التعصب.. مِنْ بغداد إلى القاهرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بغداد.. تَبْدو الحكاية كما لو انها إحدى قصص شكسبير. أثنين من الأحباء سيئيّ الطالع تقابلا ووقعا في الحب ثم تفرقا بسبب ظروف الحياة. وهذه القصة تظهر الآن داخل حدود دولة العراق المعاصر، وليس في عصر النهضة الإيطالية، و الأحباء لا ينهون حياتهم بإرادتهم تحت وطأة الإحباط بسبب فراقهم. في هذه القصة، فتاة صغيرة رجمت حتى الموت بواسطة أعضاء أسرتها لارتكابها خطيئة الوقوع في حب شاب ذا خلفية دينية مختلفة.
دعاء خليل أسود، بنت جميلة سوداء الشّعر تبلغ من العمر 17 عاما، تعيش في بغداد وتنتمي إلى الديانة الكردية اليزيدية، وهي عبارة عن مزيج تم عبر القرون المتتالية بين اليهودية والمسيحية والزرادشتية والإسلام. وقد اُضطهِدوا من قبل العثمانيون بسبب عدم اعتناقهم للإسلام ثم تم تهميشهم بشكل أكبر تحت وطأة حكم صدام حسين السني. اليزيديين يدافعون بضراوة عن إيمانهم وناسهم و يعارضون بعنف الزواج خارج دائرتهم. وعندما وقعت دعاء أسود في حب شاب سني، أصبح مستقبلهم كئيب، حيث واجهوا الغضب من عائلتها، خاصة عمها وبعض أبناء عمها. كما قام والد دعاء بأخذها خلسة من منزلها في بغداد ليضعها تحت حماية أحد رجال الدين اليزيدي في بشيكة. وبعد أسبوع واحد من الأمان، تم اختطافها بواسطة أقربائها وتم دفعها في منتصف حشد عنيف كان في انتظارها في شوارع هذه القرية.
في 7 أبريل/نيسان، 2007، سُحِبَت دعاء من رقبتها، وهي مرتدية فقط ملابسها الداخلية، وسط حشد قدر وفقا لأحد التقارير بما يعادل 1,500 رجل، جميعهم يصرخون من أجل إهدار دمها. ثم تم إلقائها على الأرض وتقوقعت من أجل حماية نفسها من الطوب والحجارة التي يتم إلقائها عليها من الحشود الغوغائية المجتمعة. وتم إلقاء قطعة من الحجارة على رأسها فتوقف جسمها عن الحركة. ولكن ذلك لم يوقف وابل الحجارة الذي ظل يمطر على جثمانها. وبعد أن توقفت الحشود المهللة عن إلقاء الأشياء عليها، قاموا بحرق جسدها ودفنوها بجانب كلب للتدليل على وضعها كعار على أسرتها ودينها. ولازال صديقها مختبئا خوفا على حياته. هذا العمل الوحشي ما هو إلا نتيجة مأساوية للتعصب الديني الذي يدنس الشرق الأوسط. واقعة أن دعاء أسود وقعت في حب شاب من ديانة مختلفة كان أمرا يهدد أعضاء طائفتها - من ضمنهم أعضاء عائلتها - بحيث أصبح قتلها أمرا واجبا من أجل حماية قدسية الدين اليزيدي. وهو أمر غير مفهوم أن يندفع جيران دعاء وأفراد عائلتها نحو ارتكاب هذا العمل المشين. و هذا المثال من العنف والتطرف المبالغ فيه يحمل دلالة واضحة على كيفية سيطرة التعصب الديني المتزايد على عقول الناس بحيث أصبح يودي بهم إلى ارتكاب أفعال غير عقلانية. وبينما يعد العنف ضد أعضاء الدين الآخر من الأمور الشائعة في الشرق الأوسط، فإن قصة دعاء اسود لم تكن معلومة على الإطلاق خارج حدود عائلتها ومواطنيها. ولكن نفس معجزة التقنية الحديثة التي التقطت إعدام رئيس دولتها السابق، وهي جهاز الجوال، هي التي سجلت واقعة قتلها الشنيعة. وبواسطة البث على الإنترنت والإبراز والتدقيق من ال سي.إن.إن، فإن التصوير الحيّ لهذا الرجم الشنيع قد شاهده الملايين، وساعد على جذب انتباه العالم إلى التعصب الديني الذي شجع عليه. وحالة دعاء أسود فريدة أيضا في أنها أشعلت ما يسمى بالهجومان الانتقاميان. في الأولى، والتي وقعت بعد أسبوعين من رجم دعاء أسود حتى الموت بواسطة أعضاء من أسرتها وعشيرتها الدينية، فإن أكثر من 20 رجل يزيدي جذبوا من أتوبيس بواسطة مجموعة من السنة وصُفوا في مواجهة الحائط وقتلوا رميا بالرصاص بمنتهى الوحشية. وفي اليوم التالي، تم استهداف مكتب سياسي كردي بسيارة مفخخة بالألغام، وأعلنت القاعدة مسئوليتها عن الهجوم قائلة إن أفعالها رد على قتل دعاء أسود. والآن اليزيديون في كل أنحاء الدولة يخشون المزيد من الانتقام، خاصة في الموصل التي قُتل فيها مجموعة الأتوبيس وفُجرت فيها السيارة المفخخة ومن سخرية القدر،فإن بشيكة والتي يمثل اليزيديين 70% من عدد سكانها كانت تعرف بأنها جزيرة التسامح الديني والسكينة في بلاد مزعها النزاع الطائفي والديني. واندلاع التعصب الديني وتصاعد العنف هز القرية الصغيرة، كما أنه للأسف مؤشر على الحالة في كافة أنحاء الشرق الأوسط.
