جنازة الملائكة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انه ُ الصمت ُ، يالهول ِ الرزايا
حين َ لا يـُرتجى سوى صوت شاعر..
اتذكر بيت الشعر هذا واحفظه منذ الطفولة، وهو مطلع قصيدة رثاء كتبها شاعر اسمه احمد حميد في تأبين والدي الشاعر عبد الحميد السنيد في سبعينات القرن الماضي..
الصمت ذاك الوجع الذي نخافه والهول حقا ان ننتظر صوت الشاعر الذي علمنا الشدو، ويطول الانتظار دون جدوى..
اصمتتني الدهشة اليوم وابكتني حينما رأيت عبر الشاشة الصغيرة جنازة الملائكة..
جنازة عابرة منسية، بعض مثقفين عراقيين قد يكون معهم وبعدد الاصابع من مثقفي مصر، يحملون نعش أديبة تركت أعمق أثر إمرأة في تاريخ الشعر العربي..
اهذه جنازة الملائكة؟ أم جنازة نازك؟
بكيت وبكيت متذكرة، جنازة زميلها السياب العظيم، التابوت المحتضن للجسد النحيل المنحوت مرضا، يحمله صديق واحد من الكويت الى البصرة ببرد ليل موحش وعزلة يشوبها الرعب والإرباك الذي يدفع حامل النعش للتعثر بين الفينة والاخرى في أزقة البصرة القديمة باحثا عن المنزل ليضع الرفات امام زوجة الشاعر وليطرق الباب في ساعة لاعزاء فيها..
جنازة بدر شاكر السياب التي لم تحظ حتى بصورة على الشاشة، خلدت في اذهان وذاكرة كل المثقفين العراقيين، حتى من تصدى لإبداع السياب، او ترصده سياسيا واختلف معه..
وها جنازة الملائكة اليوم تذكرنا بجنازة زميلها على مقاعد الدراسة، جنازة مغتربة، السائرون خلفها قلة في بلد هو اكبر تجمع عربي يضم اكبر عدد للمثقفين من مفكرين وادباء وفنانين ودارسين اضافة الى المقيمين من بلدان اخرى.. ويتكرر سؤالي لنفسي متحولا الى مايشبه النواح ولازمة لقصيدة جنائزية :
اهذه جنازة الملائكة ام نازك؟
بكيت لان نازك لم تحظ بحفاوة وتكريم يليق بما قدمته من عطاء..
لماذا ؟ لماذا
هل لان نازك الملائكة لم تمتدح رئيسا او ملكا او مسؤولا كبيرا ؟
أم لأن حظ المرأة في العالم العربي مرتبط بقصور النظرة للانثى؟ فحينما المرأة تجّد وتبدع وتـُجدد وتُفكر وتتمرد وتكسر القوالب والاصنام، يكون نصيبها الاهمال ويترصدها الغبن الى قبرها ؟ اما حينما تكون شيئا لراحة ومتعة الكبار، يكون حظها الأوفر في بلدان باتت المرأة بها سلعة يتاجر بها تحت مسميات عديدة ؟
تذكرت بمقابل جنازة السياب ونازك، جنائز مطربين وفنانين وبعض شعراء كتبوا مديحا وردحا لرؤساء وملوك طوال عمرهم، فعجبت من المجتمعات العربية التي تستمد قيمها وتقاليدها من قيم وتقاليد الحكام والملوك واجهزة المخابرات رغم الكره لهم وتمني سقوطهم باقرب وقت..
غريب هذا الاصرار على ان تكون تلك المجتمعات مسخا، ونسخة لجلاديها، حينما تنسى من يعطي، وتطبل للانتهازي والمنتفع والمزيف..
اعود لتذكر جنازة والدي الكبيرة والمهيبة في مدينة سوق الشيوخ والتي شارك بها الكبار والصغار، حتى وصفها البعض انها يوم انقلبت به الدنيا في المدينة، لم يكن والدي رجلا غنيا ولا مسؤولا ولم يمدح رئيسا او ملكا بحياته قط، بل على العكس كان يجيد التلميح ضد السلطات وقد عانى بسبب ذلك، فاين تلك القيم التي سادت في بداية السبعينات في مدينة عراقية جنوبية صغيرة، قصية ومهملة، من القاهرة الان والتي هي عاصمة الادب والثقافة العربية الحاضرة طوال قرون ؟ هل نحن امام مشهد دال ٍ على اغتراب الجنازات كأصحابها؟
أهذه جنازة نازك الملائكة ؟
حسبكم وجنازة مطربة او ممثلة من الدرجة العاشرة لها هيبة اكبر.. لا سخرية بالفن انما حسرة على الأدب..
هل هذا يعكس جهل شعوبنا أم خوفهم وانتظارهم القرار من الحكومات ؟ ولماذا لم تكن هناك جنازة معد لها بما يناسب الراحلة المبدعة نازك ؟
ونظل نلوك باسئلتنا بلوعة غير المصدق:
لو ان نازك الملائكة كانت قد كتبت قصيدة امتدحت بها رئيسا او ملكا عربيا و قدمت القصيدة بصوت فنانة أو فنان واصبحت ُتردد باستمرار كنشيد وطني كما حصل لبعض الشعراء، الا يتقدم الرئيس او نائبه الحشود امام جنازة مهيبة تسير وراءها الالاف ؟
أين الاهتمام بالادب والثقافة وهذه نازك الملائكة التي هزت الأدب العربي لتتوارى عن الانظار قبل رحيلها بسنين طويلة زهدا بما يحصل من فوضى سياسية ومهرجانات وحفلات وضجيج ثقافي هنا وهناك من عواصم الدول العربية والذي لا يخدم سوى القادة والدعاية لهذه الشخصية او المؤسسة التجارية او تخدم هذا الحزب او هذه المجموعة وذاك الاتحاد قبل ان يخدم الادب والثقافة الحقة ؟
أهذا موقف يعكس موقف اتحاد الكتاب العرب من اتحاد الكتاب العراقيين ياترى ؟ رغم ان نازك لم تكن عمودا من اعمدة الادب العراقي فحسب انما كانت عمودا من اعمدة الادب العربي الذي بدأ بالأفول ليسيّس ويحل محله ادب القصور والرؤساء والمحسوبيات غالبا..
الم يكن موقفا حضاريا اليوم لو أُعد لجنازة نازك بشكل مهيب كإمرأة رائدة، خاصة وان اليوم ذكرى رحيل الفنانة الكبيرة سعاد حسني، وليكن يوما تتذكر به العرب صدق المبدعات الحقيقيات وليحتفى بالراحلتين معا ليس نعيا لأديبة وفنانة متميزتين ، انما تأكيدا لمكانة الصدق والنزاهة في العطاء الجميل للمرأة المبدعة بهدف الابداع الانساني الناصع لاغير؟
اليوم ماتت الملائكة، ونعيناها على بعد، فكلنا مشاريع جنازات مهجورة وباردة لا هيبة لها سوى هيبة الصمت..
E-mail: balkis8@gmail.com