 3 دولار في اليوم. وفي الوقت نفسه فإن على هؤلاء الملايين أن يتعايشوا بصمت مع وضعهم البئيس تحت سطوة الصورة البشعة التي نشرتها الجهات الأمنية لمقتل فتاتين عاملتين في ساحة عامة لمجرّد أنهما طالبتا علناً بتحسين وضع العامل الأندنوسي ماديّاً وصحّيّاً، طبقاً لما أورده مؤلفا كتاب " فخ العولمة ". حالة اللاتوازن هذه بين التحديث الاقتصادي والديكتاتورية السياسية أوصلت ذلك المجتمع إلى مظاهرات الطلبة عام 1998م في وقت قياسي جدّاً، وسقطت الديكتاتورية، في نهاية الأمر. لم تسقط الديكتاتورية في أندنوسيا لأنها ديكتاتورية غريبة على المجتمع فقد تعايشوا مع هذا الشكل من أشكال الدولة طيلة تاريخهم. إن سقوط الدولة الديكتاتورية كان ضروريّاً، فقط، لأنها لم تعد تتواءم مع الحداثة الاقتصادية والثقافية والعلميّة، مع الوعي الكوني الجديد العابر للحدود والقارات، تماماً كما فعلت المقولات التنويرية الفرنسية، ثم الألمانية بزعامة شيللر وجوته، في عموم أوروبا. ولأن الديكتاتورية السياسية التي لا تعي، بطبيعة تكوينها، معادلات التحول الاجتماعي، فهي تحفر فناءها بنفسها. إنها تجد نفسها أمام تحدّيات متناقضة مستعصية على الحل، فمن جهة تقع على كاهلها مهمّة توفير الحد الأدنى من الفرصة المعيشية " الصحة والتعليم ولقمة العيش" كمبرر بديهي لوجودها. وهو ما لا يمكن أن يتوافر دون أن تخوض الدولة الديكتاتورية، غير الريعية المعتمدة على بيع أحشاء الأرض، غمار التحدي الاقتصادي الحديث، السوق ومعادلاته الضخمة. ومن جهة أخرى تجد الدولة نفسها في مأزق إذ عليها أن تواجه ما يفرزه السوق، بوصفه مجمَعاً لأدوات الإنتاج وقنوات الاستهلاك، من ثقافات جديدة على صعيد الحقوق والحريات والعدالة والمساواة، أي وعي عام جديد. وكذلك ما ستؤسس له هذه الثقافات، مع أدوات الإنتاج الجديدة، من فضاءات لطبقات جديدة من المجتمع لها تطلّعات وأسئلة زمنية تشترط إجاباتها تحولا سياسيّا موازياً للتحول الاقتصادي.
وفي كلّ حال : فهي حتميّات يفضي كل منها إلى الآخر. وهذه هي الحلقة الأضعف في جسد الديكتاتورية المتهالك. هنا سيغدو الحديث عن مجرّد إصلاحات في مجتمعات تموج بشروط ومقدّمات التحوّل هو محاولة فاشلة من قبل الأنظمة الشمولية لفهم ما الذي يحدث في العالم، والتعامل معه. فالإصلاح هو ترميم جزئي لاختلالات قد تحدث في أي خطوة من خطوات عملية الإنتاج الضخمة، وهي هُنا أن يعيد المجتمع إنتاج نفسه بنفسه، بصورة أكثر حداثة بعد أن امتلك شروط التحوّل المحتومة عليه واستوعبها. وكما هو بيّن فإن ما يشير إليه مصطلح " الإصلاح " من معنى سياسي سطحي لا يكفي، البتّة، لوصف أجواء التحوّل والانتقال التي يراوح فيها وينجزها المجتمع البشري المتأخر على الدوام. ويستعد الوقتُ لمساندة التحوّلات الكُبرى رغم كل محاولات التنين للبقاء مستيقظا. فالمستقبل ينجز نفسه بنفسه. وطبيعي أن يكون لكل مستقبل مستقبلٌ آخر. وهكذا يركض المجتمع البشري في اتجاه كمالاته بلا انتهاء. يالسخف الديكتاتورية.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف