الاختيار بين الفساد والتطرف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في أعقاب أحداث ١١ سبتمبر، وبعده احتلال العراق فى عام ٣٠٠٢، ومع تلاطم المنطقة بأمواج المتغيرات والخطط العلنية والأجندات السرية، بأبعادها الداخلية والخارجية، وتصاعد درجات النقاش المحلى والدولى حول أوضاع دول المنطقة، ومصير استقرارها ومستقبل أنظمتها تجسدت فى مناخات التفاعل السياسى الذى بلغ أحيانا حد الصراع مجموعة من الثنائيات التى حاولت أن تختصر فى ذهن الرأى العام، المعادلات المعقدة على أنها اختيار بين أمرين لا ثالث لهما وهو ما تكرر كثيرا فى مختلف الملفات على الرغم من تنوع الملابسات في هذا السياق، وعلى سبيل المثال يمكن رصد عدد من تلك الثنائيات منها معسكر الشر الذى افترض وجود معسكر الخير الإرهاب والديمقراطية الدول المارقة والدول الملتزمة الإرهاب والمقاومة فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان الاحتلال أو الديكتاتورية الموالاة والمعارضة الدولة المدنية والدولة الدينية ثم الثنائية التى نهتم بها هنا وهى الفساد أو التطرف.
ثنائيات عراقية
وكما هو ملحوظ فإن عديدا من تلك الثنائيات هى نتاج عقلية الإعلام الأمريكى والحروب النفسية السياسية، التى تعمدت إحداث هذا التصنيف الاستقطابى بقصد العصف بالعقول وإبقائها مرتبكة مهتزة لا تقوى على الحسم بين خيارين أحلاهما مر فى ظل ثقافة "الاتجاه المعاكس" والمتناقضات التليفزيونية التى دفعت الرأى العام إلى توتر محبط فى نهاية الأمر إن عددا من تلك الثنائيات قد يكون مفهوما، وله مبرراته الواقعية، مثل الاختيار بين الدولة المدنية والدولة الدينية أو بين الدولة المستقلة والدولة التابعة أو بين القرار الوطنى والقرار الخارجى أو بين الإرهاب والمقاومة لكن غالبية الثنائيات الأخرى كانت غير منطقية واجتزائية ولا تقوم على أساس كأن يتم تقسيم العالم إلى معسكر خير ومعسكر شر حسب نظرة صاحب التصنيف هذا فى عرف ذاك خير والعكس صحيح. ولعل أخطر ثنائية طرحت على العقلية العربية خلال السنوات الأربع الماضية هى تلك التى جسدتها أزمة العراق حين طلب من المواطن العربى أن يفاضل بين ديكتاتورية صدام حسين وبين الاحتلال الأمريكى ووصل الارتباك والتخبط حد أن بعض الناس تمنى أن تحتل الولايات المتحدة دولا أخرى طامعا فى جنات الأموال والديمقراطية التى سوّقتها الدعاية الأمريكية ثم تبين للجميع حجم الخديعة الكبرى والواقع المر إلى درجة أن هناك من ترحم على أيام صدام حسين وكان ذلك فى حد ذاته قمة التناقض إذ كانت الولايات المتحدة تظن أن مشروعها الديمقراطى سوف يلقى شعبية كبرى بينما تفاعلات الأحداث قادت الناس إلى الشعور بالحنين لأيام نظام باطش وقهرى. وتتفرع من ثنائية العراق الأمريكية، وتنضوى تحتها، مجموعة أخرى من الثنائيات، مثل "الشيعة والسنة"، و"العرب والكرد"، و"العرب والفرس"، لكن الأهم هو أنها فرضت على الواقع السياسى العربى المفاضلة ما بين المشروع الوطنى والمشروع العميل بين السياسى الذى أنتجته تفاعلات بلده والسياسى الذى اختلقته واشنطن ودفعت به إلى وطنه إما فوق أبراج الدبابات أو فوق أسنة التمويل المشبوه والدعم الإعلامى الابتداعى الذى خلق قائمة طويلة من الأسماء الهشة المصنوعة أمريكيا والمطلوب من الرأى العام والأنظمة القبول بها كبدائل وهى حالات متكررة فى كل الدول العربية تقريبا حتى ظننت أننا نعيش "حقبة العملاء" و"زمن الخونة".
البديل الثالث
غير أننى أريد من كل هذا التمهيد، الذى رأيته واجبا، أن أخضع للتحليل هذه المفاضلة التى تروج فى مصر منذ فترة بين "الفساد والتطرف" وهى الثنائية التى فرضتها تفاعلات معينة ودعايات متنوعة، ساهمت فيها جماعات التطرف، وتحديدا جماعة الإخوان المحظورة، وكرستها "النخبة المصنوعة أمريكيا" الراغبة فى إقناع الرأى العام بأنه لا يوجد بديل ثالث سواها وبالتالى علينا به أى هذا البديل لكى يستريح الناس إذ كيف يمكن أن يختاروا الفساد وكيف يمكن أن يقبلوا التطرف. من أجل هذه النتيجة وحدها كان لابد أن يطول التمهيد، وتأصيل الظاهرة الثنائية، لكى ننتبه إلى أن هذا الفكر القائم على الاستقطاب هو أمريكى فى منبعه الأصيل ويقوم على خطة محكمة وممتدة تتفاعل يوميا من حولنا. وتحت لافتة الفساد، تنضوى الأنظمة العربية، التى واجهت حملة مستمرة تصنفها فى خانة الفساد من جانبين فى وقت واحد. 1 الولايات المتحدة، التى سارعت بعد أحداث 11 سبتمبر، إلى أن تقول أنها أخطأت حين ساندت أنظمة فاشية فاسدة ضد شعوبها، وأن هذا هو الذى أنتج التخلف ومن ثم الإرهاب فى مجتمعات الشرق الأوسط وهو ما ظلت واشنطن تردده حتى الأربعاء الماضى على لسان الرئيس جورج بوش حين التقى بعدد من قادة الجالية الإسلامية فى الولايات المتحدة وكرر على مسامعهم نفس المفاهيم. 2 جماعات التطرف، التى ظنت أن المجتمعات فى حالة سيولة، واعتبرت أن الحراك هو اهتراء، وأن لحظة قطاف ثمرة السلطة حان أوانها، وصعدت حملاتها الدعائية المضادة لأنظمة الحكم متهمة إياها بالظلم غالبا والفساد دائما ظنا منها أن ذلك إنما يزعزع من مكانة السلطة ويؤثر فى إيمان الرأى العام بشرعيتها فإما سقطت من خلال صندوق يمتلئ بأصوات ناخبين حانقين أو سقطت عبر الفوضى والتأليب المستمر الذى قد يقود فى لحظة ما إلى سقوط مروع وفق السيناريوهات التى آمنت بها تلك الجماعات؟ منابر ومكاسب فى هذا السياق ينبغى أن نسجل ملاحظتين. الأولى هى أنه فى معرض الضغوط الأمريكية على أنظمة الحكم العربية، لكى تقبل بالأجندات الجديدة للمنطقة، كان أن استخدمت ورقة مغازلة جماعات التطرف علنا وتقديمها على أنها بديل يمكنها التوافق معه والقبول به إذا جاء للحكم أو أنها يمكن أيضا أن تدعمه وهى بهذا الأسلوب تحقق مكاسب فى كل الأحوال وفق تصورها فإما رضخت الأنظمة المضغوط عليها لما تريده واشنطن قبولا بالابتزاز وإما انضوت جماعات التطرف تماما تحت الجناح الأمريكى ظنا منها أن ذلك سوف يقودها إلى الحكم وإما لا هذا ولا ذاك وفى لحظة تعلن واشنطن أنها لا تقبل التطرف وترفض الأنظمة الموصومة بالفساد وتطرح على الناس البديل المختلق أمريكياً كامل العمالة. الملاحظة الثانية، هى أن المنابر الإعلامية، الفضائية والصحفية، التى حظيت بدعم أمريكى علنى أو سرى، هى نفسها التى حظيت بمساندة مالية من قبل جماعات التطرف، وبالإجمال فإنها تقوم أى تلك المنابر على ترديد الخطاب الثلاثى للأطراف الثلاثة المشاركين فى هذه اللعبة الكبرى أى أن تروج للدعاية الأمريكية ضد الأنظمة وللدعاية التى ترددها النخبة الأمريكية