كتَّاب إيلاف

محاكمة الكاتب

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

محاكمتان، أثرتا بي بشدّة؛ الأولى، ما يُعرف بـ " قضية ساكو وفانزيتي "، والثانية محاكمة المغضوب صدّام حسين! القضية الأولى، شغلت العالم في العقد الثاني من القرن العشرين؛ تماماً كما كانه حال مثول ديكتاتورنا العراقي أمام العدالة، في مستهل هذا القرن الجديد. من جهة اخرى، فإنّ " ساكو وفانزيتي "، كان عنواناً لفيلم سينمائيّ، إيطاليّ، تسنى لي حضوره في بداية السبعينيات، المنصرمة، وهو من بطولة الممثل العظيم جيان ماريا فولونتي؛ أحد نجومي المفضلين آنذاك، وكان مشهوراً بأدواره في الأفلام السياسية الموضوع، فضلاً عن شعبيته المترسّخة عالمياً وخصوصاً مع تحفة الكاوبوي، " من أجل حفنة من الدولارات ". وحكاية الفيلم الأول، بإيجاز شديد، تتمحور حول مهاجرَيْن إيطالييْن إلى الولايات المتحدة؛ عامليْن فقيريْن، بالكاد الواحد منهما يجدُ لقمة كفاف لعائلته، وإذا به في يوم من الأيام على موعد مع البوليس، ليعلم أنه متهم بجريمة قتل وسطو مسلح. قضية العاملين ساكو وفانزيتي، قدّر لها أن تضحي مناسبة ً لمحاكمة النظام الأمريكيّ برمته، والذي كان آنذاك قائماً على سياسة التمييز العنصريّ، البغيضة؛ لا بل، ومحاكمة المجتمع ككل، المتواطيء مع تلك السياسة والمتضامن معها. الكاتب أيضاً، وجد نفسه على مرّ التاريخ، معرضاً للمحاكمة؛ شاعراً كان أم روائياً أم فيلسوفا. وأنا لا أعني هنا، بطبيعة الحال، حالة الراحل صدّام حسين؛ مع إحترامي لمواهبه الفكرية والأدبية!.. لندع الطغاة، إذاً، يسرحون ويمرحون في جنان النعيم، ولنتابع قضية المدعو ـ فلان الفلاني ـ بإعتباره كاتباً. وكنتُ هنا، في هذا المنبر الكريم، قد تناولت جوانبَ من القضية تلك، محتسباً إياها قضية رأي عام؛ قضية كل من ينتمي للمشرق في هذا المهجر، البائس. ويحق لبعض القراء الأكارم، هنا أيضاً، أن يعبروا عن ضجرهم أو إستيائهم مما قد يعتبرونه " عضّ اليد المحسنة "، أو " تشويه صورة جنة النعيم، الأوروبية ".. الخ. وعلى كل حال، فمن الصعب أن تطلب من الإنسان أن يكون منصفا، ما دام الآخرون على إصرارهم في العدوانية، غير المبررة بحال. على المنقلب الآخر للقضية، ثمة ذلك المبرر لما نتعرضُ له نحن؛ معشر أمة لا إله إلا الله.. الخ! ـ وأعني به، خطر الإرهاب والتطرف، المضطرد التصاعد والمتهدد الغرب في عرينه، أو مصالحه هنا وهناك على أطراف المعمورة. هكذا سببية، ربما لا تحظى بقبول بعضنا، بل وتستدعي إستهجانهم؛ وتحديداً، من لدن أصحاب يافطة " المؤامرة الكبرى ". إذا جاز لي إستئذان ذاكرتكم، فالمقال السابق كان تناهى بنا إلى حيث تنتهي قضايا العالم، أجمع؛ وأعني بها، المحكمة. المحقق، المتوسط السن، الذي فجأني بحضوره بلا أيّ موعد مسبق، كان في جعبته مفاجأة ثانية، أدهى. وتشديدي على الرقم، متأتٍ لما