كتَّاب إيلاف

الكآبة، مرض العصر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في العيادة النفسية جلست صديقتي السيدة (ف) تنتظر دورها. بعد دقائق أطلت الطبيبة الشابة دكتور "مارثا" وابتسامة عريضة تنير وجهها الفتي: -مسز(ف) أعتقد أنه دورك الآن.
وفي الغرفة الأنيقة الرحبة بادرتها قائلة: كيف أستطيع مساعدتك؟
كانت أفكارالسيدة (ف) مضطربة تماما إضافة لشعورها بالحرج أنها ترتاد "عيادة نفسية"، أجابت بجمل مبتورة:
أحتاج لمساعدتك..أنا متعبة.. منذ أيام وأنا لا أستطيع النوم..
أجهشت بالبكاء لثوان، ثم ما لبثت أن استدركت: آسفة فأنا حقا متعبة.
شيء من التعاطف التمع في عيني دكتور مارثا الزرقاوين، وكثير من الحماس للحالة المرضية التي هي بصددها. سألتها وهي تقرب إليها علبة المناديل الورقية:
هل يمكن أن تحكي لي قصتك؟
تعود مأساة السيدة(ف) إلى عشرين عاما، وعندما كانت في الثامنة عشر من عمرها فقد تزوجت من رجل يكبرها بعشرين عاما ونيف، وكانت الزوجة الثالثة.
في السنين الأولى من زواجها، كانت منصرفة إلى الشراء.. شراء الملابس والأحذية والعطور والمجوهرات، وكانت تجد متعة كبيرة في التسوق، ومع مرور الوقت بدأت متعتها هذه تخبو وتفقد بريقها ولم تعد تملأ لها فراغ عيشها، فزوجها منصرف معظم الوقت إلى عمله وتجارته وجمع فلوسه، وهي منصرفة إلى إنفاق الفلوس.
في ذات صباح استيقظت واكتشفت أن هنالك هوة سحيقة من الخواء والعدم في نفسها.
زادت (ف) من جرعة التسوق وأخذت تمعن في اقتناءالكماليات واللهاث وراء الموضة، ولكن ذلك لم يعمل على ملء خواء روحها ولم يعطها أي شحنة دفء وعندما كانت تقضي أماسيها وحيدة أمام شاشة التلفاز وتقفز بين محطاتها بنزق كانت تشعر بنفسها لاتزيد عن أي قطعة أثاث في منزلها العامر.
ابتدأت (ف) رحلة الأرق والعذاب فابتدأت بتناول الحبوب المهدئة والمنومة ولكن عقلها ظل متيقظا قلقا يرفض رياح الصقيع القطبي الذي يعصف بحياتها.. إضافة لذلك شعور الغربة المر بعد قرار الهجرة إلى كندا.اختتمت (ف) قصتها: وهاأنذا لا أنال في ليلتي سوى ساعة أو ساعتين من النوم المضطرب المتقطع.
كانت دكتور "مارثا" تجري بأناملها بسرعة فائقة على جهاز اللاب توب الذي أمامها، رفعت رأسها فجأة ثم سألتها: هل جربت الصلاة قبل ذهابك للفراش؟
بوغتت السيدة (ف) حقا ولم تتوقع أبدا من الطبيبة الكندية "مارثا "حلا كهذا الذي طرحته، ومع أنها كانت تصلي فعلا إلا أنها لم تدرك آنذاك لم لم تساعدها صلاتها لحل مشكلة الكآبة التي تعاني منها.
ضحكت دكتور مارثا لدى ردة فعل مريضتها وحال الدهشة والاستغراب الذي اعتراها وأردفت: المهم أن تصلي إلى حال من الاستسلام والتركيز حتى تساعدي دماغك للتخلص من أغلال الكآبة.ألا تسمعين عن رياضة العصر "اليوغا"؟
ودعتها دكتور مارثا بود وبشاشة وهي تسلمها الوصفة الطبية علاج كيميائي للاكتئاب لتعديل المزاج وإدخال الانشراح للنفس ثم تمنت لها الشفاء، وطلبت منها البقاء على تواصل لمعاينة طبية أخرى.
الحقيقة أن الاكتئاب هو من أخطر تظاهرات العصر، ولا يكاد ينجو منه أحد، وأخطر تجلياته الميل للانتحار. والكآبة هي اضطراب تواصل الخلايا العصبية، فتقود إلى خلل في مركب خماسي من " التفكير" و"المزاج" و"المشاعر والعواطف" و"التصرفات" و"الخلل الفيزيائي" كما أن هنالك خمس مؤشرات من أصل ثلاث عشر عرضا للاكتئاب يجب النظر إليها بجدية، مثل التعب والأرق والقلق والتفكير بالموت وفقد الرغبة بالحياة والانسحاب والشعور بالذنب أو أنه لا قيمة له وفقد أو زيادة الوزن وانعدام الشهية وتدني الرغبة الجنسية وكل سر الدماغ هو في فهم الكيمياء التي تتخلله فالعلاقة بين النورونات، أي الخلايا العصبية، هو تفاعل معقد كهربي كيماوي، وهو لب التعقيد في فهم المادة العصبية.
واليوم يعرف علماء الأبحاث العصبية، أن كل خلية عصبية لها آلاف الاتصالات بزميلاتها، وفي نقطة الاتصال ينفرغ جيب (سينابس)، بمواد كيماوية، فيحصل التفاهم بلغة سرية، مثل لغة الكلام، بأربعين حرفا من أربعين تركيبا كيماويا، تمر عبر أقنية خاصة ( أقنية الأيونات)، تنفتح وتنغلق مثل البوابات، فيتم ولوج مواد لغة التفاهم الكيماوي، مثل ( النورايبينفرين) و(السيروتونين) من خلية لأختها، والتي يؤدي تدنيها عن المعدل إلى عدم انفتاح أقنية الأيونات هذه واضطراب تواصل الخلايا العصبية سوية وإصابة المريض بالاكتئاب.
عندما وقفت مريضة الاكتئاب السيدة (ف)، مساء ذلك اليوم لصلاة العشاء وبعد انقضاء الركعة الأولى تذكرت فجأة نصيحة د. "مارثا" واكتشفت أن الركعة الأولى من صلاتها قد انقضت دون أن تعي ما كانت تتلو، وعندما قامت للركعة الثانية أخذت تتلو ببطء وتمعن:" بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".. بل لقد أعادت الآية مرارا. وعندما هوت للسجود وكان من عادتها أن تقضيه في ثوان أسلمت جبهتها وكفيها وركبتيها وقدميها لأديم الأرض،وتركت أعضاءها المتوترة المتشنجة تغوص طويلا في البساط تحتها،وأسلمت عقلها المتعب الغاضب الحائر إلى الواحد الذي لا شريك له وأخذت في التركيز تماما فيما تنطق: سبحان ربي....
كانت وصية الدكتورة مارثا الطبية للسيدة (ف) في ال (submission والـ(meditation) (الاستسلام ) و(التركيز) تنسجم تماما مع جوهر الإسلام ووعد الله سبحانه لأولئك المخلصين لوعده في التسليم والتوحيد بحياة كريمة حرة من أغلال الخوف والحزن العاطفتان المدمرتان للإنسان. تمددت على الأرض بعد الصلاة وأخذت تعد على أناملها سبحان الله والحمد لله..... وإن هي إلا هنيهات حتى استسلمت لسبات عميق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف