لماذا محمود درويش في حيفا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لا فُضّ فو أبي تمّام الّذي صرّح منذ زمن بعيد: "كَمْ مَنْزلٍ في الأرْضِ يَأْلَفُهُ الفَتَى - وَحَنينُهُ أبَدًا لأوّلِ مَنْزلِ"
قبل أسبوع بالضّبط كنتُ تطرّقتُ هنا في مقالة بعنوان "مأساة العرب جبن مثقّفيهم" إلى محمود درويش منتقدًا نصًّا تافهًا له، كان نشره في بعض الصّحف العربيّة تعقيبًا على ما جرى في غزّة. وها أنذا أجدني الآن مضطرًّا إلى التّطرُّق إلى قضيّة جديدة أُثيرت معها تساؤلات كثيرة حول زيارته المزمعة إلى حيفا، ولكنّ كلامي هذه المرّة يأتي دفاعًا عنه وعن خطوته.
***
في الحقيقة، لا أدري لماذا كلّ هذا اللّغط وتفاهات الكلام المصبوب على الحفل الّذي سيحييه الشّاعر في قاعة حيفاويّة؟ أعجب من هؤلاء الّذين يصبّون الآن عليه جام غضبهم لقبوله إحياء أمسية في حيفا، معلّلين ذلك بأنّه قادم بإذن إسرائيلي. وكأنّ الإذن بالوصول إلى حيفا والجليل وإسرائيل، بنظر هؤلاء المغرضين الأغبياء، الموجودين بين ظهرانينا وبين ظهرانيهم، سيأتيه من سلطات "الأمّة العربيّة البائدة ذات الرّسالة الدّائدة"؟
فعندما يهرب مراهقو العروبة ومعهم مراهقو الإسلام للاحتماء بـ"جزيرة" العرب المعولمة الجديدة، رأس حربة المحافظين الجدد في إشاعة "الفوضى البنّاءة" في هذه الرّبوع، فماذا تراهم قائلين لأتباعهم الّذين أدمنوا على استهلاك الشّعارات الّتي تُدغدغ عواطف العربان الجيّاشة، وكيف سينظر إلى هؤلاء المراهقين أتباعُهم من الموهومين بالمخدّرات البلاغيّة الّتي رضعوها وترعرعوا عليها كابرًا عن كابر وخلفًا عن سلف.
***
ولكي أضع النّقاط على الحروف المبهمات، أقول إنّ لهذه القضيّة المثارة الآن ثلاثة أوجه:
الوجه الأوّل:
إنّ غالبيّة أولئك الصّارخين، من البرّانيين، الّذين يذمّون محمود درويش على قدومه إلى حيفا، إنّما يفعلون ذلك لأمر آخر هو أبعد من كلّ ذلك التّسطيح الكلامي الّذي ظهر ويظهر في الصّحافة العربيّة. إنّهم في حقيقة الأمر لا يفهمون ما يجري في هذا المكان. بل أذهب أبعد من ذلك فأقول، إنّ المبادرة إلى هذه الأمسية من قبل الأهل في الوطن الّذي، وبعون "أمّة الرّسالة البائدة"، صار اسمه إسرائيل، وفوق كلّ ذلك فإنّ مجرّد موافقة السّلطات الإسرائيليّة ومنحها الإذن للشّاعر، الّذي أضحى رمزًا للهويّة الفلسطينيّة والشّعر الفلسطيني "المقاوم"، بإحياء أمسية في إسرائيل ذاتها، تقلب على هؤلاء عالمهم الموهوم الّذي ترعرعوا بين جدرانه البليدة، فلا يدرون ما هم قائلون ولا يدرون ما هم فاعلون بين ظهراني دكتاتوريّاتهم السّياسيّة والثّقافيّة. لقد وجد هؤلاء المتقومجون، القدماء منهم والجدد، أنفسهم أمام ظاهرة عصيّة على الفهم، فلسان حالهم يقول: كيف ذا يكون هذا؟ إسرائيل هذه، الّتي طالما وصفوها بـ"دولة الكيان"، و"دولة العصابات"، إلى آخر هذه التّوصيفات العربيّة، تُعطي إذنًا لدرويش، رمز المقاومة وفلسطين و..و.. بإحياء أمسية في حيفا! كيف يكون هذا؟ هذه هي حقيقة هؤلاء القابعين في بلاد العربان، أو الهاربين من ديار إسلامهم وعروبتهم "العامرة" بدءًا من تطوان وصولاً إلى لبنان وانتهاءً بالسّودان، بحثًا عن الأنعام والعيش بأمان في ديار البيضان، "ديار الكفر والبهتان".
وإذا كنتُ أرثي لحال هؤلاء "البرّانيّين" الّذين لا زالوا يعتاشون على فتات الأوهام المتبقّية في جعباتهم، فإنّني لا أفهم هؤلاء الصّارخين من مراهقي العروبة "الجوّانيّين" الّذين يقسمون يمين الولاء لدولة إسرائيل في الكنيست ثمّ يبيعون النّاس "جوزًا فارغًا" تحت مسمّيات العروبة ومشتقّاتها البليدة.
