كتَّاب إيلاف

ماذا قال لورانس للعرب في تحذيراته...

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ماذا قال لورانس للعرب في تحذيراته ولماذا ندم ونستون تشرشل على ذهابه

الأميركيون والانكليز درسوا تجربة العراق ولم يتعلموا منها


يعجب المرء لكثرة وعمق الدراسات والتعليقات والتصورات التي صاغها قادة السياسة والفكر والابحاث والشؤون العسكرية والاستراتيجية والامنية في بريطانيا واميركا حول العراق، من حيث اهميته الاستراتيجية، وحول اسباب فشل الاحتلال البريطاني والمعالجات البريطانية للشأن العراقي منذ عشرينات القرن الماضي. والاشد عجباً انه بعد الاحتلال الانكلو ـ اميركي الحالي للعراق، وهو ثاني احتلال غربي من نوعه في غضون ثمانية عقود، يبدو ان قادة هذا الاحتلال الجديد لم يتعلموا شيئاً من تجربة الاحتلال الاول، سواء من حيث المضمون او من حيث اساليب التصرف.
ففي العام 1919، كتب ضابط الاستخبارات البريطانية تي. إي. لورانس الملقب باسم "لورانس العرب" يقول: "في نهاية المطاف سوف تكون بغداد لا دمشق مركز الاستقلال العربي، بالنظر الى ان مستقبلاً كبيراً ينتظر بلاد الرافدين، بينما احتمالات تطور ونمو سوريا ضئيلة".
وفي رسالة خاصة وسرية بعث بها لورانس الى اللورد كيرزون وزير الخارجية البريطانية آنذاك بتاريخ 27 ايلول/ سبتمبر من عام 1919، يقول لورانس: "العرب يتمردون عليك اذا حاولت ان تسوقهم بالقوة. انهم كاليهود عودهم صلب. لكنك تستطيع ان تقودهم اينما شئت بغير القوة، خصوصاً اذا اظهرت لهم انك تسير معهم يداً بيد. ان مستقبل بلاد الرافدين عظيم الى درجة انه اذا استملناهم حبياً وبالحسنى نستطيع ان نستميل معهم الشرق الاوسط بأكمله".
لكن الادارة السياسية البريطانية، سواء في لندن او في العراق، كانت تتصرف دائماً على اساس ان العراق مستعمرة بريطانية، وهو من الاسباب الرئيسية التي الهبت "ثورة العشرين" ضد الاحتلال، الى جانب اسباب اخرى محلية وخارجية.
ويروي الصحافي الاميركي لويل توماس انه شهد مرة لقاءً بين اللورد كيرزون وبين لورانس، حيث وقف وزير الخارجية البريطاني يلقي على الضابط الشاب الواقف امامه محاضرة عن الشرق الادنى، وهو من اكبر المرجعيات حول الموضوع، فاستمع له لورانس قدر ما استطاع، لكنه في النهاية قاطعه قائلاً له: "لكنك يا سيدي لا تعرف ماذا تقول".
وابلغ لورانس اللورد كيرزون والوزراء الذين التقاهم، حسب الصحافي الاميركي المذكور، "انكم لا تفهمون حجم الورطة التي وضعتمونا فيها جميعاً". وعندما اندلعت الثورة العراقية ضد الاحتلال بتاريخ 26 ايار/ مايو من عام 1920 ابتداء من تل عفر بالقرب من الموصل، لتمتد بسرعة الى منطقة الفرات الادنى بعدما داهم الجيش البريطاني وقوامه 80 الفاً من الانكليز والهنود، وشردوا اهالي تل عفر جميعاً الى الصحراء، ثم الى سامراء الى الشمال من بغداد، لم يبق سلاح لدى جيش الاحتلال الا واستخدم ضد الثوار العراقيين، حتى انه جرى تفكير باستخدام الغازات السامة والاسلحة الكيماوية، وهي فكرة جربها فيما بعد في جبال العراق وزير الحرب البريطاني ونستون تشرشل الذي اصبح رئيساً للحكومة عند اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وكانت اساليب القمع والتدمير التي استخدمها جيش الاحتلال شرسة وغير اخلاقية بحيث ان لورانس اعتبر في مقال صحافي له تعليقاً على احداث العراق ان ابادة المتمردين بالغاز السام، كطريقة لاستتباب الحكم، "لن تكون اسوأ اخلاقياً من الاساليب المتبعة حالياً".
وكما يقول اليوم ناقدو السياسة التي اتبعها رئيس الحكومة البريطانية المستقيل طوني بلير في العراق، قال لورانس في محاضرة له في جامعة اوكسفورد عن سياسة رئيس الحكومة لويد جورج ووزير خارجيته اللورد كيرزون بعد ثلاثة اشهر فقط من اندلاع الثورة العراقية "لقد ساقوا الشعب الانكليزي الى فخ من الصعب الهروب منه بكرامة وشرف".
ومن يتأمل في الوضع العراقي اليوم، خصوصاً لجهة معالجة الرئيس جورج دبليو بوش بارسال دفعة جديدة من القوات العسكرية على امل تهدئة الوضع وتسهيل اقامة طويلة للاميركيين في العراق، ثم يراجع المعالجة البريطانية لـ"ثورة العشرين"، يصاب بالدهشة لكون القائمين على السياسات العامة في واشنطن ولندن لم يتعلموا شيئاً من التجارب السابقة في العراق، خصوصاً ان ثوار العراق في العشرينات استمدوا جانباً من مبررات ثورتهم من المبادئ الاربعة عشر التي اطلقها الرئيس الاميركي وودرو ويلسون في اعقاب الحرب العالمية الاولى.
لكن شتان ما بين مبادئ الرئيس ويلسون وبين تصور الكولونيل ويلسون، القائم باعمال المندوب السامي البريطاني في بغداد الذي كتب في برقية الى حكومته في لندن بعد شهر واحد من "ثورة العشرين" ما يلي: "يجب ان نكون مستعدين لتقديم كل ما يلزم من رجال ومال لادامة سيطرتنا لسنوات عديدة قادمة. ويجب ان نقيم هذه الاستعدادات بصرف النظر عن عصبة الامم وعن العملية البطيئة عبر المؤسسات الدستورية او الديموقراطية. اما اذا ارتأت حكومة صاحب الجلالة ان هذه السياسة غير عملية او تفوق قدراتنا، فان الاحرى بها ان تواجه البديل وهو الانسحاب من بلاد الرافدين". وكما يرفض الرئيس بوش الآن اي دعوة للانسحاب من العراق، او حتى وضع جدول زمني لمثل هذا الانسحاب، كذلك رفضت الحكومة البريطانية البديل الذي اقترحه الكولونيل ويلسون، وكان الرد في الحالتين مماثلاً تقريباً. فقد عينت الحكومة البريطانية آنذاك السير بيرسي كوكس مندوباً لها لمعاجة الوضع العراقي سياسياً، في الاطار ذاته تقريباً الذي قام فيه الرئيس جورج دبليو بوش بتعيين الجنرال دايفيد بيترايوس قائداً للقوات الاميركية في العراق لمزيج من المعالجة السياسية والعسكرية.
والاسباب الموجبة التي ساقها معارضو الانسحاب البريطاني من العراق بفعل "ثورة العشرين"، يسوقها اليوم معارضو الانسحاب الاميركي في واشنطن، وهي ان البديل سوف يكون اسوأ من الوضع الراهن، بل اسوأ من الوضع السابق. وفي تلك المرحلة من العشرينات كانت السيدة جيرترود بيل (الملقبة بملكة الصحراء)، التي شغلت منصب المسؤول السياسي البريطاني في العراق، من اشد معارضي الانسحاب فكتبت تقول: "اذا تركنا هذه البلاد تذهب الى الكلاب، فان علينا ان نعيد النظر في مجمل اوضاعنا في آسيا. اذا ذهبت بلاد الرافدين ذهبت بلاد فارس، ثم ستذهب الهند حتماً. والمكان الذي سنتركه حالياً سوف تملأه سبعة شياطين هي اسوأ بكثير من تلك التي كانت قائمة قبل مجيئنا". وكان ذلك اول اشارة الى الاسلاميين المتطرفين والقوميين الشموليين.
