حرّاس المخيلة الإسلامية!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يقف المرء عاجزاً أمام الصورة المشوّشة لماهية البحث في سِيَر التاريخ المتعلقة بالشخصيات الاسلامية مهما حاول التزام الحياد والعقلانية. ذلك لتأثير الصراع السياسي ومصالح الحكّام على مناهج البحث والتأليف والتدوين, وكأنّ هذا التشويش والتهميش وصفات الإلغاء والإتهام اُريد لها ان تكون من نتائج هذا الخلط المقصود بين السياسي والفقهي والتاريخي منذ عصر الخلفاء حتى الان. فالمخيلة السياسية - صاحبة النفوذ - هي التي قادت في صراعها مع الآخر المغاير منذ أواخر القرن الثالث للهجرة مركزية فكرية ثقافية مبنيّة على التبرير والتمييز والانغلاق على الذات, وإضفاء هالة القدسية والرفعة والسمو لنفسها في نهجها هذا مقابل محق النقد الحقيقي وتهميش الآخر ونعته بالمغالاة والدونية والزندقة.
ولانها صاحبة القرار والمال العام, شرّعت لأوّل سلطة مركزية فكرية وذلك بتبنّيها نهج البخاري ومسلم, وأعتبرت ما جاء بصحيحهما هو الحقّ كله - خصوصاً مارواه البخاري - واعتبرت ايّ محاولة لمناقشته او نقده او تصحيحه باطلة ومحرّمة, وكانّه الوجه الآخر لمركزيتها السياسية لاغير, لكنها هذه المرّة عبر عقيدة جموع المسلمين التي دوّن البخاري كل تفاصيلها. وبذا ايضاً يتاكد تحريم النقد بقرارٍ سياسي, لانه يكشف العيوب والتناقضات في الفكر الرسمي, لا بل اصبحت تلك المركزية الفكرية اخطر واعظم من سلطة الحاكم, ليقينهم بأن الافكار هي التي تبني الهوية الثقافية للذات وتؤسس لنمطيّة المجتمع الفكرية الجمعية. فمثلاً يكفي ان تسمع اليوم - وبحكم التكرار - عبر مئات الاعوام الجملة الفعليّة التالية: ( هذا مارواه البخاري ) أو ( مارواه البخاري ومسلم ), كي تفهم بعدها ان عليك التسليم او الصمت او عدم الشك, لا بل عليك الاقتناع التام وان لا تجادل بعدهما بشئ اطلاقاً.
هذا المفهوم السلفي المتصخّر الذي لا يقبل الحوار ولا الجدل او النقد جعل الاجيال اللآحقة أسيرة هذه المركزية الصارمة من المفاهيم الرافضة لأيّ متغيّرٍ ممكن او محتمل في التاريخ, قديمه وحديثه, وفرضت مساراً احادياً من الفكر والتربية في هذا المنهج لا يقبل التنوّع ولا الاختلاف في الرأي, فكيف بالمعارضة الفكرية؟
هذه المخيلة التي صاغت ثقافتنا على مقاييسها الدينية والقبلية والسياسية لم تترك ايّ مساحةٍ ممكنةٍ لمشاركة الاخر - المختلف. وان هذا التوجّس متأتٍ من عدم تقبّلها لمجرد فكرة إحداث تغيير في البنية الثقافية للمجتمع الاسلامي, لانّ ذلك يهدّد كيانها وسلطتها اولاً, ولذا فإن كل الدعوات التجديدية هي إلحادية وتخريبية وباطلة, وان اصحابها أعداء وزنادقة.
هذه المخيلة السلطوية وظّفت في فهمها للتاريخ تفاسير البخاري ومسلم لتكون حارساً وسلطاناً للقيم الفكرية والروحية والثقافية, و لتشكّل بها الوعي الجمعي لعامة الناس, ويصبح النهج التكفيري سمةً يوصم بها المغاير المختلف أو الناقد, إن كان في سياق أحداث التاريخ القديمة او الآن او في المستقبل المنظور المحتمل على مايبدو. فاصبحت تلك التفاسير والشروح توازي في قدسيّتها النص الاسلامي الاصلي او قد تساويه وتمتزج به وبسلطته أيضاً.