المختلقة العميلة والتابعة وفى نفس الوقت للدعاية التى تقول بها جماعات التطرف عند نفس الأنظمة والهدف تقريبا واحد. وإذا ما نظرنا إلى كل المطبوعات والقنوات التى يتم تصنيفها تحت هذا البند، فإننا يمكن أن نكتشف هذه الحقيقة ببساطة وهى واضحة جلية فى الواقع المصرى أكثر من غيره أخطاء الأنظمة. فى خضم هذه "المعمعة" ارتكبت الأنظمة أكثر من خطأ أدى إلى نجاح عملية ترويج ثنائية الاختيار بين "الفساد والتطرف". 1 أنها لم تواصل، بوضوح، الرد الدائم والمباشر، على المقولة الأسطورية الأمريكية التى تدعى أن الأنظمة العربية إنما تدين بفضل بقائها لواشنطن التى تعترف الآن فى إطار حملتها الدعائية أنها دعمت أنظمة فاسدة ديكتاتورية ضد شعوبها. فمن جانب تنبع شرعية الأنظمة من شعوبها، ومن آلياتها الدستورية الداخلية، ومن جانب ثان هذا الذى تقوله الولايات المتحدة هو فى حد ذاته إهانة جديدة للشعوب إذ تقول لهم أنتم لا تستطيعون الاختيار وأنا الذى أختار لكم إما من خلال مساندة أنظمة أو من خلال رفع هذه المساندة عنها ومن جانب ثالث فإن الولايات المتحدة لو كانت توقفت عن دعم تلك الأنظمة، وكان هذا الدعم موجودا، لكانت قد سقطت ومن جانب رابع فإن الولايات المتحدة لا تقوى على مساندة نظام هش اصطنعته فى العراق حيث لا يوجد دعم مادى أو معنوى فقط، وإنما الولايات المتحدة بقضها وقضيضها، لا تستطيع أن تفرض الاستقرار هناك ولو ليوم واحد ومن جانب أخير فإن البدائل المطروحة هى فى حد ذاتها مدعومة أمريكيا سواء كانت نخبة عميلة، أو جماعات متطرفة لم تزل تتفاوض على ثمن العمالة. إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تهز نملة، وإلا كانت قد استطاعت أن تسقط عدوها التاريخى فيدل كاسترو، أو عدوها الأشهر شافيز، أو كانت قد حمت سلطة حامد قرضاى فى أفغانستان، أو كانت قد تمكنت من تطويع كيم إيل فى كوريا الشماليةذلك الذى تم الوصول إلى تسوية معه بعد أن توصل إلى إنتاج القنبلة النووية. 2 الخطأ الثانى الذى وقعت فيه هذه الأنظمة، هو أنها لم تنتبه إلى أن أحد أهم أدوات الخطة الأمريكية هى الإعلام وأن الحديد لا يفله إلا الحديد وإلى جانب معادلات السياسة فإن للميديا دورا شديد التأثير وأن الولايات المتحدة احتلت العراق بقوة الجيوش لكنها احتلت عقول المنطقة كلها بحملات إعلامية متواصلة لم تتوقف وكان من الواجب وهو ما لم يفت وقته بعد الرد على الإعلام بالإعلام والإنفاق عليه بصورة سخية ليس لكى تدافع السلطات عن نفسها وإنما عن شعوبها واستقرارها واستقلالها وغنى عن القول وهذه حقيقة معروفة أن أغلب المكاسب التى تحققها جماعات التطرف إنما تعود إلى استثمارات طائلة تنفقها تلك الجماعات على صحف وقنوات وإعلاميين وهى ذات الخطة الأمريكية. 3 أن النخب الحاكمة لم ترد على حملة الاتهامات المتوالية والمستمرة بالفساد وأنها قابلت هذه الحملة إما بالاستخفاف أو بالصمت وهو ما يعتبر فى عرف الرأى العام قبولا بالاتهام وفى الحكمة العامية اختصار بليغ يعرفه الجميع وهو "السكوت علامة الرضا" أو "لا يوجد دخان بدون نار".