ولذات الاسباب التي انتشر فيها العنف خلال "ثورة العشرين" في المنطقة الواقعة بين بغداد والفلوجة، انتشر العنف في السنوات الاخيرة في تلك المنطقة التي يطلقون عليها باللغة الدارجة الآن "المثلث السنّي". فكما بدأت احداث الفلوجة الاخيرة باطلاق القوات الاميركية النار على المتظاهرين سلمياً من اهالي البلدة، اتسعت "ثورة العشرين" لتشمل تلك المنطقة بعد الاعمال الانتقامية التي قامت بها القوات البريطانية رداً على مقتل الكولونيل الانكليزي جيرالد ليشتمان المكلف بدفع الاموال لتهدئة القبائل على يد الشيخ ضاري.
وحتى الاسماء تبدو متشابهة، بل متطابقة، بين الامس واليوم. فالشيخ ضاري الذي فجر الجانب السنّي من الثورة هو جد الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين الذي يقود اليوم المعارضة السنّية للاحتلال الاميركي. اما مقتدى الصدر قائد "جيش المهدي" المعارض للاحتلال الاميركي من الجانب الشيعي فهو سليل السيد محمد الصدر زعيم "حزب النهضة" المناوئ للاحتلال البريطاني من الجانب الشيعي.
والغريب في الامر انه ظهر بين الباحثين الاميركيين من اهتم بالعراق والتجربة البريطانية فيه، بما في ذلك "ثورة العشرين"، قبل الاحتلال الاميركي الراهن بسبعة عقود على الاقل. ومن ابرز الدراسات الاميركية هذه تلك التي اعدها الديبلوماسي فيليب آيرلاند بعنوان "العراق ـ دراسة في التطور السياسي"، نشرت عام 1937، قال فيها ان الرأي العام العراقي كان يعتبر قادة الانتفاضة او المشاركين فيها من الابطال، والذين سقطوا في المعارك من الشهداء، وكانت الصدارة السياسية لاولئك الذين كان ولاؤهم للقضية الوطنية قبل الانتفاضة وخلالها.
وكأنما كان الكولونيل ويلسون، القائم السابق باعمال المندوب السامي البريطاني في بغداد، يصف المحافظين الجدد في ادارة الرئيس بوش الحالية بقوله ان تلك المشكلات التي عصفت بالبلاد ثقيلة وسريعة حركها اناس معينون "اكثر طموحاً واقصر نظراً، اضيق صدراً واقل حكمة وصبراً"، فتحولت انتفاضة الشعب العراقي الى "حركة ثورية متعصبة ومتطرفة وفوضوية".
وفي تلك المرحلة اليائسة فكر ونستون تشرشل باستخدام الغازات السامة والاسلحة الكيماوية لاخماد الثورة، وذلك قبيل نقله من وزارة الحرب الى وزارة المستعمرات لتناط به معالجة الوضع العراقي. وكتب له زميله وزير الخارجية رسالة ساخرة حول الموضوع قال له فيها: "ينوي رئيس الحكومة ارسالك الى بلاد الرافدين، الى الاجواء التي انطلق منها نبوخذنصر، وداريوس، واحشويروس، وغيرهم من الابطال العسكريين في الماضي. وآمل ان تطلع بافكار سليمة حول اهمية الشرق الاوسط. لكن مهما فعلت فاياك ان تحذو حذو الاسكندر المقدوني الذي اعتبر ان بابل كبيرة عليه". وكان واضحاً ان المهمة شاقة، وان اقامة دولة عصرية في مجتمع متنافر امر من رابع المستحيلات. فالاكراد لا يقبلون بحاكم عربي، والشيعة لا يقبلون بالهيمنة السنّية، ولم يتصور احد بعد قيام حكومة لا تنطوي على هيمنة سنّية.
لكن اهمية الدور الكبير الذي لعبه تشرشل، بالاضافة الى اختياره مجموعة واعية وملمة بالموضوع لتقدم له المشورة، تكمن في انه اعتبر نفسه تلميذاً يرغب تعلم الدرس بعقل صاف، او "عقل بكر"، على حد تعبيره، لا تخالطه افكار مسبقة. وبالفعل كان اول عمل اقدم عليه تشرشل بعد تكليفه بالملف العراقي هو ابعاد الجيش عن الموضوع الامني وتكليف سلاح الجو بهذه المهمة، ودعا الى مؤتمر حول العراق عقد في القاهرة حضره كافة المسؤولين والمستشارين المعنيين بالشأن العراقي حيث تقرر تنصيب امير هاشمي ملكاً على العراق. وكان تشرشل قبل ذلك قد انشأ في وزارته دائرة مختصة بشؤون الشرق الاوسط اختار لادارتها رجلاً يتقن اللغة العربية اسمه هيوبرت يونغ الذي كان يعتبر في حينه حجة ومرجعاً في شؤون العراق والمنطقة العربية.