فيا أيّتها العروبة الوهم! أيّتها العروبة الشّعار الّذي صار وأمسى وأضحى (بالإضافة إلى كلّ أخوات وإخوة كان) كاتمَ عقلٍ على رؤوس العربان! كم من الموبقات تُرتكب باسمك!
الوجه الثّاني:
إنّ خطوة درويش هذه هي تكملة طبيعيّة لتوقُّف مجلّة "الكرمل" عن الصّدور. ليس صدفة أنّ درويش قد اختار هذا الاسم للمجلّة الّتي ارتبطت باسمه طوال هذه السّنوات. الحقيقة الّتي يجب أن تُقال هي أنّ درويش لم يغادر الكرمل والجليل أبدًا، بل حمل هذا المكان معه من خلال الاسم الّذي اختاره لمجلّته. قد يكون رحل وهاجر من هذا المكان طوعًا قبل حوالي عقود أربعة بحثًا عن أضواء، غير أنّ الحنين إلى هذه البقعة، هذا الحنين - الدّاء والدواء في آن معًا - لم ينضب لديه. بل أغلب الظنّ أنّ درويش، وبعد هذه العقود من الدّوران في عالم أوهام العربان، قد بدأ يأكل أصابعه ندمًا على تلك الخطوة المراهقة الّتي قام بها قبل عقود في سنّ تتّسم بنزق الشّباب. لقد عبّر درويش عن ذلك النّدم في العام 1996في مقابلة مع هليت يشورون، محرّرة مجلّة "حداريم" الأدبيّة العبريّة. فحين تسأله المحرّرة: "هل كانت لديك لحظات ندم على الخطوّة الّتي قمت بها؟" يردّ درويش: "الآن، ربّما نعم. لكن من ناحيّة تطوّري الشّعري، فأنا غير نادم. اليوم ما كنت لاختار الهروب". لقد مضت تلك الحقبة إلى غير رجعة، ومعها ذهبت أوهام تلك الأيّام أدراج الرّياح.
لقد ترك درويش الكرمل جغرافيًّا، غير أنّه حمله معه على أجنحة الاستعارات من خلال نصوصه ومن خلال المجلّة الّتي ارتأى لها هذا الاسم بالذّات. الأسماء لا تُعطى صدفةً. إنّها جزءٌ حيّ ممّن يُطلقُها، لأنّها تشي بشيء مهمّ في دواخل مُطلقها. لقد كانت "الكرمل" هذه جزءًا من درويش ذاته، غير أنّ الكرمل-الجغرافيا- لم يكن جزءًا من المجلّة. وعندما عاد درويش، مع من عاد، عقب اتفاقيّات أوسلو، فقد وجد نفسه قاب قوس أو أدنى من هذه الجغرافيا الّتي حملها معه استعاريًّا، فأثقل الأمر على كاهله سنة تلو أخرى. ولذلك، على ما يبدو، فقد قرّر، في نهاية المطاف، هجر هذه الاستعارة المُنهِكَة. وقد يكون هذا هو السّبب الخفيّ والعميق وراء توقّفه عن تحرير المجلّة وتوقُّفها عن الصّدور.
الوجه الثّالث:
وهنالك وجه آخر لهذه القضيّة له علاقة وثيقة بما سبق، وهو وجه متعلّق بجوهر إدراكنا نحن العرب لمصطلح "وطن". ففي ذات المقابلة مع هليت يشورون يقول درويش: "زرتُ جزءًا من الوطن. شعرتُ غريبًا جدًّا في غزّة". وفي مقابلة أخرى مع آدم شاتس، نشرت في النيويورك تايمز سنة 2001، فإنّ درويش ذاته، الّذي عاد بعد اتّفاق أوسلو للعيش في رام الله (أي في فلسطين)، يقول بالحرف الواحد: "لم أكنْ في الضّفّة الغربيّة من قبلُ، (ولذلك) فإنّها ليست وطني الشّخصي (private homeland). بدون ذكريات لا توجد علاقة حقيقيّة مع مكان ما". والمعنى العميق لهذا الكلام الصّادر عن درويش هو أنّه، ورغم أنّه يعيش في فلسطين، فهو يشعر بالغربة. وبكلمات أخرى فإنّ درويش هذا، الّذي أضحى رمزًا للوطنيّة الفلسطينيّة، يكشف بهذا الكلام حقيقة لا يمكننا الاستمرار في كنسها وإخفائها تحت بساط الشّعارات المدغدغة للعواطف. فإذا كان "شاعر فلسطين" يشعر بالغربة في فلسطين هذه الّتي يعيش فيها، فمعنى ذلك أن انتماءه العاطفي هو إلى خارج هذه الـ"فلسطين". وليس الكلام الآخر الشّائع عن فلسطين هذه سوى شعارات كاذبة لا تصمد عندما "تدقّ ساعة" الحقيقة.