آليات المحاسبة
وربما أعرف بعض مبررات عدم الرد على تلك الحملات، ومنها مثلا عدم الرغبة فى خوض اشتباكات لا قيمة لها وبما يؤدى إلى تعطيل جهود التنمية الحقيقية وعدم الرغبة فى خوض غمار العقاب القانونى ضد وسائل الإعلام، وبما يؤدى إلى حبس صحفى أو إغلاق جريدة أو أن يقال أن الرأى العام قادر على أن يفرق بين الغث والسمين ويستطيع أن يفرزه والواقع أن ذلك كله غير صحيح، ومن الواجب، وهو ما لم يفت وقته، كشف كل تلك الصحف ووسائل الإعلام، التى تواصل هذه الحملة دون كلل وبلا توقف منذ سنوات ليس فقط لأن هناك سمعة للناس ينبغى الحفاظ عليها ولا لأن ذلك الرد القانونى أو التصحيحى يحمى حرية الإعلام ويمنعه من أن يحيد عن جادة الصواب ولكن وهذا هو الأهم لأن السكوت يجعل من المتطرفين أطهارا أخيارا وكأنهم معاذ الله ملائكة منزلون. إن التطرف لا يعنى أن صاحبه غير فاسد، والمتاجرون بالدين هم أفسد خلق الله لأنهم ينافقون الله وعباده فى نفس الوقت وعشرات من الوقائع تثبت أن ذمم هؤلاء خربة وأموالهم تغسل سرا وأنهم يأكلون التبرعات سحتاً وأنهم يحللون لأنفسهم بالفتاوى ما حرم الله فضلا عن أن التطرف هو عالم سرى تحت الأرض وكل ما تحتها هو فساد حقيقى وفى علم الأمن، وكواليس الدول، يعرف الجميع أن العمل السرى دائما ما يخرج عن القانون، وأصحابه يعملون مع كل الأخفياء بدءا من تجار المخدرات إلى تجار السلاح والأمثلة عديدة. كل هذا الكشف لأبعاد تلك الثنائية المغلوطة، أى الاختيار بين التطرف والفساد، لا يعنى أن نتجاهل عدة حقائق. 1 أن الفساد، كمرض اجتماعى خطير، لم تبرأ منه أية دولة على وجه الأرض، وبما فى ذلك الولايات المتحدة نفسها، المتهم نائب رئيسها فى أكثر من قضية فساد، يستوجب محاربة مستمرة، وعلنية، وتفعيلا دائما لآليات المحاسبة، وإرساء الشفافية فوق الجميع.
2 أن التفرغ للعمل الوطنى الإيجابى، لا يعنى أبدا الصمت على التطرف بل تجب مواجهته فى كل لحظة حرفا بحرف وفكرة بفكرة واتهاما برد وشائعة بمحاسبة وكشفا دائما لكل الخبايا. 3 أن مسيرة الإصلاح هى الحصانة الأهم ضد التطرف، وضد الخطط الأمريكية، وضد النخبة المختلقة فى معامل واشنطن؟ رئيس تحرير روزاليوسف
Abdullah@rosaonline.net