سيأتيني من بواطن جعبته تلك: فهو قادم للتحقيق معي، بسبب ما راح يقرأه أمامي من " تهديد بالقتل لإمرأة وطفلها، في حال لم تترك هي سكنها "!.. حينما كان يتلو عليّ لائحة الإتهام، المفبركة، لاحظتُ مدى الحقد الضاري، المنبعث من صوته وعينيه، على السواء: " يا ذا الشعر الأسود الـ.. تقتعد حضننا وتنتف بذقننا! "، هكذا، على الأرجح، كانت دواخله تردد. بدوري، رحتُ أدفع التهمة معتبراً إياها بدون أي أساس. وذكرته بحقيقة بسيطة، وهي أنني من كان طوال السنوات الفائتة، يتقدم بالشكاوى مرة تلو الاخرى. " آآآ، نعم! وحينما لم يأبه أحدٌ بشكاواك، قد بادرتَ إلى التهديد.. مفهوم، مفهوم!! "، قال لي الرجل بكل ثقة. ولم يكتفِ بذلك، بل وسألني بعدئذ ما إذا كنتُ من أصحاب السوابق؟ كان يجب أن يكون، فعلاً، أعمى البصر والبصيرة، كيما يوجه لي هكذا سؤال: شقتي آنذاك ـ المتواضعة كصاحبها ـ كانت مفتوحة الباب على حديقتي الأثيرة، المزدهرة في أوان الربيع بأزاهيرها وتعريشاتها وخمائلها. أما الصالون، حيث إقتعد كلانا على الأريكة الجلدية، فكان يحتبي مرسماً ويفضي، بدوره، لمكتبي. محققنا، العتيد، لم يبدِ أيّ إكتراث بما حوله؛ أو ربما زاده ذلك يقيناً بصفتي، الإجرامية، المموّهة بتلك الإكسسوارات: " هل لديكَ شاهدٌ ما، يمكنني الإتصال به؟ "، سألني وهو ينفخ بضجر. أجبته جازماً، بأنه لديّ مائة شخص يشهدون على ما تعرضتُ له وأطفالي، طيلة خمسة أعوام، من مضايقات أولئك الجيران. وإذا به يفجؤني بالقول، محتداً: " أذكر لي إسم شاهد واحد فقط، فليس لديّ الوقت لإستجواب أمة إيران كلها، المقيمة في اوبسالا!! ". قلنا قبلاً، أنّ شكاويّ بحق الجيران، المحترمين، إضطردت وتعددت. لماذا لا تقول، أنّ ذلك وحده كان سبباً كافياً لإثارة شركة السكن عليّ؛ فهذا يكلفهم مالاً مضاعاً، كما صرّح لي رئيس الشركة، بنفسه! وبما أن القضية هذه، قد أحيلت للمحكمة، فسأعرض لكم الوقائع التالية وبإيجاز شديد ما أمكن. وقبل كل شيء، يجدر الملاحظة بأنّ الموظف الموتور، الذي لفق لي قضية التهديد تلك، هوَ نفسه من كان فيما سلف يتلقى شكاويّ ويتجاهلها. حتى وبلغت القحة بجارتي، ما غيرها، أن أعلنت أمامه في إجتماع ضمنا سوية ً، أنها حرة في بيتها ولا تسمح لكائن من كان بتقييد حركتها! وقاحتها، الموصوفة، تمادت إلى حدّ أن تشتم ذات ليلة متأخرة، صاخبة بموسيقاها ورقصها مع أصحابها، الخفيرَيْن المكلفين بالتحري عن هكذا مخالفات؛ مما أجبرهما ذلك على إستدعاء رجال البوليس. إنها عينة واحدة حسب، من عشرات مماثلة، لم تكن كافية لتحريك شعرة في ضمير ـ كذا ـ صاحبنا الموظف المسؤول. هذا الأخير، وجدَ أنّ من واجبه حضور محاكمتي، بصفة الشاهد الوحيد، ضدي. الجلسة الأولى، الإفتتاحية، تمّ تأجيلها بسبب قدومي بدون محام. وإرتأت القاضي، بعد إستشارتي طبعاً، إلى تعيين رجل يتولى الدفاع عني. في الجلسة تلك، حاولتُ الإعتراض على طريقة التحقيق. فقالت لي القاضي، بلطف، أنّ وقتا مديداً أمامي في الجلسة المقبلة، لقول ما أريد: هذا الوقت، الموعود، لن يتاح لي، أبداً. المهم، أنّ لديّ الآن محامياً، وعليّ تحديد موعد معه. كان شاباً، في مقتبل العمر، وقد إستقبلني في مكتبه بمركز المدينة وإستمع إليّ بلا مبالاة. لقائي معه، الأول، حملني على التشاؤم وإنتظار الأسوأ. أما الثاني، فقد حصلت عليه بمشقة: " ماذا تريد مني؟ نعم، أعرف أنك حدثت السكرتيرة عن إثباتات جديدة، مهمة. ولكن، أما كان بإمكانك وضعها في المكتب، لديها؟! "، راح يجيبني على الهاتف، متأففا، متذمراً. قبيل بدء الجلسة المنتظرة، جاء رجل حليق الرأس وقدّم لي نفسه بصفة " المدّعي العام ". كانت لهجته مهذبة، ولكنها حازمة: " لا تقلق. ربما يحكمونك بتعويض بسيط؛ وهذا ما تريده المدّعية! ". هذه الجملة، المفيدة، سمعتها حرفياً، تقريباً، من لدن محاميّ. " هذا لا يُبشّر بالخير "، رددتُ في أعماقي، متوجّساً. ولكنني، للحق، كنت على خطأ بيّن. فمحاميّ لا يُشبه المدّعي العام بشيء؛ بل شُبّه لي ذلك: فهوَ قد بقيَ صامتاً طوال الجلسة، العتيدة. في جموده، الدائب، كان لا يُشبه في الحقيقة سوى أحد أعمدة القاعة الرخامية، الجميلة. أما المدّعي العام، فلم يدخل لسانه في حلقه إلا لكي يبتلع ريقه. إكتفى محاميّ، كيلا أظلمه، بثلاثة أسئلة: الأولى، للمدعية؛ إذ أراد معرفة ما إذا كانت قد غيّرت رقم هاتفها وجعلته سرياً. الثاني، كان سؤالاً موجهاً لي؛ فيما إذا كنت أعتبر نفسي بريئاً. أما الثالث، يا أخا العرب، فتوجه به صاحبنا للقاضي؛ وكان حول سيارته، وما إذا كان يجب عليه إحتساب الكراج على حساب القضية الكردية.. أعني، القضية الميقرية!؟ من ناحية اخرى، فما كان للمدّعية ـ وهيُ جارتي المحترمة، السويدية، ما غيرها ـ سوى إثبات موهبتها بالتمثيل. فبدون أن يرف لها جفن حياء، راحت تسرد نفس الوقائع التي سبق أن ذكرتها أنا، مراراُ وتكراراُ، أمام البوليس والنحقيق؛ الوقائع نفسها، نعم، ولكن بإعتبارات معكوسة، بطبيعة الحال! وكما بكى " ساكو " في محاكمته ـ بحسب ذلك الفيلم الإيطالي، الموسوم آنفا ـ رأيتُ دموعي تنهمر مدرارة، ما أن وصلتُ في مرافعتي، المبتسرة، لذكر ولديّ ومعاناتهما طوال سنواتٍ مع جيرة السعد. " هل أنتَ هكذا، دوماً، بهذه المشاعر الرهيفة!؟ "، يأتيني سؤالُ الخصم. معك كلّ الحق، يا مدّعي الملائكة والقديسين: فما نحن، ذوي الشعر الأسود، بعد كل شيء وقبل كل شيء، سوى سلالات إجرام، عريقة؛ محترفي قتل ولصوصية وشغب وفوضى.. وما نحن، أبناء الجالية المسلمة، المتخلفة، في بلدكم، الأرقى، أكثرَ من دعاة ورعاة وأداة تطرف وإرهاب. ولكن لم يُتح لي الردّ على الرجل؛ فقد علقت القاضي الجلسة لإستراحة قصيرة.

للقضية بقية..

Dilor7@hotmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف