كتَّاب إيلاف

وزير ثقافة وجريمة قتل!

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

بالطبع لا يسعني القول أن وزير الثقافة العراقي قتل ولدي النائب مثال الآلوسي، أو حرض على قتلهم، فالمتهم برئ حتى تثبت إدانته، ولكن حين تنسب تهمة لشخص ما، اعتاد الناس على القول : لا دخان بلا نار! ورغم أن هذا القول يعني أن عقول الناس قد مضت في طريق إثبات التهمة لا نفيها، لكنه صار مقبولاً في بلداننا حيث تطغى القسوة والشر والانتهاكات الكثيرة، وتضعف أو تتراجع نصرة الحق والعدل إلى حد كبير، لذا فأن الأخذ بمقولة لا دخان بلا نار لا يعتبر انحيازاً للعقاب على حساب البراءة، بقدر ما يعني أمنية في "إحقاق الحق وإزهاق الباطل" ! ولكن ماذا يمكن أن نقول في حالة أن المتهم وزير ثقافة وليس فلاحاً أمياً فقيراً أو حتى تاجراً كبير اً أو مثقفاً بلا مسؤوليات؟
هنا يجد العقل نفسه في محنة كبيرة، فحتى حالة لا دخان بلا نار وهي أبسط درجات الشك تجعلنا أمام فجيعة مروعة!
فهنا نحن أمام مجتمع وصل إلى حد فظيع من التردي والتفسخ، ودولة تنحدر إلى حضيض مخز من الشذوذ والانحراف!
فرغم إن الناس قد اعتادوا في العراق وغيره من بلاد العرب والمسلمين على ربط أسماء وزراء بجرائم الاختلاسات والسرقات والرشوة وقضايا الفساد الأخرى، واسمي وزيري الداخلية والدفاع بجرائم القمع والقتل، إلا أن من غير المعتاد ربط وزير ثقافة بجريمة قتل أو حتى بجرائم عادية كبيرة. أتذكر مرة في العهد العارفي أنهم اتهموا وزير الثقافة أو الإعلام ( كانت الثقافة والإعلام واحدة) وكان الرجل وزيراً للوحدة العربية أيضاً بعلاقة مع راقصة، قالوا يومها إنهم دخلوا عليه في دار الإذاعة ووجدوا الراقصة في حضنه، وقد وجد من يتضامن معه بطرافته فقال ( هذه حسنة لا سيئة، فلعل الراقصة تجعل الثقافة، والوحدة العربية ترقصان، ألا ترون أنهما ثقيلتا دم ؟ ) نعم هكذا قضايا خفيفة أو مرحة كانت تمر كالسحب التي مرت بسماء بلادنا. zwj;zwj;ولكن أن يرتبط اسم وزير الثقافة بجريمة قتل شابين بريئين فتلك هي إحدى فظائع حياتنا. لا أريد أن أقف عند الانتقادات التي قالت إن إثارة هذه القضية من قبل الحكومة في هذه الفترة بالذات مرتبطة بصراعها الحاد مع القوى والتكتلات السياسية تحت هاجسها من الانقلاب عليها، فهذه قضية أخرىzwj;. ويبقى فحوى الموضوع ذاته!zwj;
كما سأرجئ كلامي عن قضية الشهيدين ولدي مثال حتى تتكشف تفاصيلها وملابساتها ويقول فيها القضاء كلمته ونأمل أن تكون عادلة لا تخضع ولا تتأثر بأية قوة خارجه. zwj;zwj;
لكني سأقف عند جريمة قتل كبيرة ارتكبها وزير الثقافة ومن تواطأ معه وتحت أنظار وسمع الكثيرين، وقلة أشاروا بأصابعهم وقالوا انظروا أنها جريمة قتل. ولكن كل شيء خنق وكبت تحت غطاء من الصمت والتدليس والخبث والمراوغةzwj;.
جريمة قتل أستطيع أن أشير إليها بضمير واثق وأشير إلى مرتكبيها وأطالب بسوقهم للعدالة. zwj;
نعم لقد قتل كائن حي هام وخطير وجميل لا يقل جمالاً عن الشابين الجميلين الذين قتلا ظلماً وعدواناً.
كائن رائع ذبح ومثلوا بجسده وأكلوا لحمه، وباعوا واشتروا فيه وهم يضحكون ويمرحون ويصخبون بشعاراتهم وأكاذيبهم. zwj;
نعم (ودعك من التذكير والتأنيث) لقد قتلوا ذلك الكائن الرائع العريق الأصيل وهو الثقافة العراقية.
لقد ذبحوها وما تزال تذبح كل يوم، وقتلتها معروفون : وزير الثقافة ومن تواطأ معه.
