متى تتخلّص مجتمعاتنا من تقاليدها البالية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
القسم الاول: انحرافات الذات.. اغتراب المجتمعات
نحن ومعاني التقاليد بين الغالي والبالي
منذ ان كّنا على مقاعدنا الدراسية الاولى في الابتدائيات القوية قبل عقود من السنين ونحن نسمع بحالة التضاد بين التقّدم والتأّخر.. وكان المعلمون الاوائل يزرعون في عقولنا ذلك الادراك المتبادل بين النقائض ويؤهلونا لمتغيرات الحياة الاجتماعية في مدارس مدنية.. وفي بيوتنا كان اهلنا يعلمونا تقاليد وعادات مدنية راقية, وكانت سياسات تربوية تنهج تهذيب المجتمع من كل تقاليده السيئة. كّنا نسمع بمصطلح " التقاليد البالية ", بل وان اساتذتنا يعلمونا كيف نتخّلى عنها نهائيا.. انه مصطلح تحّول شيئا فشيئا الى مجرد " مفهوم " من بديهيات الحياة الكريمة التي لا يمكن ابدا ان تتلاقى مع فضلات الماضي الصعبة وبقاياه التي تتصادم مع القيم الحديثة بدءا بالاسس الاجتماعية الحديثة وانتهاء بالتصرفات الفردية العادية حتى وان كنّا لوحدنا في بيوتنا مع خصوصياتنا.. فكيف نتصرف في العلن ونحن وجها لوجه امام كل العالم؟
يرتهن التقّدم دوما بالحداثة, بدءا بحداثة الشكل ومرورا بحداثة المضمون ووصولا الى الحداثة في العلاقات والتصرفات والتفكير والانتاج.. علما بأن ذلك " التقدّم " لا ينفي البتة كل رائع وجميل ومخّلد من الاعراف الانسانية الخيرة في مجتمعاتنا, وحسن علاقاتنا مع بعضنا البعض, وقوة اساليب تعايشاتنا وكل ايجابيات موروثاتنا الرائعة في الجيرة والصحبة والمساعدة والعون والعطف والتآخي والعفة والنخوة والحمية واغاثة الملهوف والشجاعة مع الحياء والكرم وغض الطرف واحترام الكبير والعطف على الصغير وحماية الملل وحسن الكلام وجميل التصرفات ومكارم الاخلاق وكل صفحات العلاقة بالحسنى.. وصولا الى الضمير والاحساس بالخطأ وعدم جرح المشاعر والالتصاق بالوطن.. والانتظام بالحركة الكشفية والاهتمام بالرياضة والفن والمسرح والشعر والادب.. وكيفية الاكل واداب الحديث والكلام والمجالسة ثم العناية بالصحة والاسنان والتفتيش على نظافة الايدي والاظافر.. الخ من العادات المتحضرة .
لقد انحسرت كل هذه العادات والتقاليد المتمدنة اليوم في مجتمعاتنا باختلاط الامور واضمحلال الحياة وانخفاض مستويات المعيشة والفقر والبطالة وقبح السكن وسوء سياسات الحكومات وبلادة الانظمة السياسية بعدم الاهتمام بالانسان والمجتمع.. انني مؤمن ايمانا حقيقيا بأن مجتمعاتنا من الصعب تغييرها اليوم, او احدات اي ثورة في تقاليدها الصعبة نحو الافضل.. فهي تعتقد ان مجرد اخذها بالتغيير, فسيفقدها التغيير اخلاقياتها ويلحقها بالغرب وهي شديدة الكره للغرب! ان " التقاليد البالية " مصطلحا ومفهوما, قد سمعنا به منذ اكثر من خمسين سنة, وقد استخدمه رجالات الفكر العربي الاوائل الذين كان لهم باع في تحديث الافكار والانتقال من القديم الى الحديث. وربما كانت الاجيال السابقة تتقبل هذا " المفهوم " كونها مؤمنة بالتغيير وبناء المستقبل.. ولكن الجيل الجديد لم يعد يتقّبل ابدا مثل هذا المفهوم, كونه يترّبى اليوم على تقاليد بالية, وتقترن الحداثة عنده بالتغريب, وهذا " التفكير " جناية بحد ذاته بحق مصيرنا..
المستنيرون في قفص الاتهام دوما!!
