خداع اللّغة
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من هنا كانت اللّغة بوابة لأصحاب النّوايا السّيئة، ومطيّة لذوي الشّهوات والمنازع والرّغبات!
وطالما أنّ الكلام لا يستقيم بدون شواهد معضدة، فلا مناص - حلوة لا مناص هذه - من إيراد الشّواهد، وبالمثال يتّضح المقال.
يُروى أنّ أحدهم صرخ بوجه خادمه قائلاً: ألم آمرك أن تعود بسرعة؟ فردّ عليه الخادم: بلى، ولكنّك لم تأمرني أن أذهب بسرعة!
طبعًا واضح أنّ الخادم بليد، لكنّه وجد في براعة اللّغة وضبابيّتها "مخرجًا"!
ولماذا نخرج بعيدًا وعندنا مثال ورد في كُتب البلاغة، حيث وجد معاوية بن أبي سفيان في براعة اللّغة وبلاغتها مخرجًا من الإدانة، والقصّة كما يلي:
ورد في الأثر أنّ "عمّارًا تقتله الفئة الباغية"، وكان عمّار من أنصار عليّ بن أبي طالب، فلمّا خرج الأوّل مع الثّاني لقتال معاوية، قتل عمّار، ففرح أتباع عليّ لأنّ مقتل عمّار يثبت أنّ طائفة معاوية هي "الفئة الباغية"، ولمّا بلغ معاوية ذلك قال مباشرة: إنّما قتله من أخرجه للقتال" يقصد بذلك الإمام علي رضي الله عنه.
وتُروى قصّة لطيفة عن شرطي سأل أحد المتّهين قائلاً: أين تسكن؟ فقال المُتّهم: أسكن مع أخي، فأردف الشّرطي بسؤال آخر: وأين يسكن أخوك؟، فردّ المتّهم: يسكن معي.. عند هذا الحدّ قذف الشّرطي سؤاله الثّالث بغضب: وأين تسكن أنت وأخوك؟ ولم يعدم صاحبنا البرود فقال: نسكن معًا!!
ماذا تُسمّي هذا.. "لكاعة" أم براعة لغويّة، أم استبلاه أو لؤم لفظي؟!
ومن بديع ما يُروى: أنّ أحدهم قال: لقد تنبّأ العرّاف بأنّي سأموت على فراشي، فردّ عليه صديقه: وماذا ستفعل؟ فردّ عليه بقوله: بدءً من هذه اللّيلة سأنام على فِراش أخي!
وفي سجلّ المحامين نجد بعض براعة المجيبين، أو لنقل "عباطة المتكلّمين"، حيث سأل المحامي الشّاهد قائلاً: هل رأيت بأمّ عينك المُدعى عليه يضرب المُدّعي؟ فقال الشّاهد: نعم سيّدي المحامي! فقال المحامي: وهل كان الضّرب بنيّة سيّئة؟ فقال الشّاهد: كلا، بل كان الضّرب بقضيب من حديد!
ومن طرائف براعة اللّغة أنّ أحد المدرّسين ألقى درسًا على الأطفال في وجوب الصّلاة، وبعد أن انتهى، توجّه بسؤال لأحد التّلاميذ قائلاً: ماذا نفعل كي يغفر الله ذنوبنا؟ ففكّر الطّفل مليًّا، والمُدرّس يستحثّه على الإجابة، وأخيرًًا قال الطّفل في وداعة وبراءة: يجب أن نُذنب أولاً!
وتمضي الأمور مع خاصيّة التّلاعب بالكلمات، واستغلال الثّغرات اللّغويّة "الهائلة"، ولمَ لا، طالما أنّ الكلمات حمّالة أوجه، والمفردات "شيّالة" معاني!
ومن الغرائب أنّ الميوعة في اللّغة العربيّة كثيفة، لدرجة أنّك تلحظها في كلّ يوم، وتقرأها في كلّ ناحية، ومن ذلك أنّ إحدى الصّحف في الوطن العربي نشرت تصريحًا تقول فيه: إنّ نصف وزراء الحكومة الجديدة لصوص..
فاحتجّت النّيابة العامّة على التّقرير، وهدّدت الصّحيفة بمقاضاتها في المحاكم إن لم تصدر تكذيبًا للخبر، وفعلاً أذعنت الصّحيفة واعتذرت عن السّهو المطبعي بقولها: "والحقيقة هي أنّ نصف الوزراء ليسوا لصوصًا"!
ومن براعة اللّغة في تحقير الخطايا، والحطّ من شأن الذّنوب ما يُروى عن أعرابي أنّه قيل له: كيف حالك مع دينك؟ فقال: بخير، أُمزّق ديني بالذّنوب، وأُرقّعه بالاستغفار! فللّه درّ هذا الأعرابي كيف أدرك أن الذّنوب تمزّق المرء فعلاً، وتجعله مهمومًا مغمومًا ممزقًا، لا يُجدي مع هذا التّمزّق إلّا الاستغفار انطلاقًا من قول الحقّ جلّ وعزّ: (ألا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ)!
ومن فذلكة اللّغة أنّ أحدهم تزّوج امرأة قبيحة غبيّة، فسألت ذات صفاء قائلة: أجبني بصراحة.. أيّهما تُفضّل: المرأة الجميلة أم المرأة الذّكيّة؟ فأجابها بابتسامة: لا هذي ولا تلك.. فأنا لا أُحبّ سواك!
ومن الميوعة اللّغويّة التي تُمارس الضّرب تحت الحزام ما يُروى عن الشّاعر حافظ إبراهيم أثناء مداعبته لشاعر الأمراء أحمد شوقي، وكان الثّاني جارحًا في ردّه على الدُّعابة، ففي إحدى المناسبات أنشد حافظ إبراهيم هذا البيت يستحثّ شوقيًّا على الخروج من رزانته المعهودة في طبعه، قال حافظ غامزًا بشوقي:
يَقُولُونَ إنَّ الشَّوْقَ نَارٌ ولَوْعةٌ
فَمَا بَال "شَوْقِي" اليَوْمَ بَارِدَا!!
فردّ عليه شوق بأبيات قارصة جاء فيها:
وأَوْدَعتُ إنْسانًا وكَلبًا وَدِيْعَةً
فَضَيَّعَها الإنْسَانُ والكَلْبُ "حَافِظُ"!!
هذه نماذج صغرى من الفجوات اللّغويّة، والخروقات اللّفظيّة، التي قد يفسّرها "محسنو الظّنّ" بأنّها من مزايا اللّغة وبراعة اللّسان، وقد يفسّرها ماكرو النّيّة وفاحشو القصد بأنّها مخرجًا للحيلة ومنفذًا للنّصب والاحتيال!!
Arfaj555@yahoo.com
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف