قاموس التخلف: غياب المشروع القومي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تعبير حديث الاستخدام في اللغو الثقافي العربي الراهي يعد التفسير المشترك لكل أزماتنا العامة أو النوعية.
أصبح رصد الأزمات وتعدادها وتصنيفها رياضة ثقافية عربية من الطراز الأول. وللحديث عن الأزمة علينا أن نختار قطاعاً معيناً ونبين أن الأداء الواقعي فيه هو دون مستوى الأداء المفترض والمأمول. وعلى هذا الأساس نجد من يحدثنا عن أزمة السينما أو أزمة التعليم أو أزمة الترجمة أو أزمة الفكر الديني. وعندما يتطرق الحديث إلى سبب كل أزمة من هذه الأزمات فإننا كثيراً ما نسمع عبارة تحظى بالتقدير والاحترام وهي "غياب المشروع القومي".
ولعل رواج هذا التعبير في فكرنا المعاصر يرجع تفسيره إلى أنه يؤدي أدواراً شتى من التعمية والمظهرية البلاغية الجوفاء والحنين إلى الماضي. وللوقوف على مدلول كل هذه الأدوار يمكننا أن نتصور أن شخصاً يتعرض لأزمة الأغنية المعاصرة فنجده يتحدث عن ضياع النغم الأصيل وتفاهة الكلمات والخلاعة..إلخ. وهذا الكلام لا يختلف عما يقولونه سائقو التاكسي أو رواد الحانات أو الموظفون. ولكنه حينما يعزو ذلك إلى غياب المشروع القومي نجده قد بدأ يطرح نفسه بوصفه من أصحاب البصيرة النافذة والرؤية الاستراتيچية والتحليل العميق. وما يجوز على الأغنية يجوز على الترجمة أو على المشاركة السياسية، وهكذا مهما تنوعت ضروب الأزمات فإن غياب المشروع القومي يصلح تفسيراً لها جميعاً.
وتقول القاعدة المعرفية "إن ما يصلح تفسيراً لكل شيء لا يفسر أي شيء". وبالتالي فهذا التعبير لا يفسر شيئاً على الإطلاق ولكنه بالإضافة إلى ذلك معوق ضد البحث عن الأسباب الحقيقية للأزمات وأداة من أدوات التعمية السياسية والثقافية: فهو أولاً، يقوم على نمذجة مرحلة من الماضي دافعاً إلى الظن بأن كل شيء فيها كان يسير على ما يرام بالرغم من أن نقد هذه المرحلة "النموذجية" يعد شرطاً ضرورياً لكل تقدم. وثانياً، هو تفسير يجعل من الصعب تعيين أي مسئول عن الخلل. فبلورة هذا المشروع القومي ليس مسئولية الحكومات، إذ ما عسى أن تفعل حكومة لا يكون الشعب معبئاً وراءها؛ وليس مسئولية الشعب الذي لا يدرك طبيعة الأوضاع العالمية المعاصرة ورهانات القوى الاستراتيچية وملامح العالم المقبل؛ أما المثقفون فهم لا يكفون عن بلورة مشاريع قومية متضاربة تقهرها الحكومات ويعرض عنها الجمهور. وهكذا في النهاية نجد أنفسنا أمام سبب للأزمات يصعب تعيينه ويكتسى بملامح السر الصوفي الذي لا نعرف متى يغيب ومتى يحضر. وهكذا يمكن لنا ترجمة عبارة "غياب المشروع القومي" عندما تقال بعد الحديث الفياض عن أي أزمة بعبارة أخرى هي "علينا أن ننتظر الفرج" والذي يمكن أن يتجسد في شكل زعيم ملهم ترسله الأقدار يمكنه فك شفرة أحداث العالم المعقدة ويقود الأمة قسراً إلى نهضتها.
والسمة الثالثة المرتبطة بهذا التعبير هي أنه ينبع من نظرة شمولية خلدونية أو هيجلية ترى أن كل قطاعات المجتمع تنهض وتزدهر معاً وتتدهور جميعاً معاً. وبالتالي تغيب التفاوتات بين قطاع ناجح ينجز مهامه الاجتماعية باقتدار وآخر فاشل فاسد يمكن إصلاحه دون أن ننتظر بلورة المشروع القومي.
وعلينا في النهاية أن ننظر إلى البلاد المتقدمة منذ قرون والبلاد الأخرى التي تقدمت منذ عدة عقود في الغرب أو الشرق ونتفحص صحفها وكتابات مثقفيها لنكتشف غياب هذه الرطانة البلاغية عن المشروع القومي والتي نجدها تملأ جميع وسائل الإعلام عندنا.
بالطبع يمكن أن نستنتج من خلال دراسة التطور الاقتصادي الاجتماعي لبلد ما بأن قطاعاتها تتحرك في تناغم من أجل تحقيق هدف معين. ولكن أساس هذا التناغم هو الجدية في العمل وأن يؤدي كل قطاع المهام التي عليه أداؤها. وأن يعالج الخلل بحزم وفي الحال، لا أن يرجئ كل شيء لحين أن تتم بلورة مشروع قومي لا يوجد أي مسئول عنه.
ولهذا السبب فإننا نرى أن تعبير "غياب المشروع القومي" هو مناورة سياسية الهدف منها الحد من المطالبة بإصلاح الواقع المتدهور، أو هو في أحسن الأحوال أحد تجليات الكسل الفكري المزدهر في ثقافتنا المعاصرة والذي يعفينا من مغبة البحث عن سبب واقعي وملموس لأزماتنا العديدة.