القاهرة
يوم الجمعة، 11 مايو/مايس، 2007 إنفجرتْ الفوضى والعنفِ في قرية بمها. الأقليةَ القبطيَة كَانَت تخطّطُ لبناءَ مكان للعبادةِ المسيحيةِ وانتشرت الإشاعات بأنّ المسلمَين كَانَوا يُخططون للهجومَ على الجاليةِ المسيحيةِ ردَّاً على خططِهم. تم إخطار الشرطة مساء الخميس وطَلبتْ أَنْ تَكُونَ على أهبة الاستعداد، لكن بشكل نموذجي، عندما سُألوا المساعدة من قبل الجماعة المسيحية، لم يفعلوا أي شيء. وبحلول صباح الجمعة، تم قطع الكهرباء وإمدادات المياه و خطوط الهواتف عن المناطق المسيحية. وتم تطويق الطرق وأغلق الجسر الوحيد المؤدي إلى القرية وعزل السكان عن احتمالية تلقي أي مساعدات خارجية أو التغطية الإعلامية. وعلى الرغم من أن رجالِ الدين المسلمينِ وقوّاتِ الأمن المحليّةِ قد أقرا بناءَ الكنيسةِ في 2005، فإن العمل في البناء توقف في تلك السَنَةِ، ولم يستكمل منه غير الأساسات. وبعد سنتين كاملتين، تم التوصل إلى اتفاق من أجل مواصلة بناء الكنيسة. وهذا أغضب السكان المسلمين المقيمين في المنطقة. وعلى هذا، وفي عصر تلك الجمعة الحاسمة وزعت نشرات في المساجد المحلية تعلن بأن بناء كنيسة مسيحية واحدة في القرية التي تضم 13 مسجدا سوف يمثل هجوما مباشرا على الإسلام. وحُرِض المسلمون على العنف ضد نواة الكنيسة ومنازل وأعمال المسيحيين في بمها.
وهاجت في شوارع القرية مجموعة من الغوغاء تصل إلى 2,000 شخص، مسلحين بالكيروسين والسكاكين والمناجل والطوب وبعض الأدوات الأخرى التي تستخدم في التدمير، وقاموا بحرق عدة منازل ومحلات عمل وأصابوا عدد من المسيحيين. الضرر النقدي قدر بحوالي 500,000 جنية مصري، ولكن خسائر المجتمع القبطي من ناحية الأمن والكرامة والأمل لا يمكن تقديرها.
وزيادة الطين بله، رتّبتْ الحكومة المحليّة "مصالحة" بين المسيحيين والمسلمين في بمها، حيث ألزموا المسيحيين التنازل عن كافة المطالب النقدية الناتجة عن الهجوم وأن يوافقوا على عدم توجيه اتهامات ضد الجناة. الأقباط أجبروا مرة أخرى على تجنب العدالة لكي يحافظوا على السلام وأملا في منع أي اعتداءات مستقبلية.
ولكن هذه الحالة أثارت الغضب بين الجالية القبطية العالمية. ولكن للأسف فهذه حالة أخرى من الحالات التي تجيز فيها الحكومة - أو على الأقل تتسامح في - العنف والظلم الذي يرتكب ضد الأقلية الدينية في مصر. عقود من الهجوم على المسيحيين وخسائر مادية لا تحصى وجرائم قتل غير حصرية أصبحت أمرا عاديا في هذه الدولة.
تخيل حجم الكراهية التي اندلعت في قلوب ال 1,500 شخص في بشيكة بحيث دفعتهم إلى مهاجمة فتاة لا حول لها ولا قوة في السابعة عشر من عمرها لكي يرجموها حتى الموت. وكيف يمكن للإشاعات عن بناء كنيسة واحدة في قرية يوجد بها 13 مسجد كافيا لإثارة العنف والهياج المدمر من الجموع على جيرانهم في بمها؟ . ففي كلتا هاتين الحالتين، المسألة التي مرت دون أن يلاحظها كل من اشتركوا في هذا العنف، هي كيف يمكن للمعتدين في كلتا الحالتين أن يشعروا بتهديد شديد بحيث أصبح القتل والتدمير هو الخيار الوحيد؟.
ما ينبغي فحصه وتمحيصه من بغداد إلى القاهرة والنقاط التي توجد بينهم هو طاعون التعصب الديني والكراهية الذي أصاب الشرق الأوسط. عندما يكون الرد على الفعل غير متكافئ كما هو الوضع في الحالات السابقة، فإن ذلك دلالة ظاهرة بأن هناك شيء خطأ في المجتمع. والغلظة الغير مبررة للردود نفسها وحقيقة أن تلك الردود يتم التسامح فيها من جانب المجتمعات والحكومات التي تمت فيها سوف يمثل جرس إنذار شديد. ويبدو أن مرض التعصب الديني ينتشر بخباثة في كافة أنحاء الشرق الأوسط وتأثيره يزداد بسرعة شديدة.
التعصّب الديني تولد من شعور الفرد بأن معتقداته أفضل من معتقدات أي فرد أو مجموعة أخرى. ففي منتصفِ القرنِ العشرينِ، ظَهرتْ مجموعتين اعتقدتا أن طريقةَ حياتهم ورؤيتَهم كَانتْ إلى حد بعيد أرفع من الأخرى. في الشرق الأقصى، أمضت الإمبراطوريةَ اليابانيةَ عقودا طويلة في محاولة فرض سيطرتها على الصينيين من خلال الغزوات والمعارك والمناورات السياسية. دفعهم للإمبرياليةِ في الصين والتصميم على فرض وإعلاء طريقة معيشتهم أدت إلى اندلاع الحرب الصينية اليابانية الثانية. الأحداث النابعة من السياسات اليابانية عجلت دخولهم في الحرب العالمية الثانية وأدت إلى سقوط القنابل الذرية في النهاية على هيروشيما وناجازاكي.
وعلى الجانب الآخر من العالم، أعتقد أدولف هتلر وحزبه النازي أن نظامهم الاجتماعي هو الأعظم بين كافة الأنظمة الأخرى وأنهم من أعضاء جنس يتفوق على باقي البشر بحيث يحق لهم حكم الآخرين. وحاول هتلر الهيمنة على كل أوروبا ثم أخيرا العالم كله من خلال الغزو العسكري واستعباد وإبادة الأجناس. وقد أعتنق الملايين أفكاره المتعصبة المتعلقة بتفوق جنسه وأدت بالتالي إلى الأهوال التي شهدتها الحرب العالمية الثانية. التعصب الديني والعرقي لهتلر أدى مباشرة إلى مقتل 6 مليون يهودي بالإضافة إلى عشرات الملايين من الجنود والمدنيين.
يحتاج الشرق الأوسط إلى النظر للخلف والتعلم من أخطاء الآخرين. فترك العنان للتعصب الديني يعني بدون شك اللعب بنفس النار التي لعب بها اليابانيين والنازيين. فتركه بدون سيطرة، سوف يؤدي إلى انتشاره واكتسابه القوة والوحشية، والنتائج سوف تكوم مأساوية لمنطقة الشرق الأوسط والعالم.
وباعتبار مصر القائد التقليدي في مجال الفن والعلوم والثقافة والاقتصاد، وباعتبارها أكثر الدول تأثيرا في العالم العربي، وجب عليها أن تكون رائدة في وضع معايير العدالة والمساواة والتسامح الديني حتى يتم الإقتداء بها من قبل دول الجوار. تاريخيا، تنظر بعض الدول لمصر باعتبارها نموذجا يقتدى فيما يتعلق بكيفية معاملة مواطنيها بمن فيهم الأقليات الدينية والأثنية.
إذا قامت الحكومة المصرية باتخاذ خطوات إيجابية من أجل اقتلاع شر التعصب الديني وأثاره الغاشمة - التي غالبا ما تكون قاتلة - فإذا أثبت رائد العالم العربي أنه لن يقف مكتوف الأيدي أمام التمييز والعدوان ضد الأقليات، فإن الدول الأخرى في المنطقة سوف تنتهج ذات النهج. إذا نجحت مصر في التوصل إلى علاج لمرض التعصب، فسوف تنتهي دائرة التعصب وتتحسن حياة المسيحيين والمسلمين على حد سواء. وذلك سوف يفتح الباب لكي يعيش الناس الذين ينتمون لديانات وأعراق مختلفة مع بعضهم بانسجام ويشعروا بأنهم أطراف متساوين داخل مجتمعهم ودولتهم. وإذا أصبحت مصر رائدة في إنشاء طريقة حياة قائمة على المساواة والتسامح بحيث يمكن للمسلمين والمسيحيين أن يعيشوا في سلام، فسوف ينتشر هذا العلاج في جميع أنحاء الشرق الأوسط ويمحو سرطان التعصب الديني إلى الأبد.
* رئيس التجمع القبطي في الولايات المتحدة.