ان النغمة الشائعة التي آذت واقعنا, واضرّت بمصيرنا هي التي تتهّم كل من يريد الاصلاح والتغيير نحو الافضل بتهمة الاعجاب بالغرب والانبهار بتقاليده.. وهي تهمة ساذجة وكافية لسحب البساط من تحت ارجل كل المستنيرين والمفكرين والمصلحين الحقيقيين, وتجعلهم في اعين الناس مجرّدين من اصالتهم, ومن التصاقهم بواقعهم, ومن همومهم ومعاناتهم. وهذا اخطر ما يواجهه التغيير, ومن اسوأ العقبات التي تقف ازاء التغيير. والحقيقة ان مجتمعاتنا بقدر ما لديها من خزين ايجابيات من مكارم الاخلاق.. تزدحم اليوم باسوأ انواع المعاملة والتفكير المغلق والرؤية الضيقة للحياة والاخر.. رفقة حزمة هائلة من التقاليد السلبية البالية التي لا يمكنها ان تستقيم ابدا مع ركائز الحياة المدنية الحديثة..
ان اشرس حملة يتعّرض لها التفكير المدني والنهضوي في مجتمعاتنا من قبل كتّاب محافظين ودعاة تقاليد ورجال دين لا يؤمنون ابدا لا بالاصلاح ولا بالتغيير, بل وانهم يدينون كل المفكرين المستنيرين ويعتبرونهم خطرا على المجتمع , بل ويصنفونهم ذيولا للغرب وعبّادا للحضارة المادية الغربية.. بل استطيع القول ان مجتمعاتنا ـ ويا للاسف الشديد ـ عاشت منذ خمسين سنة على مقولة غبية اشاعها احد الكّتاب المصريين التقليديين تقول بـ " جاهلية القرن العشرين ", في حين كان القرن العشرون حصيلة مثمرة لكل تقدّم الانسان واستكشافاته واختراعاته وابداعاته ونظمه وقوانينه واساليب حياته المعقدة الجديدة بعيدا عن شرور كل الحروب ومآسيها تلك التي صنعتها السياسات والمصالح التي وقفت بالضد منها كل تطلعات الشعوب وطموحاتها في الحرية والسلام والتعايش.
ان " التقاليد " المتوارثة لم تزل تعتز بها الشعوب والمجتمعات قاطبة, ولكنها مجتمعات حيوية ومتجددة نجحت في استئصال كل " البالي " و " الرثّ " منها حتى تلك المجتمعات الاسيوية القديمة.. في حين ان مجتمعاتنا في عموم منطقتنا تغرق يوما بعد آخر في كل " البالي " و " الرث " من العادات والتقاليد السيئة وهي تغوص في بحر من الكراهية والاعجاب بالذات.. وفي ظل انقسامات فاضحة من تقاليد هذا وطقوس ذاك تختلط المقاييس, بحيث غدت بعض التقاليد طقوسا مقدسة لا يمكن الاقتراب منها, ويطالب كل المتزمتين بالدفاع عن كل ادرانها دفاعا مستميتا! فهل من معالجات هادئة لهذا الانحراف التاريخي الذي سيقودنا الى التشرذم في عالم لا يعرف الرحمة؟
خمسون سنة من تشخيص انحرافات المجتمع
يبدو ان كل ما تربينا عليه من افكار واساليب نحن ابناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية لثلاثين سنة وحتى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين, قد تغّير تماما اليوم في جيل ترّبى على اساليب وافكار غاية في التردّي والتعّصب والتخلف والنرجسية والتراجع وعلى مدى الثلاثين سنة المنصرمة.. وها نحن نعيش منتجات هذا الركام البشري الذي صنعته المرحلة السابقة بكل اضطراباتها وموبقاتها وآفاتها وآثامها عندما افتقدت السلوكيات الحضارية, واوغل العقل في بدائيات متوحشة, وانزوت كل القيم الاجتماعية والوطنية بعيدا عن كل الايجابيات بفعل استفحال السلبيات الاجتماعية والسلوكية وبفعل توظيف " الدين " لزرع الكراهية والاحقاد والنفي والاقصاء والتكفير والارهاب وخطف الاخّوة.. الخ من الموبقات
وبفعل الصراعات الايديولوجية وتفاقم السياسات العقيمة, ازداد عامل العزلة المقيتة التي اطبقت على المجتمعات سواء في المدن ام الارياف.. منذ ان حّرم الانفتاح وكّبل المجتمع بالممنوعات والمحّرمات وحوربت كل التقاليد الرائعة وجرى احياء التقاليد البالية التي عاش عليها المجتمع في ازمان مضت, بل واستفحلت العادات السيئة المتوارثة والمولدة بشكل لا يمكن تخيله.. لقد عانت مجتمعاتنا في الماضي من تقاليد سيئة في المدن والريف والبادية.. اذ كان قطاع الطرق يسلبون وينهبون.. وكان الاشقياء والفتوات في المدن من البشاعة بمكان.. وان ختان البنات في مصر والسودان خصوصا هي عملية بشعة لا يمكن ان يتقبلها الضمير الانساني ولم تزل حتى يومنا مكرّسة بتأثير ديني واضح, ولم يزل هناك من يدافع عنها من رجال الازهر! ! ولم تزل ممارسات قميئة تجري بحق مواريث البنات وحرمانهم من حقوقهن.. وهضم حقوق اليتامى من القاصرين.. ناهيكم عن ضرب الاطفال وتربيتهم باساليب قمعية ومحو شخصيتهم وادخال الرعب في قلوبهم منذ صغرهم.. واهانة النساء وضربهن.. والقسوة على الذات باقصى درجات الممنوعات واساليب العزلة..
