الجندي العريف وخريج كلية الطب الاسكتلندية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يهود العراق: ذكريات وشجون (20)
لم أشفق على الجندي النائب عريف "أبو الشخطين" للهبشة التي أكلها من الضابط المتقاعد أبو منير بسبب تحرشه بخادمتنا "نعيمة"، بل أقول الحق، إننا شعرنا بالتشفي وقلنا "سلمت يده". كانت أمي قد أرسلتني قبل أسبوع بـ"صِخـْغـَة" (أي السُـخرة، وهي القيام بعمل لوجه الله، فقد كان سكان العراق ومصر، يؤخذون للعمل عنوة وبدون مقابل أيام الفيضانات لتحصين السدود وإقامة المتاريس بأكياس رملية لحماية المدن من مياه الفيضانات. ومن هنا جاء المثل العراقي عن الرجل الذي لا يراعي حرمة النسب ويأخذ كل من صادفه للسُخرة، بقولهم: "هذا خالك عمك سوكه!)، لأشتري لنا "شردانات، وباجة وأذانات وغجول مل غنم" من سوق حنوني لعمل "كعدة" (وليمة عائلية). كان علي أن أمرّ من جامع مرجان على شارع الرشيد، مخترقا سوق الشورجة ومنها الى سوق حنوني. سرت في سوق الشورجة متمتعا بروائحه التي لا أزال أحن إلى استنشاقها وأفتش عنها في كل مكان، في كل بزار عربي. فتشت عنها في القدس والناصرة وعكا، ثم في القاهرة وخاصة في خان الخليلي وفي مدينتي فاس قرب جامع "الفنا" وفي مراكش وفي مدينة عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية التي تفاخر بمبانيها الحديثة من الصخور المتنوعة الألوان، فلم أجد ما يشابه عطور وروائح سوق الشورجة التي ما زالت النفس تحن إليها حنين سيدنا يعقوب إلى رائحة قميص يوسف التي ردت إليه بصره، هناك فقط كنت أشعر بأني في نعيم أحضان وطني، فيغمغم وجداني بوجد صوفي مسكر:"وطني وريحة أمي بيك"، وفي هذه الأيام العصيبة أسائل نفسي الأن، "لماذا يذبحونك اليوم وكل يوم يا مسقط رأسي يا عراق، باسم الرحمن الرحيم؟".
وسوق الشورجة هذا، هو من الأسواق التي تهودت كما تهود الفلك أيام الخلفاء الفاطميين وحذر منه الشاعر المصري الرضي بن البواب أهل مصر حينما تولى أبو سعد التستري اليهودي في خلافة المستنصر بالله أعلى المناصب في الدولة الفاطمية. فما أن يُسمع أذان المغرب في يوم الجمعة حتى تغلق جميع الدكاكين الأبواب والكبنكات في جميع أسواق بغداد، وبعد الأذان نردد نحن الصغار ملحين على أمهاتنا بالإسراع في إشعال قناديل يوم السبت منشدين: "ساغ وقت الشعلة أشعلوا، أشعلوا" (دنت ساعة إشعال قناديل و"قرايات" ليلة السبت، فاشعلوها"، إيذانا بقدوم السبت الذي هو "في رقبة اليهودي". فتتدثر بغداد بشال الصلاة الذي يرتديه اليهود في صلوات صباح يوم السبت، وتتعطل التجارة في بغداد وتغلق البنوك والشركات التجارية أبوابها وتشعر بقدسية هذا اليوم، قدسية تعطر أجواء بغداد ولا ينتهك حرمته أحد ولا تجد من يدخن السكاير في محلاتهم. هكذا تعارف العراقيون منذ العصر العثماني الذي اشتهر بسماحة الإسلام حين كان الصيارفة ومعظم التجار في العراق من اليهود، وكان الكثير من أعضاء غرفة تجارة بغداد والسكرتارية ومحرري مجلة غرفة تجارة بغداد من اليهود وهما المرحومان مير بصري ثم تلاه يعقوب بلبول، إلى آخر يوم من عام 1950.
وعندما جاء المفتي ومعه درويش المقدادي مؤسس الفتوة في العراق والذي قلده هتلر في برلين وسام الصليب المعقوف والشاعر برهان الدين العبوشي وغيرهما ممن آواهم العراق وأكرمهم وعينهم في مناصب التعليم العالي منافسين الأساتذة الشيعة وليعززوا العراق بمثقفين من السنـّة، حذر هؤلاء الضيوف الكرام، من تهوّد الفلك في العراق، فحرضوا الشعب العراقي ضد اليهود إذ هالهم أن يروا كيف "يخضع المسلمون في العراق ويقفلون محلاتهم في يوم السبت خوفا من سطوة اليهود العراقيين، هذا الرتل الخامس للصهاينة، الذي يعيث في العراق فسادا!!!" ونشر العبوشي قصائده الطنانة في جرائد بغداد ومن دار الإذاعة العراقية ثم في ديوانه "جبل النار" والتي يقول في إحداها محرضا ضد تجار اليهود مهولا الأمر ومناديا بالويل والثبور:
قد زرت بغداد يوم السبت فارتعدت فرائصي ورأيت الخبث والفـنـدا
رأيـتـــه فـي حـوانـيـت مـعـطـلــة قـد شـمـّر الشـرّ ساقيه بها وعـدا
تـكــاد تـفـتــك فـي دار السـلام إذا تـبـاطأ العُـربُ فـي إغلاقها أبـدا
فأيقظوا الفتنة التي كانت نائمة وشاركوا في حركة رشيد عالي مفاخرين ببطولاتهم وكيف أن آخر جيب للمقاومة ألقى سلاحه في هذه المعمعة المشرفة هو الجيب الفلسطيني الباسل.
وهناك في سوق الشورجة قرب حانوت عطار رأيت "لمة" والمارة تنظر بإعجاب إلى فتاة شقراء ممشوقة القوام متعلقة بذراع شاب عراقي وسيم مرتديا "قاط" انكليزي فاخر وقميصا ناصع البياض و"باينباغ" أحمر قان بلون المنديل المتدلي من الجيب العلوي الأيسر لسترته وهو يتبادل الترحاب مع العطار وأصدقائه. وبصعوبة سمعت بعض الكلمات التي كان يقولها للعطار: "دكتور... كلية الطب... أدنبره.. زميلة.. خطيبة...". وفجأة وصل إلى المكان جندي عراقي برتبة عريف مع أصدقائه وهو يتشوق إلى إظهار "مراجله" أمام أصدقائه الذين رافقوه معجبين بتعليقاته ومسباته على كل شـيء لا يعجبه. توقف عند "اللمة" التي جمعتها الشقراء وصديقها العراقي. علت على شاربي العريف بسـمة ساخرة، ثم فتل شاربه بزهو وقال لأصدقائه، "شوفو شوفو هاي العرموطة الحلوة الشقرا، فدوه على هاطول، نتراهن! هسا أروح أدعجها واكلبها عليه واطير النشعة من راسـه!" قال له أصدقاؤه مازحين "ها! اشو يالله دنشوفك!" وقف العريف العركاوي وراء الفتاة ونظر إلى جمالها الرائع وفجأة دفعها بكتفه الأيمن في ثديها الأيسر دفعة ظالمة طوحتها على صديقها وكادا يسقطان، وارتسمت على وجه الفتاة علامات الامتعاض والمرارة للمفاجأة المؤلمة غير المتوقعة، والتفت صديقها ليرى من طوحها على صدره بدفعة قاسية كافرة. أفلتت من شـفتي الفتاة كلمة "سوري سير، سوري سير!" همس العريف لأصدقائه الذين كتموا ضحكاتهم الساخرة الشامتة وقال لهم بحسد واستخفاف: "أي "سوري، يا بنت الصوطري، فدوه على هل شفايف، الكواد صاير دكتور وجايبله انكليزية بنت صوطري!" فهم الطبيب الشاب بأن أمامه جندي تأكل قلبه الغيرة والحسد لنجاحه ولجمال صديقته، فتحامل على نفسه وكظم غيظه احتسابا، ولم يرد على هذا العدوان السافر خوفا من أن يزيد الطين بلة وحفاظا على شرف العراقيين المثقفين. غضب العطار وقد تساقطت حبات الهيل التي قربها من أنف الحسناء وصاح بالعريف وأصحابه: "ولكم هاي شـنو هل تعدي على الناس؟ مو عيب مو خزي؟ تبهدلونا قدام الأجانب، ما بقى عندكم حيا! يا أدب سزيية، تتعدون على الحرمه وعلى الأفندي الدكتور!!" أشفقت على صاحبنا الطبيب الناشئ وعلى خطيبته الشابة الرقيقة التي كان تعرّفها على أخلاق الرعاع من بين شباب الشعب العراقي بهذه الطريقة العنيفة غير المشرفة.
وفي عام 1990 كنت أستاذا زائرا في جامعة ادنبره بدعوة من الدكتور فيليب سادجروف الذي عكفنا سوية على انجاز بحثنا عن "مشاركة اليهود في النشاط المسرحي في البلاد العربية في القرن التاسع عشر" بعد أن اكتشف مخطوطة نادرة لأول مسرحية طبعت باللغة العربية بقلم أبراهام دانينوس الجزائري، واكتشفت 5 مسرحيات لأنطون شحيبر المدرس في المدرسة الإسرائيلية (تفئرت يسرائيل) في بيروت بإدارة زاكي كوهين، أنقذها من براثن الضياع صديقي مئير أبو العافية، (أكسفورد- مانشستر 1996). وقد هاجمني بعض "النقاد" العرب دون أن يقرءوا الكتاب قائلين بأني أشيد بريادة اليهود للمسرح العربي. كنت آنئذ في المرحلة الأخيرة لإعداد بحثي للطبع عن "المسرح العربي البشري عند العرب في القرون الوسطى" (طبعته جامعة أدينبره وجامعة نيويورك، 1992). حدثني الأستاذ سادجروف عن الأيادي البيضاء التي أسدتها جامعة أدينبره للعراق بتأسيسها كلية الطب في بغداد عام 1927 برئاسة عميدها الدكتور سندرسن باشا الذي كان يرافق الأمير عبد الإله في حله وترحاله للعناية به تاركا فقراء العراق لعناية بعض الأطباء اليهود والعرب مثل الدكتور داود كباي في بغداد والدكتور فؤاد شابي في البصرة من الذين كانوا يتطوعون بيوم واحد في الأسبوع لمعالجة الفقراء مجانا بوازع من حبهم للعراق ورحمة بهم واعترافا بفضل كلية الطب العراقية عليهم. وعند ذلك فقط فهمت ما العلاقة بين الطب والعراق وأدينبره والدكتور العراقي المتفوق في دراسة الطب وخطيبته الاسكتلندية ومجازات العريف العراقي لها بـ"ـالدعجة" الظالمة في سوق الشورجة وصدام حسين. أرسلت حكومة البعث العراقية باسم الرئيس صدام حسين رسالة إلى عميد الجامعة تخبره بان سيادة الرئيس قرر، اعترافا بفضل جامعة أدينبره على العراق بتأسيسها كلية الطب في بغداد بإدارة العميد الدكتور سندرسن، بالتبرع بمبلغ مليون باون إسترليني لكرسي الطب في الجامعة، بشرطين، الأول سـري وهام جدا، وهو أن لا تستخدم إدارة الكلية أي محاضر أو موظف يهودي، والثاني، أن يطلق على هذا الكرسي الجامعي اسم "كرسي البعث". ووجه المفارقة هنا أنه لا يوجد في اللغة الانكليزية حرف "العين" وهو من حروف اللغات السامية المميزة وخاصة في العراق، وهكذا أصبح اسم الكرسي باللغة الانكليزية "باث جير" (Bath Chair) ومعناه بلغتهم "كرسي ذي العجلات الخاص باستحمام المرضى المقعدين"، مما أثار ضحك وسخرية الطلاب والمستخدمين.
bull;كتبت هذه المذكرات لتنشر في "إيلاف". الأسماء التي وردت فيها هي أسماء حقيقية.
bull;جميع الحقوق محفوظة لكاتب هذه المذكرات ولا يسمح بنقلها بأية صورة كانت سوي باتفاقية خاصة وبترخيص خطي من المؤلف. أ. د. شموئيل موريه.