فحين يوضع شاب غر، إمام مسجد، ثقافته ضحلة ووهابية سلفية أكثر من متخلفة وزيراً للثقافة، لا يعني ذلك أقل من ذبحها. إنه تماماً مثل تكليف حلاق بأجراء عمليات جراحية كبرى في دكانه، أو السماح لامرأة جاهلة أن تكون قابلة تولد النساء حيث لا يعني ذلك سوى قتل الناس وقتل الأم ووليدهاzwj;zwj;.
وحيث إن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، والحياة هي القيمة العظمية الموازية له ولا يجوز الاستهانة بها أو انتهاكها أو حتى خدشها، فإن الثقافة هي الخلاصة المعنوية والروحية لكل هذه العلاقات المتشابكة المعقدة الحساسة والمتحركة ما بين الإنسان والحياة، وتدميرها أو تخريبها يعني تخريباً للإنسان وللحياة معاً، لذا فإن منتجيها ورعاتها وحراسها ومغذيها يلعبون الدور الحاسم في حقيقتها إن كانت سلبية أم إيجابية، سيئة أم خيرة، مع الحياة والجمال والعدل أو ضدهم، مع الإنسان أم عليه، مع حركة التاريخ الصاعدة، أم مع حركة التاريخ النازلة، مع الرقي أم مع الانحطاط، هذا ناهيك عن الوضع الداخلي للثقافة وعملية تطورها ككائن حي جميل عظيم. وحين يكون إمام مسجد أو شرطي على رأس الثقافة في العراق، وحين يعينون له وكيلاً أو موازناً من الطائفة الأخرى كل همه أن يخرج المواكب الحسينية من ديوان الوزارة، لا يسعك إلا أن تسأل ماذا يراد لثقافتنا ؟ هل أحالوها إلى شاة تذبح مع الأضاحي في العيد السعيد. ماذا يراد للإنسان عندنا؟ هل يريدونه مكمماً بخرق من قماش شعاراتهم لا يسمع ولا يرى سوى عمائمهم ووجوههم الكالحة في التلفزيون وهم يتعاركون على مناصبهم ورواتبهم وسفراتهم، وحصصهم في الحكومة والدولة والبرلمان ؟
في دول العالم المتحضرة لا يسندون وزارات الثقافة أو مجالسها إلا لشخصيات لها امتداد كبير ومنجز هام في الحياة الثقافية، وإذا لم يتسن ذلك، فيسند بمجلس من المستشارين المتميزين في مجال الإبداع والفكر. في فرنسا وفي عهد ديغول كان إندريه مولرو وزيراً للثقافة. ومولروا روائي كبير، وناقد كبير، وخبير فن وحضارات. حتى قيل يومها لا تكتمل ثقافة مبدع ما لم يقرأ مولرو، وفي مصر كان طه حسين وزيراً للتربية والتعليم ( كانت مختلطة مع الثقافة ) وطه حسين صاحب كتاب الأيام، وفي الشعر الجاهلي، ودعاء الكروان، أكبر من أن يعرف، وفي العراق في فترة مبكرة بعد انقلاب تموز 58 كان فيصل السامر وزيراً للإعلام ( مدمجة بقضايا الثقافة ) وهو مؤرخ كبير، كتابه( ثورة الزنج) من أروع الكتب العراقية، وهو مثقف كبير، وإنسان يقطر طيبة وحكمة. واليوم بعد خمسين عاماً نصل إلى هذا الحال، zwj;zwj;فأية نكبة!
نعم نحن إذاً أمام جريمة قتل كبرى للثقافة. ولكن الموضوعية تقتضي أن نسأل هل إن وزير الثقافة إمام المسجد الوهابي، هو وحده من يذبح الثقافة ويوزع لحمها من أجل راحة قبور الموتى كل يوم ؟ لا بالتأكيد ! إن ملف الدعوى يقتضي أن يحال فيه المتهمون التالية أسماؤهم أوعناوينهم :
كتلة التوافق التي رشحته.
كتلة رئيس الوزراء التي قبلته عبر صفقة محاصصة قبل فيها الطرف الأخر وزير العمل والشئون الاجتماعية الذي اجترح معجزة ملجأ الحنان المشرفة. zwj;
رئيس البرلمان وأعضاؤه الذين رفعوا أيديهم النظيفة في التصويت له وزيراzwj;. وأخيراً، وهنا مربط الفرس: الإدارة الأمريكية.