لقد ازدادت نسبة الطلاقات في مجتمعاتنا نتيجة تفشي المشكلات الاجتماعية التي لا تعد ولا تحصى.. وهناك قتل عمد او رجم فاضح للنساء فقط باسم غسل العار والشرف.. هناك الثارات وقتل الابرياء.. هناك الهروب المتفشي والاحباطات المهولة بشكل لا يصدق نتيجة تناقضات المجتمع وقمع السلطات.. هناك التلاعب على القوانين بشتى الاساليب الماكرة.. والممارسات الشاذة بكل اصنافها.. هناك العلاقات غير النظيفة وهدر المال العام واختلاساته.. هناك كراهية قديمة للدولة بسبب سوء ممارسات الانظمة السياسية لتصبح " الدولة " صورة بشعة.. ولما لم تتطور "الدولة" في منطقتنا أبدا بعدم تطور مؤسساتها التشريعية خصوصا, واستمر الاداء ضعيفا في كل المؤسسات, فلقد ازدادت الرشوة والوساطات والمحسوبيات والمنسوبيات وكثرت السجون واعتبر الخروج عن القانون شجاعة متناهية بدءا بالشقاوات والفتوات وصولا الى انعدام اخلاقيات قيادة السيارات في اغلب مجتمعاتنا.. هناك اتلاف للصجة بسبب كثرة التدخين وانتشار ( الشيشة ) وهناك هدر للزمن في الالاف المؤلفة من المقاهي المنتشرة في كل مجتمعاتنا.. ومؤخرا انتشرت مقاهي الانترنيت ليس لاغراض علمية ونظيفة بقدر ما وجدت لاغراض غير سليمة أبدا! !
كّل يدافع عن نقائضه
ان من يقلب مجتمعاتنا على بطانتها, سيكشف هول الممارسات السيئة الخفية, وسيكتشف المرء كم نسبة الشذوذ؟ وكم نسبة الدعارة؟وكم نسبة المدمنين؟ وكم نسبة المدخنين؟ وكم نسبة البؤس الاجتماعي..؟؟ ناهيكم عن كل ما هو علني في البحث عن المتعة السرية واللهو غير البرئ وكل ما يسيئ للذات اينما كانت في هذا العالم.. ولنسأل:كم هي نسبة الانحرافات نتيجة الكبت والحرمان وبسبب تقييد الحريات الشخصية في مجتمعاتنا بطريقة مناقضة لكل ما يمارس علنا.. ان مشكلات مجتمعاتنا انها تثوي بين النقائض وان الناس يدافعون عن تلك التناقضات لاسباب سايكلوجية معقدة، فالمرأة تدافع عن قمعها والشاب يدافع عن جهله.. والاستاذ الجامعي يدافع عن سكونيته.. ورجل الدين يدافع عن مصالحه.. والسياسي يدافع عن واقعه والاعلامي يدافع عن اكاذيبه ومفبركاته.. ورئيس الدولة يدافع عن قراراته ودكتاتوريته.. وكل الناس تدافع عن ( مثاليات كاذبة ) لا اساس لها من الواقع, وقد بدأت تختفي من حياتنا وكلّ يدافع عن كل المخفي والمنظور..
وماذا بعد؟
لقد غدت مجتمعاتنا يجن جنونها من أي نقد او أي اصلاح او أي تغيير بفعل الربط في المخيال العام بين هذه التقاليد وبين القداسة!واذا ما تجرأ كاتب او مصلح او مفكر ان يمارس دوره وزاد من انتقادات الاوضاع وُصٍِفَ باسوأ التهم, بل واتهم بجلد الذات.. وكأن الذات بريئة كل البراءة! وكأنها ذات حمل وديع في مجتمعات شرسة ونزقة اصبحت لا ترحم ابدا! فلنا ان نتأمّل كيف سيغدو المجتمع اليوم بعد تلك الخلطة العقيمة التي اختلط فيها الحابل من السكان بالنابل منهم تحت مسمّيات شتى, وانتجت كل التفاعلات المتصادمة في المجتمع الذي يعّبر اليوم عن ترسّباته وبقاياه من التقاليد الشقّية بعيدا عن كل الاساليب التجديدية التي يمارسها العالم اليوم.
www.sayyaraljamil.com
انتظروا القسم الثاني بعنوان:
أي مشروع حضاري ينتظرنا؟