أصحاب الرسالات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"أسوأ الأكاذيب تلك التي نصدقها"، لا أذكر قائل هذه العبارة، لكنها تحضرني كلما رأيت مصرياً بالتحديد وعربياً بصفة عامة، يتحدث في ندوة عامة أو مؤتمر أو عبر شاشات الفضائيات، عن الرسالة التي يحملها على كاهله .
وبغض النظر عن ثقافة هذا المواطن أو مهنته أو ثقافته، لكن قاسماً مشتركاً يجمعهم، وهو الحديث المثالي الزائف عن "الينبغيات"، بمعنى ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، فالمدرس يسهب ويطنب في الحديث عن رسالته الخالدة، والموظف يقفز على أسوار الوطنية ليعلن أنها ملك خالص له، يمنحها لمن يشاء وينتزعها عمن يشاء، ولا يفوته التأكيد على أن وظيفته ـ صغرت أو عظمت ـ هي رسالة نبيلة، ورجل الدين بالطبع صاحب رسالة سامية، "تلي مباشرة رسالات الأنبياء"، وفق الشائع من أدبيات فقهاء آخر الزمان، وحتى العامل في المصنع يتحدث بلغة الرسل الذين لا ينطقون عن الهوى، خاصة حين يتعلق الأمر بمهنته، فالميكانيكي ـ مثلاً ـ يعرف أدق تفاصيل السيارة أكثر من صنّاعها، وسائق التاكسي يعرف أسرار الكون، ويعظ في الدين والسياسة، أما حضرات الزملاء الصحفيين فجميعهم "جيمسات"، جمع "جيمس بوند" المخبر البوليسي الشهير، فهم مطلعون على أدق الأسرار السياسية، ويقفون على تفاصيل اجتماعات بوش ومساعديه، وما يجري خلف أسوار "قصر الرئاسة" من حكايات وترتيبات، وباختصار تشعر حين تستمع لصحفي مصري أنك أمام مخلوق فوق العادة، "يُوحي إليه"، وهو بالطبعً صاحب رسالة، إذ يمسك بتلابيب صناعة الرأي العام، وبوسعه أن يقلب الحكومات ويشكلها، بينما يمكن لمخبر في قسم "الشرابية" أن يجر المسكين ويلقي به في غياهب الجب "حتى يظهر له صاحب"، وحينها ستطلقه وزارة الداخلية، بعد أن تؤكد في بيان لها أنها لا تتستر على أية تجاوزات، من شأنها أن تمس الرسالة السامية لجهاز الأمن.
وفي المستشفيات الحكومية يمكن للمرء أن يصادف عشرات الآلاف من أصحاب الرسالات، الذين يتعاملون مع المواطن بصفته "جرثومة"، يجب تجنبها، فالطبيب في المستشفى الحكومي يتحدث مع المرضى الفقراء باستعلاء كأنه "نصف إله"، والممرضة صاحبة الرسالة أيضاً، في حالة تأفف مزمنة، وفي أروقة التلفزيون المصري يتعثر المرء في آلاف من أصحاب وصاحبات الرسالة الإعلامية، وحتى في أروقة المحاكم فحدث ولا حرج عما يمكن للمصري الغلبان "من غير أصحاب الرسالات" أن يلاقيه لو اضطرته الظروف للجوء إلى المحاكم شاكياً أو متهماً.
ولا يختلف الأمر كثيراً في أروقة أحزاب المعارضة، التي ترفع لافتات تشبه "بقالة الأمانة"، لصاحبها المعارض الشريف الذي لم يمد يده إلا إلى صدام حسين والأخ القذافي وحزب الله ووكلاء الوهابية، فضلاً عن الفطاحل الذين تؤهلهم قدراتهم لإقناع الاتحاد الأوروبي والكونجرس، فكلُ ميسر لما خلق له .
طيب .. إذا كان كل أبناء الشعب المصري من أصحاب الرسالات، فلماذا حالنا هو الأسوأ؟، ولماذا أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية على هذا المستوى من الانحطاط والتدهور؟، ولماذا انهار التعليم والطب والصحافة والثقافة وكل شئ، والأخطر: لما يكره بعضنا بعضاً لدرجة أننا لا نستطيع حتى مجرد الحوار معاً، فقد رفعت كل "شلة" في هذا البلد علمها الخاص، وراحت تعزف نشيدها الوطني، وتصدر أحكاماً قطعية بالتكفير والتخوين والفساد والاستبداد، بينما تنزلق البلاد والعباد إلى حافة الهاوية بسرعة البرق.
باختصار، ودون حذلقة ولت وعجن، فإن الوطن ـ أي وطن ـ ليس بحاجة إلى كل هذا العدد من أصحاب الرسالات، بل لعله لا يحتملهم، وغاية ما ينشده هو المواطن العادي الصالح، الذي يؤدي واجبه بضمير يقظ، دون أن يجعل ذلك رهنا بالرشوة أو أوامر رؤسائه، وحينها سيصبح هذا المواطن صاحب رسالة فعلاً
Nabil@elaph.com