فهي قد وعدتنا نحن العراقيين بثقافة جديدة حرة تغير أوضاع العراق والشرق الأوسط، فافتتحت وجودها بأخطاء وخطايا من بين كوارثها نهب وسرقة المتاحف والمكتبات، ومضت به حتى الآن إلى رجال دين طائفيين محاصصين يكرهون الثقافة والعلم، يحشرون الناس قبل القيامة بحياة الآخرة ويحتكرون لأنفسهم الحياة الدنيا.
لقد حاولت كوكبة من المثقفين والمثقفات، اللامعين المخلصين في مجلس إعادة إعمار العراق منذ الأيام الأولى لقيام العهد الجديد أن يعملوا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من متاحف ومكتبات العراق وجوانب الثقافة الأخرى وحققوا منجزات طيبة كثيرة، فاستعادوا الكثير من المسروقات، وأعادوا بناء الكثير من المهدم والمحروق، ووضعوا مشاريع تطور جذرية للمستقبل المتوسط والبعيد. لكن لم يلبث كل ذلك أن قطع وأسلم الأمر كله للساسة الذين استلموا الحكومة ومرافق الدولة على الأسس الطائفية والقومية بعيداً عن الكفاءة والنزاهة! zwj;
يحلوا للمسؤولين الأمريكيين أن يبدأوا أحاديثهم عن العراق بالقول آ إنه مهد الحضارات، ومنشأ الثقافة الإنسانية، لكن هذا لم يعد ينطلي على أحد. فمن الواضح انهم ينظرون باستهانة واستخفاف للثقافة العراقية والثقافة الشرقية عموماzwj;. إنهم ( والقضية الإستشراقية معقدة طبعا )لا يكترثون إذا توقف نموها أو محقت تماماً. فالعولمة الموجهة بشكل متعسف قادرة على التعويض، وقوانين السوق بارعة في إحلال سلعة محل سلعة أخرى. لا ينبغي أن نبقي الإرهاب شماعة نعلق عليها كل مصائب وعيوب الوضع القائم، فهو ليس سوى طرف في المعادلة، حيث إن الثقافة العتيقة البالية والوضع السياسي والاقتصادي السيئين كلها تنتج الإرهابzwj;، مثلما الإرهاب ينتجها أيضاً. كيف لا يتصاعد الإرهاب ويستفحل إذا تحول أحد دعاته باسم المقاومة من منبر في جامع متعصب متطرف إلى منبر وزارة الثقافة ؟
وهاهي الثقافة تنزف دمها في الشوارع والساحات وعلى منصات الأروقة الأدبية والفنية، مئات من الأدباء والصحفيين والكتاب والفنانين والشعراء قتلوا أو احترقت أجسادهم ودفنوا على عجل. آخرهم الشاعر الشجاع رحيم المالكي الذي ذهب مع كوكبة من شعراء الجنوب الشعبيين الرائعين ليلقوا قصائدهم في الأنبار في تحد بطولي للإرهابzwj; والطائفية. فأضافة إلى فقداننا لهم أرواحاً ووجوهاً جميلة عذبة غالية، فقدناهم طاقات هائلة كبيرة لا يمكن تعويضها أبدا. هؤلاء هم جسد الثقافة العراقية وروحها التي تذبح في الوطن، وتمزق في المنافي.
بالطبع هذا لا يعني أن وزير الثقافة يخرج من مكتبه كل يوم حاملاً سكاكينه ليذبحهم، لكنه بالتأكيد بوضعه الفكري والثقافي والنفسي يصنع نهج وزارته وبرنامج عملها ويقدم مساهمة كبيرة في وضع يقتل الثقافة والمثقفين كل يوم، وكل ساعة.
سيظل مثال الآلوسي يلاحق قتلة ولديه أو كما قال بشجاعة ( سألاحق قتلة جميع شباب العراق، ضحايا الإرهاب فهم بغلاوة أولادي) ولكن من سيتابع قتلة الثقافة العراقية ويطالب بإحالتهم للعدالة الإنسانية ومعاقبتهم على قدر جريمتهم الهائلة المفزعة ؟ من؟ المثقفون في الداخل يقتلون أو يهددون من قبل الإرهابيين وميليشيات وفرق الموت، والذين تناهبتهم المنافي يعانون من التمزق والفرقة واستنزاف بعضهم بعضاً بالتشكيك وتبادل الاتهامات والتجريح ويتحولون شيئاً فشيئاً إلى امتدادات لصراعات الداخل، ومن تبقى من رموزهم الكبيرة يتخطفهم المرض والموت، ويتهاوون ولا يحظون من العراق الذي وهبوه ذوب قلوبهم ولو ببقعة صغيرة تضم رفاتهم! سيفلت قتلة الثقافة العراقية من العقاب، وستغلق الدعوى وتسجل كالعادة ضد مجهول. ولا يجدي أسف ولا نواح!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف