ما قبل ويست فاليا.. بعدها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الخط الفاصل الذي كان يميز بين الصراعات الداخلية والصراعات الدولية قد اختفى, أو أوشك على الاختفاء, وهو الخط الذي بقي واضحاً طوال القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب الباردة, إلى حد كبير. وبحسب المؤرخ الانجليزي اريك هوبسباوم في كتابه الاخير "القرن الجديد", فإن الجيوش الاجنبية لم تكن تعبر الحدود بدعوى حل صراع داخلي ينشب في نطاق دولة مستقلة ذات سيادة. وكان هذا يمثل القاعدة الذهبية للنظام الدولي, وهي قاعدة حققت استقراراً نسبياً للعالم, إلا أن موازينها قد اضطربت, وتآكلت فاعليتها منذ عام 1989, على نحو ما حدث في يوغوسلافيا سابقاً, والعراق الآن, والبقية تأتي. وهو يحذر من اننا سنواجه عملية ارتداد ونكوص الى قرون غائرة خلت, بسبب انحسار الموجة التاريخية الطويلة التي تدفقت نحو بناء "الدولة - الامة", وتدعيم قوتها, وهي الموجة التي بدأت منذ القرن السادس عشر واستمرت حتى عقد الستينات من القرن العشرين.
اول دلائل هذا الانحسار تمثل في ظهور تغير مهم, وهو ان المواطنين اصبحوا اقل استعداداً لإبداء فروض الولاء والطاعة لقوانين الدولة. ظهر ذلك في ثورة الطلبة في الكثير من العواصم الاوروبية ربيع عام 1968, وهي ثورات ناصبت العداء للمؤسسات الحاكمة القائمة آنذاك. إن قوة الدولة الحديثة بلغت ذروتها عندما كان الاحتجاج الاجتماعي يتم في الاطار المؤسسي, وباعتباره جزءاً من العملية السياسية, لكن هذا الامر انتهى في اوروبا في عقد السبعينات, والدليل الواضح على ذلك هو العجز في القضاء على الميليشيات المسلحة والمنظمات الارهابية داخل حدود الدولة, على رغم وجود حكومات قوية.
ويخلص هوبسباوم الى أن الحرب الباردة أدت, في شكل أو آخر, الى الاستقرار النسبي للعالم, وعندما وضعت اوزارها سادت العالم حالة من عدم اليقين, بخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, الذي اقترن بتدمير نظام العلاقات الدولية الذي كان سائداً, وبموجبه كان الجميع يعرفون قواعد اللعبة التي تم الاتفاق عليها بدءاً من معاهدة "وست فاليا" عام 1648.
فإذا كان نظام الدولة القومية الحديثة, اعتمد اساساً على مبدأ "السيادة" ووفقاً لوست فاليا, التي ربطت كلاً من السيادة القومية والهوية الوطنية بالصفة الاقليمية, أو قل ربطت السلطة بالمكان, واصبحت للدولة حدود معترف بها من جانب الدول الاخرى, فإن هذا الامر ظل على هذا المنوال حتى ظهر الناشطون غير الحكوميين الذي انتشروا في الانظمة الدولية بسرعة رهيبة, مما ادى الى التقليل من شأن مبدأ "السيادة" نفسه عن محيط التأثير في النظام الدولي.
لقد حل الاستقلال (استقلال هؤلاء الناشطين) محل السيادة, وصار الأفراد والمؤسسات والحركات يناضلون من أجل نيل حريتهم واستقلالهم عن سيادة الدولة, بل التنافس مع الدولة في الهيمنة على المواضيع الساخنة, والتسابق في ابرازها امام العالم عبر وسائل الإعلام والاتصالات.
ولأن أهداف تلك الأطراف المستقلة عن الحكومات لا ترتبط بمكان معين أو اقليم محدد, فإن مسألة "السيادة" الاقليمية اصبحت غير ذي بال, اذ أن اهدافاً مثل حماية البيئة او حقوق الانسان او الحرية الدينية لا تتطلب سيادة على منطقة معينة, بقدر ما تتطلب سيادة من نوع آخر: هو هيمنة هذه الاطراف على تلك الاهداف وترويجها إعلامياً.
هكذا تآكلت "السيادة" على جميع الجبهات, خصوصاً مع تطور حقوق الانسان, ومعايير التدخل لأسباب انسانية, بل إن البعض يرى أن نهاية نظام الدولة الوست فالي وبداية عصر ما بعد وست فاليا مرتبط بانقضاء فكرة "السيادة" اساساً.
على عكس هوبسباوم يذهب مواطنه المفكر السياسي هيدلي بول إلى أن الحل في العودة الى ما قبل وست فاليا, ولكن من منظور جديد, ففي محاولة لاستكشاف اشكال جديدة من النظام العالمي, رفض بول في مؤلفه "المجتمع الفوضوي" فكرة حكومة عالمية كبديل محتمل, او حتى كبديل مستصوب, لنظام الدول الوست فالي, ويدافع بقوة عن تصور بدأ يتردد في الساسة العالمية المعاصرة, هو تجسيد لنظام قروسطي جديد من الولايات القضائية المتداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددة. ففي هذا النظام, مثلاً, من شأن حكومة المملكة المتحدة ان تتقاسم سلطتها مع الادارات في ويلز, اسكوتلندا, يوركشاير, وأماكن اخرى, ومع سلطة اوروبية في بروكسيل فضلاً عن سلطة عالمية في نيويورك وجنيف. في هذا السيناريو تكون القوة - السلطة أفقية وليست رأسية, فمن هذا المنطلق تصبح فكرة سلطة سيادية واحدة تقيم في نيويورك عتيقة, واذا ساء هذا الوضع على النطاق العالمي, فإن من شأنه ان يشكل "نظاماً قروسطياً جديداً", خصائصه الاساسية شبكة من الولايات القضائية والولاءات المشتتة وغياب سلطة واحدة تتصرف بطريقة مبالغ فيها وتتمركز اقليمياً, وكما قال بول: "يمكن تصور اختفاء الدول ذات السيادة واستبدالها ليس بحكومة عالمية بل بمكافئ حديث علماني من نوع المنظمة السياسية العالمية التي كانت موجودة في العالم المسيحي الغربي في القرون الوسطى."
وهناك خمس سمات للسياسة العالمية المعاصرة - بحسب بول - تؤيد نوعاً ما هذا السيناريو الذي يتسم بالعودة الى المستقبل: ظهور التكامل الاقليمي, تآكل مفهوم الدولة, عودة العنف الدولي الخاص, نمو المنظمات التي تتخطى الحدود القومية, وعملية العولمة المتسارعة. وتمثل جميع هذه الاتجاهات البارزة تحدياً لنظرية الدولة التقليدية...وعلى رغم تشكك بول في شأن الأفول المطلق لنظام الدولة, والتزامه بالحيوية المستمرة للقواعد التقليدية والمؤسسات المقترنة بها, فإن الكثير من المنظرين المعاصرين يرون أن رؤيته لعالم قروسطي جديد في السياسة العالمية هو قيد التحقق اليوم.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressamabdalla@yahoo.com