وروى يونغ ان تشرشل دعاه مرة الى الغداء بعد تعيينه في منصبه الجديد وسأله سؤالاً مباشراً: لو اعطيت كل القدرات والصلاحيات فماذا تفعل في الشأن العراقي؟
ورد عليه يونغ بسؤال حول ما اذا كان مستعداً للدفاع عن العراق ضد هجوم معاد، فأجابه تشرشل بأنه يعتقد بضرورة التمسك ببغداد، فشرح له يونغ ان ذلك ليس هو المقصود بالسؤال، بل القصد هو ما اذا كان مستعداً للدفاع عن جميع الحدود البرية للعراق اذا لزم الامر بكامل قدرات الامبراطورية في وجه هجوم من قبل تركيا او غيرها من دول الجوار. فقال له تشرشل ان هذا لا يمكن الاجابة عنه في فترة الغداء، فرد يونغ بأنه لا يستطيع ان يجيب عن سؤاله ما لم يجب عن هذا السؤال!
ولدى استفتاء العراقيين حول الاقتراح بتنصيب الامير فيصل الهاشمي ملكاً على العراق فاز الاقتراح بنسبة 96% من الاصوات. وعلى ذلك علق الدكتور جون كاي في كتابه "زرع الريح" عن التجربة العراقية بالقول: "كان ذلك يمثل انقلاباً مدهشاً، لأن الاستفتاء الذي اجراه الكولونيل ويلسون قبل ذلك كانت نتيجته الرفض القاطع من العراقيين لتنصيب اي أمير. بل ان رفع اي شعار هاشمي خلال "ثورة العشرين" كان يعد خيانة وطنية. اما بعد سنة واحدة فقط، اي في العام 1921، فقد نال الامير الهاشمي الذي اصبح ملكاً على العراق اجماع النخب العراقية ذاتها. والخلاصة هي اما ان يكون قادة الرأي في العراق على درجة استثنائية من التقلب، او انه تم التلاعب بنتيجة الاستفتاء، وهو الارجح. فحتى ذلك الوقت فان معايير الشعبية التي تزيد على 90% لم يكن معترفاً بها كامتياز حصري للانظمة الديكتاتورية البغيضة. وبالنسبة الى العراق لم يكن ذلك مدخلاً سعيداً الى العملية الديموقراطية، وبالنظر اليه نظرة فاحصة من المستقبل، فانه لم يكن ايضاً سابقة مشجعة".
فالنظام التشرشلي الذي اقيم في العراق، حسب رأي المؤرخة فيبي مار في كتابها "تاريخ العراق الحديث"، لم يكن نظاماً للحكم بقدر ما كان وسيلة للسيطرة. فقد خلق البريطانيون واجهة مؤسسية مهيبة لكن بغير جذور ضاربة في الارض.
لقد شغل العراق كامل وقت تشرشل تقريباً في وزارته الجديدة فلا عجب انه لم يطلع خلال تلك الفترة بأي كلام مأثور كالذي اشتهر به من قبل ومن بعد الا كلمته النهائية في الموضوع العراقي بقوله: "لقد دفعنا ثمناً باهظاً لقاء الجلوس على فوهة بركان عاق وناكر للجميل، كنت اتمنى لو اننا لم نذهب الى ذلك المكان ابداً".
لمزيد من التفاصيل عما حدث في تلك المرحلة يمكن العودة الى العدد 91 لشهر آب/ اغسطس 2004 من "الديبلوماسي"
المتضمن معالجة لتقرير تاريخي لم تستوعبه ادارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش تحت عنوان "العراق وبريطانيا وتشرشل في العشرينات".


* عودة ابو ردينة باحث اميركي من اصل عربي، متخصص في شؤون الشرق الاوسط، وله مساهمات كتابية في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية والنفطية. وهذا المقال تنشره " ايلاف" بالاتفاق مع تقرير " الديبلوماسي" الصادر في لندن ( العدد 117 -لشهرحزيران/يونيو 2007)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف