كتَّاب إيلاف

إلى أمير المؤمنين خالد مشعل

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

إلى أمير المؤمنين خالد مشعل
ووالي غزة اسماعيل هنية


-1-
شاء حظنا - نحن أبناء هذا الجيل - أن نشهد قيام الخلافة الإسلامية من جديد من دمشق - حاضرة الأمويين سابقاً والعلويين راهناً - بقيادة أمير المؤمنين خالد مشعل، بعد مرور خمسة قرون على سقوط الخلافة العباسية (1517-2007) وثلاثة وثمانين عاماً على سقوط الخلافة العثمانية (1924-2007).
لو سألنا أنفسنا يا أمير المؤمنين، لماذا سقطت الخلافة الإسلامية العثمانية التي ورثت الخلافة العباسية، لوجدنا أن الذي أسقطها ليس كمال أتاتورك، كما أن الذي أسقط الإمبراطورية السوفياتية ليست أمريكا وليس الرئيس ريغان، ولكنها الحتمية التاريخية. وهي ذاتها الحتمية التي وجبت على الأمويين قيام الدولة المدنية بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وإسقاط دولة الراشدين التي كان يتزعمها علي بن أبي طالب والتي انتهى دورها التاريخي بموجب نظرية الحتمية التاريخية المعروفة، رغم إصرار بعض المسلمين على ضرورة استمرارها بنفس النهج والمنهاج السابق. وهو ما كان ليتم في ظروف تغير كثير من المعادلات السياسية والدينية والاجتماعية في ذلك الوقت. كذلك، ولسبب نفسه، فقد سقطت الخلافة العباسية في بغداد عام 1517 عندما فتح سليم الأول الغازي العثماني بلاد الشام، وأتبعها بمصر.

-2-
وأنا لا أريد أن أدخل معك - يا أمير المؤمنين - في متاهات الفلسفة والدراسات السياسية/الاقتصادية لمعنى الحتمية التاريخية، فالمقام لا يحتمل، ومنبرنا هذا ليس للنخبة، ولكنه للعامة، وعلينا أن لا نُعقّد الحديث. فلكل مقام مقال.
الحتمية التاريخية، التي نتحدث عنها اليوم - يا أمير المؤمنين - هي - بكل بساطة - التي تُخضع الأمم والمجتمعات الإنسانية لدورة حياتية معينة. ولقد بعثكم الله اليوم لتحققوا هذه الدورة الحياتية الجديدة للعرب والمسلمين، وتقيموا الدولة الدينية المنشودة، التي ظلت مجرد كلام وآمال وأحلام في طيات الكتب، وفي حناجر وقلوب خطباء المساجد، وزعماء الأحزاب الدينية السياسية، وأصحاب الدعوة الصحويّة، والفقهاء، والمرشدين العامين للإخوان المسلمين، منذ 1928 وحتى الآن. واليوم في غزة تتحقق دولة الخلافة الإسلامية التي نفى واستبعد قيامها الشيخ علي عبد الرازق عام 1926 في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وما كان ذلك علماً بالتاريخ، بقدر ما كان كيداً وتعطيلاً وحجرة عثرة في طريق تنصيب الملك فؤاد، ملك مصر، خليفة للمسلمين برغبة شديدة من رجال الأزهر في ذلك الوقت. فإقامة الدولة الدينية سهل وميسور. وها أنتم - ما شاء الله وتبارك - قد أقمتموها بغزة في غمضة عين بالأمس، وفعلتم ما فعله أجدادكم من بناة الدولة الأموية، عندما استباحوا المدينة المنورة لمدة ثلاث أيام. وفعلتم ما فعله بُناة الدولة العباسية، عندما نبشوا قبور الأمويين، وذرّوا رفاتهم في الهواء. وجمع الخليفة المنصور كبار الأمويين الباقين أحياءً، وذبحهم، ثم فرشهم على الأرض، ووضع (مفرشاً) فوقهم، ثم أمر بوضع طعام العشاء فوقهم. وجلس يتعشى مع ضيوفه على مائدة جثث الأمويين. ولو كان لديه عمارات شاهقة في بغداد، كما لديكم أنتم في غزة، لألقى بالأمويين من معارضيه من الأدوار العليا، وتخلّص منهم، كما فعلتم أنتم مع طباخ محمود عباس المسكين (محمد السويركي)، الذي ألقيتموه من الطابق الثامن عشر، فوقع جثة هامدة. ولو عرف العباسيون السحل، لسحلوا معارضيهم الأمويين بدل أن ينبشوا قبورهم وينثروا رفاتها في الهواء، كما سحلتم أنتم معارضيكم من "فتح"، وكما فعلتم أنتم بجثة سميح المدهون خاصة. وكان الإسلام بريء من كل ذلك. ولكن هي تلك طبيعة وخصائص الدولة الدينية في الشرق والغرب على السواء، كما يقول لنا التاريخ.

