تهافت نظرية الفوضى الخلاقة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
منذ فترة ليست قصيرة، وكلمة "الفوضى الخلاقة" تأخذ أرقامها القياسية من حيث التكرار، لقد تلذذ الإعلام طويلاً وهو يكرر هذه الجملة "الفوضى الخلاّقة" ووجد في هذا اللفظ إيقاعاً يتسق مع إرادة الصخب اللفظي الذي تزخر به لغتنا العربية، لم تعد التحليلات صعبة، فجملة "الفوضى الخلاقة" بددت صلابة السؤال. تحوّلت تلك الجملة إلى يافطة تختفي تحتها كل الأحداث الكبيرة، وأصبحت حتى الأنظمة الاستبدادية تقمع شعبها وتعزو-بكل استغلال- طغيانها إلى "أمريكا" التي تحاول زرع "الفوضى الخلاقة" هذه الجملة أصابتني بالصداع من كثرة ماسمعتها من المحللين السياسيين، والكائنات الفضائية.
وبغضّ النظر عن مشروع "الفوضى الخلاقة" فما يهمني هنا، هو الاستخدام لهذه المفردة، ففي صحيفة "تشرين" السورية وحينما اغتيل قبل أسابيع النائب اللبناني وليد عيدو، ذكرت الصحيفة أن اغتياله يندرج في مخطط أمريكي يقوم على "رزع الفوضى الخلاقة" في المنطقة! كأننا في أوج الانتظام والتفاهم كأننا لم نكن فوضويين على مدى عقود، كأن الفوضى العقيمة لم تكن موجودة قبل أن توجد أمريكا نفسها، وكأن الأنظمة العربية العسكرية بريئة من الاغتيالات والنسف والسجن وبقر البطون! اكتشفت هذه الصحيفة أن "الفوضى الخلاقة" وراء كل اغتيال، ووراء كل عملية نسف أو تفجير، وأن الفوضى الخلاقة هي التي تزرع الألغام وتفخخ السيارات وتتاجر بالسلاح الأبيض. باختصار: الأنظمة الاستبدادية العسكرية تروّج بشكل هستيري لهذه النظرية من أجل تغطية مشروعاتها الاستبدادية الدموية، وتستخدم هذه النظرية من أجل ذرّ الرماد في عيون المحللين، وكم أنقذت هذه الجملة التي نُفخت نفخاً كل الجماعات الإرهابية، والأنظمة الاستبدادية من أجل الاستمرار في مشروعات الاستبداد وقذف كل العمليات الإجرامية إلى ظهر "الفوضى الخلاقة" تلك النظرية "الإسعاف" التي تحوّلت إلى عربة لغوية تحمل معها كل جرائم الأنظمة وملحقاتها.
لقد كانت "إسرائيل" -في فترة ماضية-هي الجملة التي استهلكتها بعض الأنظمة لتمرير اغتيالاتها السياسية، وكانت هي الجملة التي وقعت تحت ضغط الأسنان وتنقّلت بين الأفواه كأكثر كلمة تكرر على الأفواه، وفعلاً وقع الكثيرون تحت نشوة هذا العداء، إلا أن الذي نغفل عنه أن ثمة أنظمة عسكرية تدبّر اغتيالات أكثر إجراماً وأعتى وطأة وتجيّر تلك الاغتيالات وبسهولة عبر افتتاحية في صحيفة تصف الحدث بأنه "مؤامرة كونية من إسرائيل"، ولا يفعل بعض المحللين سوى أن يهزّ رأسه وهو واقع تحت نشوة "الاستهداف" وهي نشوة وشهوة، أن تكون مستهدفاً وأن تعتقد أن العالم كله يخطط ضدك، وبكل أسف يثق البعض بأن تلك الأنظمة بريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولم يعلم أن إسرائيل ليست مجرد دولة، بل تمددت لغوياً لتصبح نظام اغتيالات كبير تقوم عليه أنظمة استبدادية شمولية عسكرية تمارس القهر الوجودي وتحارب كافة الأفعال الحياتية والتعبيرية.
أما اليوم فقد انظمّ إلى كلمة إسرائيل كلمة "أمريكا"، صحيح أن أمريكا ليست جمعية خيرية ولكنها دولة لها مصالحها،ولها تشعّباتها الطغيانية، إلا أن ما يهمني هنا هو رصد "الاستخدام" البشع الذي تمارسه الأنظمة القمعية، أما جرائم إسرائيل وأمريكا فشبعنا من الحديث عنها. إن مما يمكن كشفه، أن كلمة "أمريكا" استخدمت أيضاً لغرض تغطية الجرائم المحلية ولتمرير إرادة الاغتيال التي اشتهرت بها تلك الأنظمة العتيقة والعقيمة. فلننصت إلى الدوران اللغوي الذي تمارسه بعض الصحف المسكونة بالاستبواق ولنسمع ذلك الصدى الخداج ونشمّ رائحة الكذب.
يعيش الشرق الأوسط حالةً من التذبذب والفوضى قديمة، لكنها كانت ولا تزال فوضى تراجعية عقيمة، والتاريخ السياسي العربي عموده الفقري "الفوضى السياسية" التي لم تهدأ حتى الآن، وهذا ليس سراً خطيراً، ولكنه موجود في كتب تاريخنا المرصوفة على مكاتبنا، من "تاريخ الطبري" وإلى "البداية والنهاية"، فهو تاريخ متخم بالفوضى، وكل تلك الفوضى على مدى ذلك التاريخ لم تلد إلا الفوضى الأعنف، صحيح أن بعض الفوضى أنتجت "سلماً" وأنتجت "علماً" كما هو الحال في أوريا، التي عشات حرب المائة عام، وعاشت تحت أنباء بقر البطون والأمعاء قبل عصر الأنوار، وعاشت حرباً عالمية أولى ثم ثانية، واستطاعت أن تتحرر من أكثر تواريخ البشر دموية على الإطلاق، واستطاعت أن تخلق مجتمعاً وبشراً يؤمنون بالسلم والعلم والحياة، إلا أن تاريخنا العربي مرّ بعكس ذلك الطور، فهو على مدى الحروب المتكررة يبتعد دوماً عن التعافي. ولم تثمر أي فوضى في تاريخنا عن "خلق جديد".
إن الاستمرار في طرح جملة "الفوضى الخلاقة" لايدل إلا على وجود إرادات استبدادية تعيش حالة من الانتشاء وعلى مدى أعوام مضت فرحت سكراً وطرباً بهذه الجملة -"الفوضى الخلاقة"- التي منحتْها فرصة استغلال جديدة، لممارسة طغيان آمن يجيّر مباشرةً إلى دول أخرى، وقد وجدت فيها تلك الأنظمة ذريعة حيّة لإخفاء جرائمها الكبيرة، وهي حيلة سياسية ولعبة لغوية بائسة أردت الإسهام في كشفها عبر تلك المحاور.
shoqiran@gmail.com