هذه الصورة المتعالية المغلقة في ممارسة نفوذها على حاضرنا يشير الى انها قد أستمدّت ذلك النفوذ من تصورها المسبق الحازم عن الماضي عبر نهجها الخاص, وان خطورة هذه المركزية تكمن - كما اثبتت الوقائع - في القراءآت اللآحقة لنقاط الخلاف والتوتّر والتبرير والتكفير المنتشرة في أسانيد ذلك التراث الفكري. فما أسّس له البخاري ومسلم مثلاً, بنى عليه ابن تيمية الحرّاني وابن عبد الوهاب وغيرهم, وهكذا تأصّلت الثقافة الانعزالية التكفيرية في فهمنا للآخر وللمحيط وللمتغيرات.
مذاهب ومدارس واتهامات:
اُلصقت صفتي المغالاة والتطرّف بكل فرق الشيعة بما فيهم الاثني عشرية التي يقال انها اكثر انتشاراً وشيوعاً واعتدالاً. وقد ارتبط اسمهم بجعفر الصادق - واضع اسس الفقه الاسلامي - قبل ظهور المذاهب الاربعة الى العلن, وصار يطلق على أنصار عليّ واهل بيته بالجعفرية, فقد حفظ تراثهم ووضع أصول التفسيرحتى ارتبط اسم التشيّع والشيعة به.
عاصر الصادق اكثر المراحل حساسيةً وخطورةً لانها المرحلة التي نشطت فيها حركة الترجمة والتدوين وتاثيرات الحضارات المجاورة, كما عاصر انتقال السلطة من الامويين الى العباسيين.
وفي كتابه ( الامام جعفر الصادق ) يشير الدكتور زهير غزّاوي ايضاً الى ان 82% من الاحاديث النبوية الواردة في كتب الحديث قد رويت عن طريق الصادق, سواء ما ورد منها في أصول الشيعة او في صحاح السنّة - رغم تجاهل أخذها عنه او نسبتها اليه - لاسبابٍ باتت معروفة سياسياً. فالصادق الذي أسّس أوّل وأكبر مدرسة فقهية في المدينة المنورة اتُهم من قبل بعض فقهاء السلطة السلفية من القدماء والمحدثين بالمغالاة واتهموه بتهمةٍ اخرى - هي في الواقع امتيازاً له - بانّه اعتمد على الكتب في نقل وتدوين الحديث, وهي تهمة افضل من الاعتماد على النقل الشفهي والعنعنة ( عن فلان عن فلان الخ ) كما حدث ويحدث حتى الان.
كان معلوماً بان الإمامين مالك وأبا حنيفة اتصلا بالصادق وأخذا عنه, وان الشافعي وابن حنبل تتلمذا على يدي مالك وأبي حنيفة, لكنهم كافةً و برغبةٍ من السلطة والظروف الشائكة التي احاطت بنشوء المذاهب الاسلامية ابتعدوا عن المدرسة الجعفرية, ورفضوا اعتبار - الإمامية - ركناً خامساً في الاسلام كما هو عند الشيعة, واختلفوا حول مصداقية ما نُقل عن الرسول من احاديث.
اردنا القول ان هذه المرحلة هي انشط المراحل الفكرية وتوضّحت فيها معالم المؤسسة الاسلامية وبرزت المذاهب الاربعة وانتشر تدوين الحديث.
يقول الشيعة ان منهجي البخاري ومسلم انتهجا خطّاً سياسياً ممالئاً للسلطة, فابعدوا من كتبهم كل ما يمسّ شخصية الحكّام والخلفاء بعد وفاة الرسول, وأضعفوا أيّة روايةٍ تتعلّق بابن ابي طالب وشيعته من آل البيت. بينما يعتبر السنّة صحيحي البخاري ومسلم أصحّ الكتب وأتقنها بعد القرآن حتى أنزلوا صحيح البخاري منزلة العصمة ورفضوا نقده او الطعن فيه.
البخاري ومسلم جاءا بعد مرحلة التدوين في عصر الصادق وتميّز مدرسة المدينة المنورة الفقهية على يديه, لكنهما لم يأخذا عنه مباشرةً ولم يوردا اسمه, رغم نبوغه ونشاطه في تدوين الاحاديث وأصول الفقه الاسلامي في منتصف القرن الثاني للهجرة. بينما نجد البخاري يروي عن الخوارج مثلاً من امثال عمران بن حطّان واخرين!
وفي ذات المسعى التخيلي السلطوي يُعتمد كتاب الطبري من بين كل كتب التاريخ - لانتقائه منهجاً مشابهاً للبخاري - ويُسمّى إمام المؤرّخين. ويتبنّى سيرته فيما بعد ابن كثير وابن الاثير وسواهم, واعتُبرت مثل هذه الكتب مراجع لايجوز الخوض في صحّتها.