-3-
يا أمير المؤمنين: إن إقامتكم للدولة الدينية الأولى، بعد مضي 83 عاماً على سقوط الخلافة العثمانية في استانبول قد أثلج صدور الجميع، وكانت استجابة للحتمية التاريخية، في ظل فراغ العدالة والاستقامة والحرية والديمقراطية في العالم العربي وفي فلسطين خاصة. وكانت دولتكم الدينية العتيدة استجابة للحتمية التاريخية كذلك، بعد أن جربنا الدولة القومية في مصر وسوريا والعراق وغيرها، وبعد أن جربنا أنواع الحكم الأخرى من ملكية، وجمهورية، وجملكية (جمهورية وراثية). وقد كان لأنواع الحكم هذه، أثر كبير وعامل أساسي في إقامة دولة الخلافة الغزّاويّة العتيدة.
فالجناح الديني - وهو الأغلبية - في الشارع العربي، فرح فرحاً غامراً حيث تحققت آماله في إقامة دولة دينية صرفة على طريقة الخلافة العثمانية، التي قاطعت الغرب والحضارة والسياسة الغربية، وفرضت على العالم العربي قطيعة ثقافية وحضارية، ووضعته ضمن ما أُطلقُ عليه "الستار الحديدي العثماني". أو على طريقة حكم المماليك في مصر والشام الذي جاء محمد علي باشا، وهدمه وبنى مصر الجديدة على أنقاضه، بعد حشر المماليك في القلعة وأبادهم هناك في مذبحة رهيبة عام 1811 وهذا الباشا يُعتبر زعيم الحداثة العربية وباني أول مداميكها القوية التي اقتلعها الإخوان المسلمون في القرن الماضي، والذين يحكمون مصر الآن حقيقةً، من وراء ستار الدين، ومن خلال الشارع والمسجد والنقابة والنشرات والكتيبات وحجاب الفنانات والمُنقبات، وليس من خلال رئاسة الجمهورية التي أصبحت (مَنْظَرَة) فقط. فالإخوان المسلمون هم أصحاب القرار الحقيقيون في مصر، وليست الدولة القائمة.
والجناح العَلْماني في الشارع العربي، فرح هو الآخر فرحاً كبيراً، وقد تحققت لديه مقولة هيجل: "لكي نتجاوز مرحلة تاريخية ما، لا بُدَّ من ممارستها" وقال كذلك: "لكي نعرف ما بداخل حبة الجوز علينا أن نكسرها". وقد كان العَلْمانيون على أحر من الجمر، لكي يمارس تيار الإسلام السياسي الحكم في يوم ما، حتى يتم كسر حبة الجوز ومعرفة ما بداخلها، ولكي نجتاز مرحلة الإسلام السياسي إلى مرحلة العَلْمانية السياسية التوحيدية، وفصل الدين عن الدولة، وإبقاء الدين هناك في مكانه العلوي المقدس، بعيداً عن نجاسة السياسة وأوساخها. ولقد شهدنا في السنوات الماضية كم نال هذا الدين الحنيف من أوضار وأقذار، نتيجة خلط أوراق الدين بأوراق السياسة، والسماء بالأرض، والروحي بالمادي، والثابت بالمتحول. وها نحن الآن - يا أمير المؤمنين - قد عرفنا - من خلال الخلافة الغزّاويّة - ما هي حقيقة الدولة الدينية في القرن الحادي والعشرين، وفي مطلع الألفية الثالثة، بعد أن أصبحت الدولة الدينية نسياً منسيّاً، ومرحلة ماضية من مراحل التاريخ السياسي البشري. ولكنكم بدهائكم، وبالمراوغة المشهورة عنكم، وبالكيد، والحقد، والخفاء والتجلّي، واستغلال بلاهة وجهل الشارع الفلسطيني في غزة، وجوعه، وعريه، وحرمانه، وبطالته، وفلتان أمن مجتمعه، وفقدانه الأمل بالإصلاح السياسي والمالي، استطعتم إقامة دولة الخلافة الغزّاوية العتيدة.