لقد آن الأوان لأن نتصارح في ما بيننا وعلى الملأ. إنّ هذه النّظرة إلى معنى الوطن ليست إشكاليّة درويش وحده، إنّها إشكاليّتنا جميعًا نحن العرب وعلاقتنا نحن بما نعنيه بالمصطلح "وطن" وبحدود هذا الوطن الّذي نتحدّث عنه؟ فلنتوقّف، إذن، عن الكذب على أنفسنا!
وفي الحقيقة، لا أدري لماذا يقول درويش كلّ هذا الكلام الصّريح بلغات الأجانب، ولا يقوله بلغة الأقارب من الأعارب؟ هل هو قدر العربيّ أن يسمع كلامًا صريحًا بلغات أخرى غير العربيّة؟ هل هذا هو قدرنا جميعًا؟ وإلى متى سنعيش في كيانات شعاراتيّة نبنيها بأيدينا نعتاش على أوهامها لا لشيء سوى لكونها جزءًا من شعارات "اللّياقة السّياسيّة" العربيّة والفلسطينيّة؟
حريّ إذن بنا، بعد هذه السّنين العجاف، أن نتصارح. لأنّ هذه هي الطّريق الوحيدة لكي نتصالح مع أنفسنا، لكي نكون نحنُ نحنُ، لا غيرنا، أنَّى رحلنا وأنّى حللنا.
***
وخلاصة القول:
فإنّ مجيء درويش إلى حيفا، الكرمل والجليل، إنّما هو عودة، ولو قصيرة، إلى مراتع الذّكريات، إلى هذه البقعة الصّغيرة الّتي يشعر فيها بأنّه في "وطنه الشّخصي"، وطنه الحقيقي البعيد عن الشّعارات. إنّها عودة، زيارة قصيرة، إلى المرتع الوحيد الّذي يراه درويش وطنًا وأهلاً. وعلى العموم هذا هو الوطن الحقيقي في نظر العربي، فهو ليس حدودًا سياسيّة، إنّما هو الحدود الّتي ترسمها العاطفة. وهذه العاطفة لا تتعدّى بضع عشرة كيلومترًا مربّعًا، مهما تبجّح بشعارات أخرى خلاف ذلك. والعربيّ الشّاعر، أكان عروبيّ الهوى أم فلسطينيّه، إنّما يلقي الكلام عن العروبة وفلسطين لمجرّد طرح الشّعار ليس إلاّ، وذلك ابتغاء الفوز بتصفيق من العامّة الّتي خدّرتها شعارات العروبة هذه فأضحت كواتم عقول على رؤوسها.
لذلك، فإنّ درويش عندما يأتي الآن إلى حيفا، إلى هذا الجزء من الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل بهمّة واعتراف العربان - بدءًا من "أمّ الدّنيا"، مرورًا بمملكة "بني هاشم"، عبورًا بمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة، وانتهاءًا بـ"قلب العروبة النّابض"، على ما يُشاع من همّة ذلك النّظام اللاّهث وراء أميركا لإجراء مفاوضات سلام بينه وبين إسرائيل - فإنّما هو يأتي إلى أهله وربعه في بداية وفي نهاية المطاف. إنّه يأتي إلى وطنه الصّغير، الوطن الحقيقي الّذي هجره منذ عقود، هذا الوطن الّذي لا وطن له سواه، على ما نفهم من كلامه الصّريح باللّغات الأجنبيّة على الأقلّ.
وإذا كان مراهقو العروبة، من صنف أولئك الذّاهبين إلى الحجّ بينما النّاس راجعة إلى الأوطان، لا يعجبهم هذا الكلام، فهنيئًا مريئًا لهم بجنان العربان!
***
وأخيرًا، ها أنذا أستعيرُ قريض الحمداني مسكًا لختام هذا الكلام:
أقُولُ وَقَـدْ نَاحَـتْ بِقُرْبِي حَمامَـةٌ - أيَا جَارَتَا! هَـلْ تَشْـعُرِيـنَ بِحَالـِي؟
أيَا جَارَتَا، ما أَنْصَفَ الدّهْرُ بَـيْنَنـا - تَعَالَـيْ أُقَاسِمْـكِ الهُمُـومَ، تَعَــالِـي
تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحـًا لَـدَيَّ ضَعِيـفَـةً - تَـرَدَّدُ فِـي جِـسْــمٍ يُــعَــذَّبُ بَـالـِـي
لَقَدْ كُنْتُ أَوْلَى مِنْكِ بالدّمْعِ مُقْلَـةً - وَلَكِنَّ دَمْعِي فِي الحَوَادِثِ غَالِي
والعقلُ وليّ التّوفيق.
salman.masalha@gmail.com