بمثل هذه الاعتراضات يسرد الكاتب المعاصر - صالح الورداني - أسئلته في كتابه ( نظرة تاريخية في عقائد السنّة والشيعة ) * ويرى ان الشيعة تحتكم الى النص القرآني في حسمها لاشكاليةٍ ما ( اي ان لا اجتهاد في حال توّفر النص ) بينما يحتكم اهل السنة الى الامور السمعية في الحسم حتى وان كانت مناقضة للنص, حيث يعتبرون ما ثبت صحته شفاهةً يجب الاخذ به واعتماده. ومن هنا نشأ الخلاف برؤية كل منهما الى الرسول ك - مبلّغ - والى الرسالة - القرآن - كعقيدة.
العقيدة التي اُقتيدت بجملة من التفاسير المقصودة لتكون مقياساً واساساً لمفاهيم الحق والعدل والايمان والتوحيد, وكأنّ من بينها مهاجمة الآخر المختلف حتى وإن كان من آل بيت الرسول, وكي يُعمّم ذلك دسّوا الاحاديث الملغومة الخطيرة التي تخدم هذه الاغراض حتى جاء من يستثمر هذا النهج شخص مثل ابن تيمية الحرّاني, ليعمّق الهوّة بين المسلمين ويستخدم مفردات - المغالاةو الزندقة - لتكميم الافواه واجهاظ الاجتهادات الفكرية وسحق الانتفاضات والحركات الشعبية.وكما أطلقت السلطة على صحيح البخاري صفة الحق المطلق والعصمة, وعلى الطبري شيخ المؤرخين, اطلقت على ابن تيمية الحرّاني اسم شيخ الاسلام والمسلمين.. وهكذا.
ان هذا الطموح السياسي الفكري جعل منهج الحاكم جزءاً من صلب منهج العقيدة, فابتدعوا الأحاديث على لسان الرسول لتأكيد عقيدتهم, وكان من أخطرها على الاطلاق حديث (.. ستفترق أمّتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة, فرقة في الجنّة, والباقون في النار ). لما يحتويه هذا ضمناً من دعوةٍ صريحةٍ للتكفير والفرقة بين المسلمين, علماً ان واضعيه كانوا يقصدون انفسهم فقط بمقولة - الفرقة الناجية -, ولكن كل الفرقاء الاخرين استخدموه في تكفير الفرق الاخرى. هذا بالاضافة الى حديثٍ اخر يدخل الخلفاء في صلب الايمان بالعقيدة, وليكون المخالف زنديقاً وضالاً ومبتدعاً, وهو حديث ( عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ). ومع ذلك أهملوا سيرة عليّ من بين الخلفاء ! وفي الزيادة ايضاً وضعوا بعض خلفاء بني اميّة والعبّاس ضمن الأئمة الاثني عشر الذين بشّر بهم الرسول, وبرّروا ذلك ايضاً باحاديث اخرى!
واعتبروا كلّ من يمسّ الصحابة او الخلفاء هو - رافضي - بقصد الاساءة للشيعة, معتمدين على ماجاء به ابن حنبل بقوله: سألت أبي: من الرافضي؟ قال: الذي يشتم رجلاً من اصحاب الرسول او يتعرّض لهم..... ومن هذا السؤال عُمم هذا الموقف الشتائمي المتعالي الرافض للحوار. ثمّ يفسّر - ابن باز - لاحقاً حديث الفرقة الناجية على انهم - السلفيون - فقط ومن يسير على نهجهم. فاصبح الخلط جلياً بين العقيدة الاسلامية والوضعية التي صاغها ابن تيمية باسم الواسطية, ليقول بالصفات الشخصية لله, وبانّه يجلس على العرش ويهبط كل ليلة الى الارض, وبان الرسول يخطئ وينسى وينشغل بالنساء.. الخ, لتكون رسالة الحكّام والخلفاء وفقهاؤهم هي العقيدة المتداولة بين العامة, وكذلك لتسهل قيادتهم بتبرير الانحرافات بأحاديث تتعلّق بوجوب طاعة أولي الامر من الحكّام.هذه العقيدة الحكومية يسّرت لابن تيمية في فتاويه الكبرى كيل الثناء لمعاوية وابنه يزيد, لاغلاق الطريق امام من يودّ مناقشة اشكاليات تلك المرحلة من تاريخ المسلمين.
* ملاحظة غير هامّة: صالح الورداني, والدكتور زهير غزّاوي.. ممّن ورد الاستشهاد بما كتبوه هم من أهل السنّة.