-4-
كان قيام دولة الخلافة الغزّاويّة العتيدة تحصيل حاصل، ونتيجة متوقعة. فمنذ عام 1988 وبقيادة الراحل الشيخ أحمد ياسين، وانتم تعملون من أجل تحقيق هذا الهدف السامي. ولقد ساعدكم الظرف الإقليمي والظرف الفلسطيني خاصة. وكان لا مهرب من قيام دولة الخلافة الغزّاويّة، في ظل هذا الفراغ الإقليمي والفلسطيني. وفي ظل هذا الفساد السياسي والمالي والأخلاقي والاجتماعي العارم. وقد كانت ldquo;حماسrdquo; مهددة طيلة هذه السنوات بالانقراض والاندثار، تارة من قبل إسرائيل، وتارة من قبل الأنظمة العربية العَلْمانية المزيفة، وتارة أخرى من قبل الأنظمة العربية المحافظة. ولكن وجود إيران هناك، ووجود سوريا في محنتها بعد خروجها من لبنان ذلك الخروج الأندلسي المُذل، ومحاولة منظمة التحرير الفلسطينية استيعاب ldquo;حماسrdquo;، بل ابتلاعها على وجه الدقة، أثار في ldquo;حماسrdquo; ما أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بعد 11 سبتمبر 2001 بـ "الحصانة الذاتية". فبدأت ldquo;حماسrdquo; بتحصين ذاتها والانتباه للخطر المحدق بها. وما فعلته ldquo;حماسrdquo; في غزة من جرائم "بشعة" في مرآة العالم، و"مبررة" في رأيكم - كما أعلنتم ذلك أعزكم الله من دمشق - في الأيام الماضية هو جزء من ممارسات "الحصانة الذاتية". فهي الداء والدواء. الدواء الكفيل بتحصين "الذات الحمساوية"، والداء الذي ترمي به ldquo;حماسrdquo; عدوها الآخر، والمعارض لقيام الدولة الدينية، التي بدأت تتشكل الآن في غزة، وستمتد إلى الضفة الغربية كما بشّرنا الناطق باسمكم سامي أبو زهري، والتي ما كان لها أن تقوم إلا بمثل هذا العنف والشراسة. فتلك هي طبيعة قيام الدول الدينية والخلافة الإسلامية منذ عهد الأمويين حتى اليوم. كذلك كان عليه الحال في الدول الدينية الأوروبية في القرون الوسطى وحتى القرن السابع عشر، عندما كان الملك يحكم بالحق الإلهي المطلق، ويعتبر نفسه ظل الله على الأرض، فلا قانون يُلزمه، ولا دستور يُلجمه.

-6-
لقد أدركتكم العناية الإلهية. والله وحده هو الذي قدّر وفعل لكم في غزة ما انتم فيه الآن. فكما قال القسيس الفرنسي رينولد ينبور، فإن الله هو الذي يتحكم بالتاريخ العالمي عبر مراسيم ربانية. وإقامة دولة الخلافة الغزّاويّة لم تكن بمرسوم من سوريا أو إيران، ولكنها كانت بمرسوم رباني في اللوح المحفوظ منذ الأزل. وكانت كما قلنا حتمية من حتميات التاريخ.
ولكن، ما بالكم تستجيبون لحتمية وتنكرون أخرى، وهي أن الوضع العالمي عامة ومسار التاريخ البشري، يُرغم كل ذي عقل وبصيرة أن يسير باتجاه العالم، لا أن يسير عكس اتجاه هذا العالم، رغم أن هذا العالم كله على خطأ، وانتم وحدكم (مع سوريا وإيران) على صواب. ولكن كما أننا مرغمون على قبول الغرب على علاته فأنتم أيضاً كذلك. فلا أنتم، ولا سوريا، ولا إيران، قادرون على مقاومة العالم، ومنطقه السياسي المعروف. وكان يجب عليكم أن تكونوا واقعيين مع أنفسكم، ومع شركائكم في الوطن، ومع شركائكم في القضية الفلسطينية، ومع العالم الذي أصبحت قضية فلسطين بين يديه، وليست بين أيدينا، أو بين يدي ldquo;حماسrdquo;، أو أي فصيل ديني سياسي فلسطيني آخر، كما نتوهّم.

-7-
يا أمير المؤمنين:
أظن - وأرجو أن أكون مخطئاً - بأن ليس كل ما يتمناه المرء يمكن أن يصلُح لهذا العالم، وانتم لا تعيشون في غزة في كوكب آخر مفصول عن هذا العالم. أنتم من ضمن هذا العالم بقوانينه وأخلاقه وقيمه. لم يعد العالم عالمين أو ثلاثة عوالم كما كان في العصور الماضية، بحيث تنفرد كل أمة بجزء منه، دون مسؤوليتها عن الأجزاء الأخرى. الكرة الأرضية اختُزلت، والعالم أصبح قرية كونية، والصوت والصورة يشاهدان في كل زاوية من هذا العالم. وأصبحت الوازرةُ تزرُ الأخرى. ومن يُحدث خرقاً في المركب الدولي، يمكن أن يُغرق البشرية كلها، وليس أهله فقط.
فهل كان ذلك كله في حساباتكم، أم أخذتكم الحماسة العربية الدينية السلفية (حماسة الهيجاء)، وصرفتكم عن كل تفكير وتدبير؟
أظن أن الدولة الدينية الغزّاويّة لا حياة طويلة لها. فجيرانها من مصريين وإسرائيليين وفلسطينيين يرفضونها رفضاً تاماً. وليس من هؤلاء من يسمح باقامة دولة دينية على حدوده، كما صرحوا. وأظن أن الدولة الدينية الغزّاويّة هي طيش تعصب، وحلم ليلة صيف، ونتاج خيال، وكيد كائدين، وحقد حاقدين. وعسى أن تدركوا ذلك مبكرين، قبل أن يغرق ما تبقى من حطام السفينة الفلسطينية التي أنهكها الإبحار نحو شطآن العالم، طيلة أكثر من نصف قرن مضى، ولم تجد بعد شاطئاً آمنا ترسو فيه.
السلام عليكم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف